اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱذۡكُر رَّبَّكَ فِي نَفۡسِكَ تَضَرُّعٗا وَخِيفَةٗ وَدُونَ ٱلۡجَهۡرِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ ٱلۡغَٰفِلِينَ} (205)

قوله تعالى : { واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ } الآية .

قال ابن عباس : يعني بالذِّكر : القراءة في الصلاة ، يريد يقرأ سراً في نفسه{[17135]} .

قوله " تَضَرُّعاً وخيفَةً " في نصبهما وجهان :

أظهرهما : أنَّهُمَا مفعولان من أجلهما ، لأنَّهُ يتسببُ عنهما الذِّكر .

والثاني : أن ينتصبا على المصدر الواقع موقع الحال ، أي : مُتضرعين خائفين ، أو ذوي تضرع وخيفة .

وقرئ " وخفيَةً " {[17136]} بتقديم الفاءِ ، وقيل : هما مصدران للفعل من معناه لا من لفظه ذكره أبو البقاءِ . وهو بعيدٌ .

قوله : " ودُونَ الجَهْرِ " قال أبُو البقاءِ : معطوف على تَضَرُّع ، والتقديرُ ، ومقتصدين . وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّ دُوَ ظرفٌ لا يتصرَّف على المشهور ، قال فالذي ينبغي أن يجعل صفة لشيء محذوف ذلك المحذوف هو الحال ، كما قدَّرهُ الزمخشري فقال : ودُونَ الجهْرِ ومتكلماً كلاماً دُونَ الجهْرِ ، لأنَّ الإخفاء أدخلُ في الإخلاص ، وأٌربُ إلى حسن التفكر .

فصل

معنى تضرُّعاً وخيفَةً أي : تتضرَّعُ إليَّ وتخافُ منِّي ، هذا في صلاة السِّر وقوله ودُونَ الجهْرِ أرادَ في صلاة الجهرِ لا تَجْهَر جَهْراً شديداً ، بل في خفضٍ وسُكونٍ تُسمعُ من خلفك .

وقال مجاهدٌ وابن جريجٍ : أمروا أن يذكروه في الصدورِ بالتضرع في الدُّعاء والاستكانة دون رفع الصوت والصياح في الدعاء{[17137]} .

قوله بالغُدُوِّ والآصالِ متعلق ب : اذْكُر أي : اذكُرْهُ في هذين الوقتين وهما عبارةٌ عن اللَّيل والنَّهارِ .

ومعناهما : البكرات والعشيَّات .

وقال أبُو البقاءِ{[17138]} : بالغُدُوِّ متعلق ب : ادعُو وهو سبقُ لسانٍ ، أو قلم ، إذ ليس نظمُ القرآن كذا ، والغُدُوُّ : إما جمع غدوة ، ك : قمح وقمحة ، وعلى هذا فيكون قد قابل الجمع بالجمع والمعنوي .

وقيل هو مصدرٌ ، قال تعالى : { غُدُوُّهَا شَهْرٌ } [ سبأ : 12 ] فيقدَّرُ زمانٌ مضاف إليه حتَّى يتقابل زمان مجموع بمثله تقديره : بأوقات الغدو ، والآصال جمع : أصُل ، وأصُل جمع : أصيل ، فهو جمع الجمع ولا جائزٌ أن يكون جمعاً ل : أصِيل ، لأنَّ فعيلاً ، لا يجمع على أفعال وقيل : هو جمعٌ ل : أصِيل ، وفَعِيلٌ يجمع على أفْعَال نحو : يَمِينٌ وأيمانٌ ، وقيل : آصال جمع ل : أصُل ، وأصُل مفرد ، ثبت ذلك من لغتهم ، وهو العَشِيُّ وفُعُل يجمع على " أفْعَال " قالوا : عُنُق وأعْنَاق ، وعلى هذا فلا حاجة إلى دَعْوَى أنَّه جمعُ الجمع ، ويجمعُ على " أصْلان " ك : رغيفٍ ورُغْفَان ، ويُصَغَّر على لفظه ؛ كقوله : [ البسيط ]

وقَفْتُ فيهَا أصَيْلاناً أسَائِلُهَا *** عَيَّتْ جواباً وما بالرَّبْعِ مِنْ أحَدِ{[17139]}

واستدلَّ الكوفيُّون بقولهم : أصيلان على جواز تصغير جمع الكثرةِ بهذا البيت ، وتأوَّلَهُ البصريُّون على أنَّه مفرد ، وتُبْدَل نونه لاماً . ويروى أصيلاً كَيْ .

وقرأ أبو مجلز{[17140]} واسمه : لاحقُ بنُ حُميدٍ السدوسيُّ البصري : والإيصَال مصدرُ : آصَلَ أي : دَخَلَ في الأصيلِ ، والأصيلُ : ما بين العصر والمغرب .

ثمَّ قال تعالى { وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الغافلين } والمرادُ منه أنَّ العبد يجبُ أن يكون ذاكراً لِلَّهِ تعالى في كلِّ الأوقات لأنه حثّه على الذكرِ الغدوات وبالعشيات ثم عمَّمَ بقوله : { وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الغافلين } يعني أنَّ الذكر القلبي يجب أن يكون دائما ، وأن لا يغفل الإنسانُ عنه لحظةً واحدةً بحسب الإمكان .


[17135]:ذكره الواحدي في الوسيط (2/440) والبغوي (2/226) والقرطبي في تفسيره (7/225).
[17136]:ينظر: الدر المصون 3/391.
[17137]:أخرجه الطبري في تفسيره (6/165).
[17138]:ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/291.
[17139]:البيت للنابغة ينظر ديوانه 30، الكتاب 2/321، المقتضب 4/414، شرح المفصل لابن يعيش 2/80، أوضح المسالك 2/389، مجاز القرآن 1/328، التصريح 2/367 الإنصاف 1/170، معاني الفراء 1/288 الدر المصون 3/391.
[17140]:ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/494، والبحر المحيط 4/449، الدر المصون 3/391.