السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَٱذۡكُر رَّبَّكَ فِي نَفۡسِكَ تَضَرُّعٗا وَخِيفَةٗ وَدُونَ ٱلۡجَهۡرِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ ٱلۡغَٰفِلِينَ} (205)

وقوله تعالى :

{ واذكر ربك في نفسك } عام في الأذكار من القراءة والدعاء وغيرهما ، والمراد بالذكر في النفس أن يستحضر في قلبه عظمة الله تعالى جل جلاله ؛ لأنّ الذكر باللسان إذا كان عارياً عن ذكر القلب كان عديم الفائدة ؛ لأنّ فائدة الذكر حضور القلب وإشعاره عظمة المذكور تعالى ، قال الرازي : سمعت بعض الأكابر من أصحاب القلوب كان إذا أراد أن يأمر واحداً من المريدين بالخلوة والذكر أمره أربعين يوماً بالخلوة والتصفية ، ثم عند استكمال هذه المدّة وحصول التصفية الكاملة يقرأ عليه الأسماء التسعة والتسعين ، ويقول للمريد : اعتبر حال قلبك عند سماع هذه الأسماء ، فكل اسم وجدت قلبك عند سماعه قوي تأثره وعظم تشوّقه ، فاعلم أنّ الله تعالى إنما يفتح أبواب المكاشفات عليك بواسطة المواظبة على ذكر ذلك الاسم بعينه ، وهذا طريق حسن لطيف في هذا الباب ، اه .

وقيل : ذلك أمر للمأموم بالقراءة سراً بعد فراغ الإمام من قراءة الفاتحة كما هو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى { تضرعاً } أي : تذللاً { وخيفة } أي : خوفاً منه .

فائدة : إنما قال تعالى : { واذكر ربك } ولم يقل : واذكر إلهك ولا غيره من الأسماء وإنما سماه في هذا المقام باسم كونه رباً ، وأضاف نفسه إليه ، وكل ذلك يدل على نهاية الرحمة والتقريب والفضل والإحسان ، والمقصود منه أن يصير العبد فرحاً مسروراً مبتهجاً عند سماع هذا الاسم ، لأنّ لفظ الرب مشعر بالتربية والفضل ، وعند سماع هذا الاسم يتذكر العبد أقسام إنعام الله تعالى عليه ، وبالحقيقة لا يصل عقله إلى أقل أقسامه كما قال تعالى : { وإن تعدوا نعم الله لا تحصوها } ( إبراهيم ، 34 ) فعند انكشاف هذا المقام في القلب يقوى الرجاء ، فإذا سمع بعد ذلك قوله : { تضرعاً وخيفة } عظم الخوف وحينئذٍ يحصل في القلب موجبات الرجاء وموجبات الخوف ، وعنده يكمل الإيمان كما قال عليه الصلاة والسلام : ( لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا ) وهذا جرى عليه بعضهم في حالة الصحة ، فيكون الخوف والرجاء مستويان .

والذي جرى عليه الغزالي وهو التحقيق أنه إن قوي رجاؤه يقوى جانب الخوف والعكس بالعكس ، وأما حال المرض فيكون جانب الرجاء أرجح ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال : «كيف تجدك » ؟ قال : أرجو الله يا رسول الله وإني أخاف ذنوبي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يجتمعان في قلب مؤمن في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف ) { ودون الجهر من القول } أي : ومتكلماً كلاماً فوق السر ودون الجهر أي : قصداً بينهما ، فإنه أدخل في الخشوع والإخلاص { بالغدوّ } جمع غدوة ، وقيل : إنه مصدر { والآصال } جمع أصيل ، وهو ما بين صلاة العصر إلى الغروب ، وإنما خص هذين الوقتين بالذكر ؛ لأنّ الإنسان يقوم بالغداة من النوم الذي هو آخر الموت إلى اليقظة التي هي كالحياة فاستحب له أن يستقبل حالة الانتباه من النوم ، وهو وقت الحياة من موت النوم بالذكر ليكون أوّل أعماله ذكر الله تعالى ، وأما وقت الآصال وهو آخر النهار فإن الإنسان يريد أن يستقبل النوم الذي هو أخو الموت فيستحب الذكر ؛ لأنها حالة تشبه الموت ، ولعله لا يقوم من تلك النومة ، فيكون موته على ذكر الله تعالى ، وهو المراد من قوله تعالى : { ولا تكن من الغافلين } عن ذكر الله .

وقيل : إنما خصا بالذكر ؛ لأنّ الصلاة بعد صلاة الصبح ، وبعد صلاة العصر مكروهة ، واستحب للعبد أن يذكر الله تعالى فيهما ليكون في جميع أوقاته مشتغلاً بما يقرّبه إلى الله تعالى من صلاة وذكر ، وقيل : إنّ أعمال العباد تصعد أوّل النهار وآخره ، فيصعد عمل الليل عند صلاة الفجر ، ويصعد عمل النهار بعد العصر إلى الغروب ، فاستحب له الذكر فيهما ليكون ابتداء عمله بالذكر وختامه بالذكر .