القول في تأويل قوله تعالى : { خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقّ وَصَوّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } .
يقول تعالى ذكره : خلق السموات السبع والأرض بالعدل والإنصاف ، وصوّركم : يقول : ومثلكم فأحسن مثَلكم ، وقيل : إنه عُنِي بذلك تصويره آدم ، وخلقه إياه بيده . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ بالحَقّ وَصَورّرَكُمْ فأحْسَنَ صُوَرَكُمْ يعني آدم خلقه بيده .
وقوله : وَإلَيْهِ المَصِيرُ يقول : وإلى الله مرجع جميعكم أيها الناس .
وقرأ جمهور الناس : «صُوركم » بضم الصاد ، وقرأ أبو رزين : «صِوركم » بكسرها ، وهذا تعديد النعمة في حسن الخلقة ، لأن أعضاء ابن آدم متصرفة لجميع ما تتصرف به أعضاء الحيوان ، وبزيادات كثيرة فضل بها ثم هو مفضل بحسن الوجه ، وجمال الجوارح ، وحجة هذا قوله تعالى : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم }{[11136]} [ التين : 4 ] ، وقال بعض العلماء : النعمة المعددة هنا إنما هي صورة الإنسان من حيث هو إنسان مدرك عاقل ، فهذا هو الذي حسن له حتى لحق ذلك كمالات كثيرة .
قال القاضي أبو محمد : والقول الأول أحرى في لغة العرب ، لأنها لا تعرف الصور إلا الشكل ، وذكر تعالى علمه بما في السماوات والأرض ، فعم عظام المخلوقات .
استئناف بياني نَاشىء عن قوله : { فمنكم كافر ومنكم مؤمن } [ التغابن : 2 ] يبيِّن أن انقسامهم إلى قسمي الكافرين والمؤمنين نشأ عن حياد فريق من الناس عن الحق الذي أقيم عليه خلق السماوات والأرض لأن الحق أن يؤمن الناس بوجود خالقهم ، وبأنه واحد وأن يفردوه بالعبادة فذلك الذي أراده الله من خلقهم ، قال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] . وقال : { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } [ الروم : 30 ] فمن حَاد عن الإِيمان ومالَ إلى الكفر فقد حاد عن الحق والفطرة .
وقوله : { بالحق } معترض بين جملة { خلق السموات والأرض } وجملة { وصوّركم } .
وفي قوله : { بالحق } إيماء إلى إثبات البعث والجزاء لأن قوله بالحق متعلق بفعل { خلق } تعلَّق الملابسة المفاد بالباء ، أي خلقاً ملابساً للحق ، والحق ضد الباطل ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { إن في خلق السماوات والأرض } إلى قوله : { ربنا ما خلقت هذا باطلاً } [ آل عمران : 190 - 191 ] . والباطل مَصْدَقهُ هنالك هو العبث لقوله تعالى : { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق } [ الدخان : 38 ، 39 ] فتعين أن مَصْدَقَ الحقّ في قوله : { خلق السموات والأرض بالحق } أنه ضد العبث والإِهمال .
والمراد ب { خلق السموات والأرض } خلق ذوَاتهن وخلق ما فيهن من المخلوقات كما أنبأ عنه قوله : { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ، أي ما خلقناهما وما بينهما إلا بالحقّ ، فكذلك يكون التقدير في الآية من هذه السورة .
وملابسة الحق لخلق السماوات والأرض يلزم أن تكون ملابسة عامة مطردة لأنه لو اختلت ملابسة حال من أحوال مخلوقات السماوات للحق لكان ناقضاً لمعنى ملابسة خلقِها للحقّ ، فكان نفي البعث للجزاء على أعمال المخلوقات موجباً اختلال تلك الملابسة في بعض الأحوال . وتخلّف الجزاء عن الأعمال في الدنيا مشاهد إذ كثيراً ما نرى الصالحين في كرب ونرى أهل الفساد في نعمة ، فلو كانت هذه الحياة الدنيا قصارى حياة المكلفين لكان كثيرٌ من أهل الصلاح غيرَ لاقٍ جزاءً على صلاحه . وانقلب أكثر أهل الفساد متمتعاً بإرضاء خباثة نفسه ونوال مشتهياته ، فكان خلق كلا هذين الفريقين غيرَ ملابس للحق ، بالمعنى المراد .
