القول في تأويل قوله تعالى : { وَاذْكُر رّبّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوّ وَالاَصَالِ وَلاَ تَكُنْ مّنَ الْغَافِلِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : واذكر أيها المستمع المنصت للقرآن إذا قرىء في صلاة أو خطبة ، رَبّكَ فِي نَفْسِكَ يقول : اتعظ بما في آي القرآن ، واعتبر به ، وتذكّر معادك إليه عند سماعكه . تَضَرّعا يقول : افعل ذلك تخشعا لله وتواضعا له . وَخِيفَةً يقول : وخوفا من الله أن يعاقبك على تقصير يكون منك في الاتعاظ به والاعتبار ، وغفلة عما بين الله فيه من حدوده . ودُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ يقول : ودعاء باللسان لله في خفاء لا جهار ، يقول : ليكن ذكر الله عند استماعك القرآن في دعاء إن دعوت غير جهار ، ولكن في خفاء من القول . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَاذْكرْ رَبّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرّعا وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ لا يجهر بذلك .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، قال : سمعت مجاهدا يقول في قوله : وَاذْكرْ رَبّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرّعا وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ . . . الاَية ، قال : أمروا أن يذكروه في الصدور تضرّعا وخيفة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن التيمي ، عن أبيه ، عن حيان بن عمير ، عن عبيد بن عمير ، في قوله : وَاذْكُرْ رَبّكَ فِي نَفْسِكَ قال : «يقول الله إذا ذكرني عبدي في نفسه ، ذكرته في نفسي ، وإذا ذكرني عبدي وحده ذكرته وحدي ، وإذا ذكرني في ملإ ذكرته في أحسن منهم وأكرم » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : واذْكرْ ربّك في نَفْسِك تَضَرّعا وخِيفَةً قال : يؤمر بالتضرّع في الدعاء والاستكانة ، ويكره رفع الصوت والنداء والصياح بالدعاء .
وأما قوله : بالغدُوّ والاَصالِ فإنه يعني بالبكر والعشيات . وأما الاَصال فجمع .
واختلف أهل العربية فيها فقال بعضهم : هي جمع أصيل ، كما الأيمان جمع يمين ، والأسرار جمع سرير . وقال آخرون منهم : هي جمع أصل ، والأصل جمع أصيل . وقال آخرون منهم : هي جمع أصل وأصيل . قال : وإن شئت جعلت الأصل جمعا للأصيل ، وإن شئت جعلته واحدا . قال : والعرب تقول : قد دنا الأصل فيجعلونه واحدا .
وهذا القول أولى بالصواب في ذلك ، وهو أنه جائز أن يكون جمع أصيل وأصل ، لأنهما قد يجمعان على أفعال . وأما الاَصال فهي فيما يقال في كلام العرب ما بين العصر إلى المغرب .
وأما قوله : ولا تَكُنْ مِن الغافِلِين فإنه يقول : ولا تكن من اللاهين إذا قرىء القرآن عن عظاته وعبره ، وما فيه من عجائبه ، ولكن تدبر ذلك وتفهّمه ، وأشعره قلبك بذكر الله وخضوع له وخوف من قدرة الله عليك ، إن أنت غفلت عن ذلك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : بالغدُوّ والاَصالِ قال : بالبكر والعشيّ . ولا تَكنْ مِن الغافِلِين .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا معرّف بن واصل السعديّ ، قال : سمعت أبا وائل يقول لغلامه عند مغيب الشمس : آصَلْنا بَعْدُ ؟
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد ، قوله : بالغدُوّ والاَصالِ قال : الغدوّ : آخر الفجر صلاة الصبح ، والاَصال : آخر العشيّ صلاة العصر . قال : وكل ذلك لها وقت أوّل الفجر وآخره ، وذلك مثل قوله في سورة آل عمران : واذْكُرْ ربّك كَثِيرا وَسبّحْ بالعَشِيّ والإبْكارِ . وقيل : العشيّ : ميل الشمس إلى أن تغيب ، والإبكار : أول الفجر .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن محمد بن شريك ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، سئل عن صلاة الفجر ، فقال : إنها لفي كتاب الله ، ولا يقوم عليها ، ثم قرأ : في بُيُوتٍ أذِنَ اللّهُ أن تُرْفَعَ . . . الاَية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سويد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَاذْكُرْ رَبّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرّعا وَخِيفَةً . . . إلى قوله : بالغُدُوّ والاَصَالِ أمر الله بذكره ، ونهى عن الغفلة . أما بالغدوّ : فصلاة الصبح ، والاَصال : بالعشيّ .
