جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَٱعۡبُدُواْ مَا شِئۡتُم مِّن دُونِهِۦۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَأَهۡلِيهِمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ} (15)

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لمشركي قومك : الله أعبد مخلصا ، مفردا له طاعتي وعبادتي ، لا أجعل له في ذلك شريكا ، ولكني أُفرده بالألوهة ، وأبرأ مما سواه من الأنداد والاَلهة ، فاعبدوا أنتم أيها القوم ما شئتم من الأوثان والأصنام ، وغير ذلك مما تعبدون من سائر خلقه ، فستعلمون وبال عاقبة عبادتكم ذلك إذا لقيتم ربكم .

وقوله : قُلْ إنّ الخاسِرِينَ الّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لهم : إن الهالكين الذين غَبَنوا أنفسهم ، وهلكت بعذاب الله أهلوهم مع أنفسهم ، فلم يكن لهم إذ دخلوا النار فيها أهل ، وقد كان لهم في الدنيا أهلون . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : قُلْ إنّ الخَاسِرِينَ الّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ وأهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ قال : هم الكفار الذين خلقهم الله للنار ، وخلق النار لهم ، فزالت عنهم الدنيا ، وحرّمت عليهم الجنة ، قال الله : خَسرَ الدّنْيَا وَالاَخِرَةَ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : قُلْ إنّ الخاسِرينَ الّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ وأهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ قال : هؤلاء أهل النار ، خسروا أنفسهم في الدنيا ، وخسروا الأهلين ، فلم يجدوا في النار أهلاً ، وقد كان لهم في الدنيا أهل .

حُدثت عن ابن أبي زائدة ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قال : غبنوا أنفسهم وأهليهم ، قال : يخسرون أهليهم ، فلا يكون لهم أهل يرجعون إليهم ، ويخسرون أنفسم ، فيهلكون في النار ، فيموتون وهم أحياء فيخسرونهما .

وقوله : ألا ذلكَ هُو الخُسْرانُ المُبِينُ يقول تعالى ذكره : ألا إن خسران هؤلاء المشركين أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، وذلك هلاكها هو الخسران المبين ، يقول تعالى ذكره : هو الهلاك الذي يبين لمن عاينه وعلمه أنه الخسران .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَٱعۡبُدُواْ مَا شِئۡتُم مِّن دُونِهِۦۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَأَهۡلِيهِمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ} (15)

وقوله : { فاعبدوا ما شئتم من دونه } صيغة أمر على جهة التهديد كنحو قوله : { اعملوا ما شئتم } [ فصلت : 40 ] وقوله : { تمتع بكفرك } [ الزمر : 8 ] ، وهذا كثير ، و { الذين } في قوله : { الذين خسروا أنفسهم } في موضع رفع خبر ، لأن قوله : { وأهليهم } قيل معناه أنهم خسروا الأهل الذي كان يكون لهم لو كانوا من أهل الجنة ، فهذا كما لو قال : خسروا أنفسهم ونعيمهم ، أي الذي كان يكون بهم ، وقيل أراد الأنفس والأهلين الذين كانوا في الدنيا ، لأنهم صاروا في عذاب النار ، ليس لهم نفوس مستقرة ولا بدل من أهل الدنيا ، ومن له في الجنة قد صار له إما أهله وإما غيرهم على الاختلاف فيما يؤثر في ذلك فهو على كل حال لا خسران معه بتة .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَٱعۡبُدُواْ مَا شِئۡتُم مِّن دُونِهِۦۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَأَهۡلِيهِمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ} (15)

والفاء في قوله : { فَاعْبُدُوا } الخ لتفريع الكلام الذي بعدها على الكلام قبلها فهو تفريع ذكري . والأمر في قوله : { فاعبدوا ما شِئتُم مِن دونِهِ } مستعمل في معنى التخلية ، ويعبر عنه بالتسوية . والمقصود التسوية في ذلك عند المتكلم فتكون التسوية كناية عن قلة الاكتراث بفعل المخاطب ، أي أن ذلك لا يضرني كقوله في سورة [ الكهف : 29 ] : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } ، أي اعبدوا أيّ شيء شئتم عبادتَه من دون الله . وجعلت الصلة هنا فعل المشيئة إيماء إلى أن رائدهم في تعيين معبوداتهم هو مجرد المشيئة والهوى بلا دليل .