ولزيادة الإِيقاظ لهذا الإِيمان عطف عليه قوله : { وإليه المصير } وكل ذلك توطئة إلى ما سبقه من قوله تعالى : { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا } [ التغابن : 7 ] الآية .
وفي قوله { بالحق } رمز إلى الجزاء وهو وعيد ووعد .
وفي قوله : { خلق السموات } إلى آخره إظهار أيضاً لعظمة الله في ملكوته .
{ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صوركم } .
إدماج امتنان على الناس بأنهم مع ما خلقوا عليه من ملابسة الحق على وجه الإِجمال وذلك من الكمال وهو ما اقتضته الحكمة الإلهية فقد خُلقوا في أحسن تقويم إذ كانت صورة الإِنسان مستوفية الحسن متماثلة فيه لا يعتورها من فظاعة بعض أجزائها ونقصان الانتفاع بها ما يُناكد محاسن سائرها بخلاف محَاسن أحاسن الحيوان من الدواب والطيرِ والحيتان من مَشي على أرْبَع مع انتكاس الرأس غالباً ، أو زحف ، أو نقز في المشي في البعض .
ولا تَعْتَوِرُ الإِنسان نقائصُ في صورته إلا من عوارضَ تعرض في مدة تكوينه من صَدَمَات لبطون الأمهات ، أو علل تحلّ بهن ، أو بالأجنة أو من عوارض تعرض له في مدة حياته فتشوه بعض محاسن الصور . فلا يعد ذلك من أصل تصوير الإِنسان على أن ذلك مع ندرته لا يعد فظاعة ولكنه نقص نسبي في المحاسن فقد جمع بين الإِيماء إلى ما اقتضته الحكمة قد نبههم إلى ما اقتضاه الإِنعام . وفيه إشارة إلى دليل إمكان البعث كما قال : { أفعيينا بالخلق الأول } [ ق : 15 ] ، وقال : { أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم } [ يس : 81 ] .
عطف على جملة { وصوركم } لأن التصوير يقتضي الإِيجاد فأعقب بالتذكير بأن بعد هذا الإِيجادِ فناءً ثم بعثاً للجزاء .
والمَصير مصدر ميمي لفعل صادر بمعنى رَجع وانتهى ، ولذلك يُعدَّى بحرف الانتهاء ، أي ومرجعكم إليه يعني بعد الموت وهو مصير الحشر للجزاء .
وتقديم { إليه } على { المصير } للرعاية على الفاصلة مع إفادة الاهتمام بتعلق ذلك المصير بتصرف الله المحض . وليس مراداً بالتقديم قصر لأن المشركين لا يصدقون بهذا المصير من أصله بَلْهَ أن يدَّعوا أنه مصير إلى غيره حتى يُردّ عليهم بالقصر .
وهذه الجملة أشد ارتباطاً بجملة { خلق السموات والأرض بالحق } منها بجملة { وصوركم فأحسن صوركم } كما يظهر بالتأمل .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: خلق السموات السبع والأرض بالعدل والإنصاف،" وصوّركم": يقول: ومثلكم فأحسن مثَلكم... وقيل: إنه عُنِي بذلك تصويره آدم، وخلقه إياه بيده.
وقوله: "وَإلَيْهِ المَصِيرُ "يقول: وإلى الله مرجع جميعكم أيها الناس.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{خلق السماوات والأرض بالحق}...
