القول في تأويل قوله تعالى : { يَبَنِيّ اذْهَبُواْ فَتَحَسّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رّوْحِ اللّهِ إِنّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رّوْحِ اللّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : حين طمع يعقوب في يوسف ، قال لبنيه : يا بنيّ اذهبوا إلى الموضع الذي جئتم منه ، وخَلّفتم أخويكم به فَتَحَسّسُوا مِنْ يُوسُفَ يقول : التمسوا يوسف وتعرّفوا من خبره . وأصل التحسس : التفعل من الحسّ . وأخِيهِ يعني بنيامين ، وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللّهِ يقول : ولا تقنطوا من أن يروّح الله عنا ما نحن فيه من الحزن على يوسف وأخيه بفَرَج من عنده فيرينيهما . إنّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّهِ يقول : لا يقْنَط من فَرَجه ورحمته ويقطع رجاءه منه ، إلاّ القَوْمُ الكافِرُونَ يعني : القوم الذين يجحدون قدرته على ما شاء تكوينه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : يا بَنِيّ اذْهَبُوا فَتَحَسّسُوا مِنْ يُوسُفَ وأخِيهِ بمصر . وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللّهِ قال : من فرَج الله أن يردّ يوسف .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللّهِ : أي من رحمة الله .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة نحوه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثم إن يعقوب قال لبنيه ، وهو على حسن ظنه بربه مع الذي هو فيه من الحزن : يا بنيّ اذهبوا إلى البلاد التي منها جئتم فتَحَسّسُوا مِنْ يُوسُفَ وأخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللّهِ : أي من فرجه ، إنّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّهِ إلاّ القَوْمُ الكافِرُونَ .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللّهِ يقول : من رحمة الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللْهِ قال : من فرج الله ، يفرُج عنكم الغمّ الذي أنتم فيه .
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ( 87 ) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ( 88 )
المعنى : { اذهبوا } إلى الأرض التي جئتم منها وتركتم أخويكم بنيامين وروبيل ، { فتحسسوا } ، أي استقصوا ونقروا ، والتحسس : طلب الشيء بالحواس من البصر والسمع ، ويستعمل في الخير والشر ، فمن استعماله في الخير هذه الآية ، وفي الشر نهي النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : ولا تحسسوا{[6797]} .
وقوله : { من يوسف } يتعلق بمحذوف يعمل فيه { تحسسوا } التقدير : فتحسسوا نبأ أو حقيقة من أمر يوسف . لكن يحذف ما يدل ظاهر القول عليه إيجازاً .
وقرأت فرقة : «تيأسوا » وقرأت فرقة «تأيسوا » على ما تقدم{[6798]} ، وقرأ الأعرج «تِئسوا » بكسر التاء .
وخص يوسف وبنيامين بالذكر لأن روبيل إنما بقي مختاراً . وهذان قد منعا الأوبة .
و «الروح » : الرحمة . ثم جعل اليأس من رحمة الله وتفريجه من صفة الكافرين . إذ فيه إما التكذيب بالربوبية ، وإما الجهل بصفات الله تعالى .
وقرأ الحسن وقتادة وعمر بن عبد العزيز{[6799]} «من رُوح الله » بضم الراء . وكأن معنى هذه القراءة لا تأيسوا من حي معه روح الله الذي وهبه ، فإن من بقي بوحه فيرجى ، ومن هذا قول الشاعر : [ الطويل ]
وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع{[6800]}***
وكل ذي غيبة يؤوب*** وغائب الموت لا يؤوب{[6801]}
ويظهر من حديث الذي قال : إذا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم اذروني في البحر والبر في يوم راح . فلئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من الناس ، إنه يئس من روح الله ، وليس الأمر كذلك ، لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث فغفر الله له يقتضي أنه مات مؤمناً إذ لا يغفر الله لكافر ، فبقي أن يتأول الحديث ، إما على أن قدر بمعنى ضيق وناقش الحساب ، فذلك معنى بين ، وإما أن تكون من القدرة ، ويقع خطأ في أن ظن في أن الاجتماع بعد السحق والتذرية محال لا يوصف الله تعالى بالقدرة عليه فغلط في أن جعل الجائز محالاً ، ولا يلزمه بهذا كفر . قال النقاش : وقرأ ابن مسعود «من فضل » وقرأ أبي بن كعب : «من رحمة الله » .
صرح لهم بشيء ممّا يعلمه وكاشفهم بما يحقق كذبهم ادعاء ائتكال الذئب يوسف عليه السلام حين أذنه الله بذلك عند تقدير انتهاء البلوى فقال : { يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه } .
فجملة { يا بني اذهبوا } مستأنفة استئنافاً بيانياً ، لأن في قوله : { وأعلم من الله ما لا تعلمون } ما يثير في أنفسهم ترقب مكاشفته على كذبهم فإن صاحب الكيد كثير الظنون { يحسبون كل صيحة عليهم } [ المنافقون : 4 ] . والتحسّس بالحاء المهملة : شدة التطلّب والتعرّف ، وهو أعم من التجسس بالجيم فهو التطلّب مع اختفاء وتستر .
والرّوْح بفتح الراء : النفَس بفتح الفاء استعير لكشف الكرب لأن الكرب والهمّ يطلق عليهما الغَمّ وضيق النفَس وضيق الصدر ، كذلك يطلق التنفس والتروح على ضد ذلك ، ومنه استعارة قولهم : تنفس الصبح إذا زالت ظلمة الليل .
وفي خطابهم بوصف البُنوّة منه ترقيق لهم وتلطف ليكون أبعث على الامتثال .
وجملة إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } تعليل للنهي عن اليأس ، فموقع { إنّ } التعليل . والمعنى : لا تيأسوا من الظفر بيوسف عليه السلام معتلين بطول مدة البعد التي يبعد معها اللقاء عادة . فإن الله إذا شاء تفريج كربة هيّأ لها أسبابها ، ومن كان يؤمن بأن الله واسع القدرة لا يُحيل مثل ذلك فحقّه أن يأخذ في سببه ويعتمد على الله في تيسيره ، وأما القوم الكافرون بالله فهم يقتصرون على الأمور الغالبة في العادة وينكرون غيرها .
وقرأ البزي بخُلف عنه { ولا تأْيَسُوا } و { إنه لا يَأيس } بتقديم الهمزة على الياء الثانية ، وتقدم في قوله : { فلمّا استيأسوا منه } [ سورة يوسف : 80 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.