{ قُلْ إِنَّ الخاسرين الذين خسروا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين }

أعقب أمر التسوية في شأنهم بشيء من الموعظة حرصاً على إصلاحهم على عادة القرآن ، ولوحظ في إبلاغهم هذه الموعظة مقام ما سبق من التخلية بينهم وبين شأنهم جمعاً بين الإِرشاد وبين التوبيخ ، فجيء بالموعظة على طريق التعريض والحديث عن الغائب والمراد المخاطبون .

وافتتح المقول بحرف التوكيد تنبيهاً على أنه واقع وتعريف { الخَاسِرِينَ } تعريف الجنس ، أي أن الجنس الذين عرفوا بالخسران هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم .

وتعريف المسند والمسند إليه من طريق القصر ، فيفيد هذا التركيب قصر جنس الخاسرين على الذين خسروا أنفسهم وأهليهم ، وهو قصر مبالغة لكمال جنس الخسران في الذين خسروا أنفسهم وأهليهم فخسران غيرهم كَلاَ خسران ، ولهذا يقال في لام التعريف في مثل هذا التركيب إنها دالة على معنى الكمال فليسوا يريدون أن معنى الكمال من معاني لام التعريف .

ولما كان الكلام مسوقاً بطريق التعريض بالذين دَار الجدال معهم من قوله : { إن تكفروا فإن الله غني عنكم إلى قوله : { فاعبدوا ما شئتم من دونه } [ الزمر : 7 15 ] ، عُلم أن المراد بالذين خسروا أنفسهم وأهليهم هم الذين جرى الجدال معهم ، فأفاد معنى : أن الخاسرين أنتم ، إلا أن وجه العدول عن الضمير إلى الموصولية في قوله : { الذين خسروا أنفسهم } لإِدماج وعيدهم بأنهم يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة .

ومعنى خسرانهم أنفسهم : أنهم تسببوا لأنفسهم في العذاب في حين حسبوا أنهم سعوا لها في النعيم والنجاح ، وهو تمثيل لحالهم في إيقاع أنفسهم في العذاب وهم يحسبون أنهم يُلقونها في النعيم ، بحال التاجر الذي عرض ماله للنماء والربح فأصيب بالتلف ، فأطلق على هذه الهيئة تركيب { خَسِرُوا أنفسَهُم } ، وقد تقدم في قوله تعالى : { ومن خفَّت موازينُه فأُولئِكَ الذين خَسِروا أنفُسَهُم بما كانوا بأياتِنا يظلِمُون } في أوّل سورة [ الأعراف : 9 ] .

وأما خسرانهم أهليهم فهو مِثل خسرانهم أنفسهم وذلك أنهم أغروا أهليهم من أزواجهم وأولادهم بالكفر كما أوقعوا أنفسهم فيه فلم ينتفعوا بأهليهم في الآخرة ولم ينفعوهم : { لكل امرىء منهم يومئذٍ شأن يغنيه } [ عبس : 37 ] ، وهذا قريب من قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً } [ التحريم : 6 ] ، فكان خسرانهم خسراناً عظيماً .

فقوله : { ألاَ ذلِكَ هو الخُسرانُ المبينُ } استئناف هو بمنزلة الفذلكة والنتيجة من الكلام السابق لأن وصف { الذين خسروا } بأنهم خسروا أحب ما عندهم وبأنهم الذين انحصر فيهم جنس الخاسرين ، يستخلص منه أن خسارتهم أعظم خسارة وأوضحها للعيان ، ولذلك أوثرت خسارتهم باسم الخسران الذي هو اسم مصدر الخسارة دالٌّ على قوة المصدر والمبالغة فيه .

وأشير إلى العناية والاهتمام بوصف خسارتهم ، بأن افتتح الكلام بحرف التنبيه داخلاً على اسم الإِشارة المفيد تمييز المشار إليه أكمل تمييز ، وبتوسط ضمير الفصل المفيد للقصر وهو قصر ادعائي ، والقول فيه كالقول في الحصر في قوله : { إنَّ الخاسِرينَ الذين خَسِروا أنفسهم وأهليهم } .