القول في تأويل قوله تعالى : { وَوَاعَدْنَا مُوسَىَ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمّ مِيقَاتُ رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىَ لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : وواعدنا موسى لمناجاتنا ثلاثين ليلة وقيل : إنها ثلاثون ليلة من ذي القعدة . وأتمَمْناها بِعَشْرٍ يقول : وأتممنا الثلاثين الليلة بعشر ليال تتمة أربعين ليلة . وقيل : إن العشر التي أتمها به أربعين ، عشر ذي الحجة . ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : وَوَاعَدْنا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وأتمَمْناها بِعَشْرٍ قال : ذو القعدة وعشر ذي الحجة .
قال : ثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد : وَوَاعَدْنا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وأتمَمْناها بِعَشْرٍ قال : ذو القعدة وعشر ذي الحجة ، ففي ذلك اختلفوا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَوَاعَدْنا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً هو ذو القعدة وعشر من ذي الحجة ، فذلك قوله : فَتَمّ مِيقاتُ رَبّهِ أرْبَعِينَ لَيْلَةً .
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : زعم حضرميّ أن الثلاثين التي كان واعد موسى ربه كانت ذا القعدة والعشر من ذي الحجة التي تمم الله بها الأربعين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : وَوَاعَدْنا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً قال : ذو القعدة . وأتمَمْناها بِعَشْرٍ قال : عشر ذي الحجة . قال ابن جريج : قال ابن عباس ، مثله .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، قال : سمعت مجاهدا يقول في قوله : وَوَاعَدْنا مِوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وأتْمَمْناها بِعَشْرٍ قال : ذو القعدة ، والعشر الأوّل من ذي الحجة .
قال : ثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن مسروق : وأتمَمْناها بِعَشْرٍ قال : عشر الأضحى .
وأما قوله : فَتَمّ مِيقاتُ رَبّهِ أرْبَعِينَ لَيْلَةً فإنه يعني : فكمل الوقت الذي واعد الله موسى أربعين ليلة وبلغها . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : فَتَمّ مِيقاتُ رَبّهِ قال : فبلغ ميقات ربه أربعين ليلة .
القول في تأويل قوله تعالى : وَقالَ مُوسَى لأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي في قَوْمي وأصْلِحْ وَلا تَتّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ .
يقول تعالى ذكره : لما مضى لموعد ربه ، قال لأخيه هارون : اخْلُفْنِي فِي قَوْمي يقول : كن خليفتي فيهم إلى أن أرجع ، يقال منه : خَلَفه يخلُفُه خلافة . وأَصْلِحْ يقول : وأصلحهم بحملك إياهم على طاعة الله وعبادته . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال موسى لأخيه هارون : اخْلُفْنِي فِي قَومي وأصْلِحْ وكان من إصلاحه أن لا يدع العجل يُعبد .
وقوله : وَلا تَتّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ يقول : ولا تسلك طريق الذين يفسدون في الأرض بمعصيتهم ربهم ، ومعونتهم أهل المعاصي على عصيانهم ربهم ، ولكن اسلك سبيل المطيعين ربهم . فكانت مواعدة الله موسى عليه السلام بعد أن أهلك فرعون ونجى من بني إسرائيل فيما قال أهل العلم ، كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني الحجاج ، عن ابن جريج ، قوله : وَوَاعَدْنا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً . . . الاَية ، قال : يقول : إن ذلك بعد ما فرغ من فرعون ، وقبل الطور لما نجى الله موسى عليه السلام من البحر وغرق آل فرعون وخلص إلى الأرض الطيبة ، أنزل الله عليهم فيها المنّ والسلوى وأمره ربه أن يلقاه ، فلما أراد لقاء ربه استخلف هارون على قومه ، وواعدهم أن يأتيهم إلى ثلاثين ليلة ميعادا من قِبله من غير أمر ربه ولا ميعاده فتوجّه ليلقى ربه ، فلما تمت ثلاثون ليلة ، قال عدوّ الله السّامريّ : ليس يأتيكم موسى ، وما يصلحكم إلاّ إله تعبدونه فناشدهم هارون وقال : لا تفعلوا انظروا ليلتكم هذه ويومكم هذا ، فإن جاء وإلاّ فعلتم ما بدا لكم فقالوا : نعم . فلما أصبحوا من غد ولم يروا موسى عاد السامريّ لمثل قوله بالأمس ، قال : وأحدث الله الأجل بعد الأجل الذي جعله بينهم عشرا ، فتمّ ميقات ربه أربعين ليلة ، فعاد هارون فناشدهم ، إلا ما نظروا يومهم ذلك أيضا ، فإن جاء وإلاّ فعلتم ما بدا لكم . ثم عاد السامريّ الثالثة لمثل قوله لهم ، وعاد هارون فناشدهم أن ينتظروا . فلما لم يروه . . . .