{بالحق} ههنا أراد به الحكمة؛ كأنه يقول: {خلق السماوات والأرض} بالحكمة. وقال بعضهم: {بالحق} يعني للحق، وهو البعث، فكأنهم عنوا به أن الله تعالى لم يخلقها عبثا، بل خلقها للمعاد. وقوله تعالى: {وصوّركم فأحسن صوركم وإليه المصير} يحتمل هذا وجهين:
أحدهما: أحسن أي أتقن، وأحكم، ومعنى ذلك أن الله تعالى خص صور بني آدام في الاستدلال بوحدانيته وربوبيته في أن جعل في أنفسهم حقيقة المعرفة والاستدلال بأنفسهم على وحدانية الله تعالى...
والثاني: أن يصرف الحسن إلى حسن المنظر؛ ومعنى ذلك أن الله تعالى خلق بني آدم على صورة، لا بد من أن تكون صورتهم مثل صورة غيرهم من الخلائق، فثبت أن صورتهم في المنظر أحسن صورة. فذلك معنى قوله تعالى: {وإليه المصير} يعني البعث. وأضاف ذلك إلى نفسه لأنه هو النهاية والمقصود في خلقهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{بالحق} بالغرض الصحيح والحكمة البالغة، وهو أن جعلها مقارّ المكلفين ليعملوا فيجازيهم {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}... لتشكروا. وإليه مصيركم فجزاؤكم على الشكر والتفريط فيه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا تعديد النعمة في حسن الخلقة، لأن أعضاء ابن آدم متصرفة لجميع ما تتصرف به أعضاء الحيوان، وبزيادات كثيرة فضل بها، ثم هو مفضل بحسن الوجه، وجمال الجوارح، وحجة هذا قوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} [التين: 4]...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وصدر هذا النص: (خلق السماوات والأرض بالحق).. يقر في شعور المؤمن أن الحق أصيل في كيان هذا الكون، ليس عارضا وليس نافلة؛ فبناء الكون قام على هذا الأساس...
(وصوركم فأحسن صوركم).. تشعر الإنسان بكرامته على الله، وبفضل الله عليه في تحسين صورته: صورته الخلقية وصورته الشعورية. فالإنسان هو أكمل الأحياء في الأرض من ناحية تكوينه الجثماني؛ كما أنه أرقاها من ناحية تكوينه الشعوري واستعداداته الروحية ذات الأسرار العجيبة ....
(وإليه المصير).. مصير كل شيء وكل أمر وكل خلق.. مصير هذا الكون ومصير هذا الإنسان...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{بالحق} إيماء إلى إثبات البعث والجزاء...
{خلق السموات والأرض بالحق} أنه ضد العبث والإِهمال. والمراد ب {خلق السموات والأرض} خلق ذوَاتهن وخلق ما فيهن من المخلوقات كما أنبأ عنه قوله: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق، أي ما خلقناهما وما بينهما إلا بالحقّ...
{وإليه المصير} وكل ذلك توطئة إلى ما سبقه من قوله تعالى: {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا} [التغابن: 7] الآية. وفي قوله {بالحق} رمز إلى الجزاء وهو وعيد ووعد. وفي قوله: {خلق السموات} إلى آخره إظهار أيضاً لعظمة الله في ملكوته. {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صوركم}. إدماج امتنان على الناس بأنهم مع ما خلقوا عليه من ملابسة الحق على وجه الإِجمال وذلك من الكمال وهو ما اقتضته الحكمة الإلهية فقد خُلقوا في أحسن تقويم إذ كانت صورة الإِنسان مستوفية الحسن...
وتقديم {إليه} على {المصير} للرعاية على الفاصلة مع إفادة الاهتمام بتعلق ذلك المصير بتصرف الله المحض. وليس مراداً بالتقديم قصر لأن المشركين لا يصدقون بهذا المصير من أصله بَلْهَ أن يدَّعوا أنه مصير إلى غيره حتى يُردّ عليهم بالقصر.