إقبال بالخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم فيما يختص به ، بعد أن أمر بما أمر بتبليغه من الآيات المتقدمة ، والمناسبة في هذا الانتقال أن أمر الناس باستماع القرآن يستلزم أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بقراءة القرآن عليهم قراءة جهرية يسمعونها ، فلما فرغ الكلام من حظ الناس نحو قراءة الرسول عليه الصلاة والسلام ، أقبل على الكلام في حظ الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن وغيره ، وهو التذكر الخاص به ، فأمر بأن يذكر الله ما استطاع وكيفما تسنى له ، وفي أوقات النهار المختلفة ، فجملة { واذكر ربك } معطوفة على الجمل السابقة من قوله : { إن وليي الله } [ الأعراف : 196 ] إلى هنا .
والنفس اسم للقوة التي بها الحياة ، فهي مرادفة الروح ، وتطلق على الذات المركبة من الجسد والروح ، ولكون مقر النفس في باطن الإنسان أطلقت على أمور باطن الإنسان من الإدراك والعقل كما في قوله تعالى حكاية عن عيسى { تعلم ما في نفسي } [ المائدة : 116 ] وقد مضى في سورة المائدة ، ومن ذلك يتطرق إلى إطلاقها على خويصة المرء ، ومنه قوله في الحديث القدسي في « صحيح البخاري » " وإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي وإن ذكرني في ملإٍ ذكرته في ملإٍ خيرِ منهم " فقابل قوله : في نفسه بقوله : في ملإ .
والمعنى : اذكر ربك وأنت في خلوتك كما تذكره في مجامع الناس .
والذكر حقيقة في ذكر اللسان ، وهو المراد هنا ، ويعضده قوله : { ودونَ الجهر من القول } وذلك يشمل قراءة القرآن وغيرَ القرآن من الكلام الذي فيه تمجيد الله وشكره ونحو ذلك ، مثل كلمة التوحيد والحوقلة والتسبيح والتكبير والدعاء ونحو ذلك .
و« التضرع » التذلل ولما كان التذلل يستلزم الخطاب بالصوت المرتفع في عادة العرب كني بالتضرع عن رفع الصوت مراداً به معناه الأصلي والكنائي ، ولذلك قوبل بالخُفيه في قوله { ادعوا ربكم تضرعاً وخفيةً } في أوائل هذه السورة ( 55 ) وقد تقدم .
وقوبل التضرع هنا بالخيفة وهي اسم مصدر الخوف ، فهو من المصادر التي جاءت على صيغة الهيئة وليس المراد بها الهيئة ، مثل الشدة ، ولما كانت الخيفة انفعالا نفسياً يجده الإنسان في خاصة نفسه كانت مستلزمة للتخافت بالكلام خشية أن يَشعُر بالمرء من يخافه . فلذلك كني بها هنا عن الإسرار بالقول مع الخوف من الله ، فمقابلتُها بالتضرع طباق في معنيي اللفظين الصريحين ومعنييهما الكناءين ، فكأنه قيل تضرعاً وإعلاناً وخيفة وإسراراً .
وقوله : { ودون الجهر من القول } هو مقابل لكل من التضرع والخيفة وهو الذكر المتوسط بين الجهر والإسرار ، والمقصود من ذلك استيعاب أحوال الذكر باللسان ، لأن بعضها قد تكون النفس أنشط إليه منها إلى البعض الآخر .
و ( الغُدو ) اسم لزمن الصباح وهو النصف الأول من النهار .
و ( الآصال ) جمع أصيل وهو العشي وهو النصف الثاني من النهار إلى الغروب .
والمقصود استيعاب أجزاء النهار بحسب المتعارف ، فأما الليل فهو زمن النوم ، والأوقات التي تحصل فيها اليقظة خصت بأمر خاص مثل قوله تعالى : { قم الليل إلا قليلاً } [ المزمل : 2 ] على أنها تدخل في عموم قوله : { ولا تكن من الغافلين } .
فدل قوله : { ولا تكن من الغافلين } على التحذير من الغفلة عن ذكر الله ولاحد للغفلة ، فإنها تحدد بحال الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أعلم بنفسه . فإن له أوقاتاً يتلقى فيها الوحي وأوقات شؤون جِبِلّية كالطعام .
وهذا الأمر خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام ، وكل ما خص به الرسول عليه الصلاة والسلام من الوجوب يستحسن للأمة اقتداؤهم به فيه إلا ما نهوا عنه مثل الوصال في الصوم .
وقد تقدم أن نحو { ولا تكن من الغافلين } أشد في الانتفاء وفي النهي من نحو : ولا تغفل ، لأنه يفرض جماعة يحق عليهم وصف الغافلين فيحذر من أن يكون في زمرتهم وذلك أبْين للحالة المنهي عنها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.