قال القاسم : قال الحسن : حدثني حجاج ، قال : ثني أبو بكر بن عبد الله الهذليّ ، قال : قام السامريّ إلى هارون حين انطلق موسى ، فقال : يا نبيّ الله إنا استعرنا يوم خرجنا من القبط حليّا كثيرا من زينتهم ، وإن الذين معك قد أسرعوا في الحليّ يبيعونه وينفقونه ، وإنما كان عاريَة من آل فرعون فليسوا بأحياء فنردّها عليهم ، ولا ندري لعلّ أخاك نبيّ الله موسى إذا جاء يكون له فيها رأي ، إما يقربها قربانا فتأكلها النار ، وإما يجعلها للفقراء دون الأغنياء . فقال له هارون : نعم ما رأيت وما قلت فأمر مناديا فنادى : من كان عنده شيء من حليّ آل فرعون فليأتنا به فأتوه به ، فقال هارون : يا سامريّ أنت أحقّ من كانت عنده هذه الخزانة . فقبضها السامريّ ، وكان عدوّ الله الخبيث صائغا ، فصاغ منه عجلاً جسدا ، ثم قذف في جوفه تربة من القبضة التي قبض من أثر فرس جبريل عليه السلام إذ رآه في البحر ، فجعل يخور ، ولم يخر إلاّ مرّة واحدة ، وقال لبني إسرائيل : إنما تخلف موسى بعد الثلاثين ليلة يلتمس هذا هَذَا إلهُكُم وإلهُ مُوسَى فنَسِيَ يقول : إن موسى عليه السلام نسي ربه .
{ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي قرأ أبو عمرو وأبيّ بن كعب وأبو رجاء وأبو جعفر وشيبة «ووعدنا » وقد تقدم في البقرة ، وأخبر الله تعالى موسى عليه السلام أن يتهيأ لمناجاته { ثلاثين ليلة } ثم زاده في الأجل بعد ذلك عشر ليال ، فذكر أن «موسى » عليه السلام أعلم بني إسرائيل بمغيبه «ثلاثين ليلة » فلما زاده العشر في حال مغيبه دون أن تعلم بنو إسرائيل ذلك وجست نفوسهم للزيادة على ما أخبرهم به ، فقال لهم السامري : إن «موسى » قد هلك وليس براجع وأضلهم بالعجل فاتبعوه ، قاله كله ابن جريج ، وقيل : بل أخبرهم بمغيبه { أربعين } وكذلك أعلمه الله تعالى وهو المراد بهذه الآية ، قاله الحسن ، وهو مثل قوله { فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة } وأنهم عدوا الأيام والليالي فلما تم «أربعون » من الدهر قالوا قد أخلف «موسى » فضلوا ، قال مجاهد إن «الثلاثين » هي شهر ذي القعدة وإن «العشر » هي «عشر » ذي الحجة ، وقاله ابن عباس ومسروق .
وروي أن «الثلاثين » إنما وعد بأن يصومها ويتهيأ فيها للمناجاة ويستعد وأن مدة المناجاة هي «العشر » ، وقيل بل مدة المناجاة «الأربعون » ، وإقبال «موسى » على الأمر والتزامه يحسن لفظ المواعدة ، وحيث ورد أن المواعدة أربعون ليلة فذلك إخبار بجملة الأمر هو في هذه الآية إخبار بتفصيله كيف وقع ، و { أربعين } في هذه الآية وما بعدها في موضع الحال ، ويصح أن تكون { أربعين } ظرفاً من حيث هي عدد أزمنة ، وفي مصحف أبي بن كعب «وتممناها » بغير ألف وتشديد الميم ، وذكر الزجاج عن بعضه قال : لما صام ثلاثين يوماً أنكر خلوف فمه فاستاك بعود خروب فقالت الملائكة : إنا كنا نستنشق من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فزيدت عليه عشر ليال ، و { ثلاثين } نصب على تقدير أجلناه «ثلاثين » وليست منتصبة على الظرف لأن المواعدة لم تقع في «الثلاثين » ، ثم ردد الأمر بقوله { فتم ميقات ربه أربعين ليلة } قيل ليبين أن «العشر » لم تكن ساعات وبالجملة تأكيد وإيضاح .
وقوله تعالى : { وقال موسى لأخيه }*** . الآية ، المعنى : وقال موسى حين أراد المضي للمناجاة والمغيب فيها ، و { اخلفني } معناه كن خليفتي وهذا استخلاف في حياة كالوكالة التي تنقضي بعزل الموكل أو موته لا يقتضي أنه متمادٍ بعد وفاة فينحل على هذا ما تعلق به الإمامية في قولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف علياً بقوله أنت مني كهارون من «موسى » وقال موسى { اخلفني } فيترتب على هذا أن علياً خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما ذكرناه يحل هذا القياس ، وأمره في هذه الآية بالإصلاح ثم من الطرق الأخر في أن لا يتبع سبيل مفسد ، قال ابن جريج : كان من الإصلاح أن يزجر السامري ويغير عليه .