ثم حكى القرآن دعوة ثالثة تضرع بها إبراهيم إلى ربه فقال : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } .
القواعد : جمع قاعدة ، وهي أساس البناء الموالي للأرض ، وبها يكون ثبات البناء . ورفعها : إبرازها عن الأرض بالبناء عليها . والمراد بالبيت الكعبة .
والتقبل : القبول ، وقبول الله للعمل أن يرضاه أو يثيب عليه .
والمعنى : واذكر يا محمد ما صدر من الرسولين الكريمين إبراهيم وإسماعيل فقد كانا وهما يقومان برفع قواعد الكعبة إلى ويقولان : يا ربنا تقبل منا أقوالنا وأعمالنا ، إنك أنت السميع العليم .
وتصدير الدعاء بندائه - سبحانه - باسم الرب المضاف إلى ضميها مظهر من مظاهر خضوعهما ، وإجلالهما لمقامه ، والخضوع له - سبحانه - وإجلال مقامه من أسنى الآداب التي تجعل الدعاء بمقربة من الاستجابة .
وعبر بالمضارع فقال : { وَإِذْ يَرْفَعُ } مع أن رفع القواعد كان قبل نزول الآية ، وذلك ليخرجه في صورة الحاضر في الواقع لأهميته .
وختما دعاءهما بذكر اسمين من أسمائه الحسنى ، ليؤكدا أن رجاءهما في استجابة دعائهما وثيق ، وأن ما عملاه ابتغاء مرضاته جدير بالقبول . لأن من كان سميعاً عليماً بنيات الداعين وصدق ضمائرهم ، كان تفضله باستجابة دعاء المخلصين في طاعته غير بعيد .
هذه منقبة ثالثة لإبراهيم عليه السلام ، وتذكيرٌ بشرف الكعبة ، ووسيلة ثالثة إلى التعريض بالمشركين بعد قوله : { ربنا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لك ومن ذريتنا أُمَّةً مُسلمة } [ البقرة : 128 ] إلخ ، وتمهيد للرد على اليهود إنكارهم استقبال الكعبة الذي يجيء عند قوله تعالى : { سيقول السفهاء } [ البقرة : 142 ] ولأجل استقلالها بهاته المقاصد الثلاثة التي تضمنتها الآيات قبلها عطفت على سوابقها مع الاقتران بإذْ تنبيهاً على الاستقلال .
وخولف الأسلوب الذي يقتضيه الظاهر في حكاية الماضي أن يكون بالفعل الماضي بأن يقول وإذ رفع إلى كونه بالمضارع لاستحضارِ الحالة وحكايتها كأنها مشاهدة لأن المضارع دال على زمن الحال فاستعماله هنا استعارة تبعية ، شبه الماضي بالحال لشهرته ولتكرر الحديث عنه بينهم فإنهم لحبهم إبراهيم وإجلالهم إياه لا يزالون يذكرون مناقبه وأعظمها بناء الكعبة فشبه الماضي لذلك بالحال ولأن ما مضى من الآيات في ذكر إبراهيم من قوله : { وإذ ابتلى إبراهيم ربه } [ البقرة : 124 ] إلى هنا مما يوجب امتلاء أذهان السامعين بإبراهيم وشؤونه حتى كأنه حاضر بينهم وكأن أحواله حاضرة مشاهدة ، وكلمة ( إذ ) قرينة على هذا التنزيل لأن غالب الاستعمال أن يكون للزمن الماضي وهذا معنى قول النحاة أن إذ تخلص المضارع إلى الماضي .
والقواعد جمع قاعدة وهي أساس البناء الموالي للأرض الذي به ثبات البناء أطلق عليها هذا اللفظ لأنها أشبهت القاعد في اللصوق بالأرض فأصل تسمية القاعدة مجاز عن اللصوق بالأرض ثم عن إرادة الثبات في الأرض وهاء التأنيث فيها للمبالغة مثل هاء علاَّمة .
ورفع القواعد إبرازها من الأرض والاعتلاء بها لتصير جداراً لأن البناء يتصل بعضه ببعض ويصير كالشيء الواحد فالجدار إذا اتصل بالأساس صار الأساس مرتفعاً ، ويجوز جعل القواعد بمعنى جدران البيت كما سموها بالأركان ورفعها إطالتها ، وقد جعل ارتفاع جدران البيت تسعة أذرع . ويجوز أن يفاد من اختيار مادة الرفع دون مادة الإطالة ونحوها معنى التشريف ، وفي إثبات ذلك للقواعد كناية عن ثبوته للبيت ، وفي إسناد الرفع بهذا المعنى إلى إبراهيم مجاز عقلي لأن إبراهيم سبب الرفع المذكور أي بدعائه المقارن له . وعطف إسماعيل على إبراهيم تنويه به إذ كان معاونه ومناوله .
وللإشارة إلى التفاوت بين عمل إبراهيم وعمل إسماعيل أوقع العطف على الفاعل بعد ذكر المفعول والمتعلقات ، وهذا من خصوصيات العربية في أسلوب العطف فيما ظهر لي ولا يحضرني الآن مثله في كلام العرب ، وذلك أنك إذا أردت أن تدل على التفاوت بين الفاعلين في صدور الفعل تجعل عطف أحدهما بعد انتهاء ما يتعلق بالفاعل الأول ، وإذا أردت أن تجعل المعطوف والمعطوف عليه سواء في صدور الفعل تجعل المعطوف موالياً للمعطوف عليه .
وإسماعيل اسم الابن البكر لإبراهيم عليه السلام وهو ولده من جاريته هاجر القبطية ، ولد في أرض الكنعانيين بين قادش وبارد سنة 1910 عشر وتسعمائة وألف قبل ميلاد المسيح .
ومعنى إسماعيل بالعبرية سمع الله أي إجابة الله لأن الله استجاب دعاء أمه هاجر إذ خرجت حاملاً بإسماعيل مفارقة الموضع الذي فيه سارة مولاتها حين حدث لسارة من الغيرة من هاجر لما حملت هاجر ولم يكن لسارة أبناء يومئذ ، وقيل هو معرب عن يشمعيل بالعبرانية ومعناه الذي يسمع له الله ، ولما كبر إسماعيل رأى إبراهيم رؤيا وحي أن يذبحه فعزم على ذبحه ففداه الله ، وإسماعيل يومئذ الابن الوحيد لإبراهيم قبل ولادة إسحاق ، وكان إسماعيل مقيماً بمكة حول الكعبة ، وتوفي بمكة سنة 1773 ثلاث وسبعين وسبعمائة وألف قبل ميلاد المسيح تقريباً ، ودفن بالحجر الذي حول الكعبة .
وجملة { ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } مقول قول محذوف يقدر حالاً من { يرفع إبراهيم } وهذا القول من كلام إبراهيم لأنه الذي يناسبه الدعاء لذريته لأن إسماعيل كان حينئذ صغيراً .
والعدول عن ذكر القول إلى نطق المتكلم بما قاله المحكي عنه هو ضرب من استحضار الحالة قد مهد له الإخبار بالفعل المضارع في قوله : { وإذ يرفع } حتى كأن المتكلم هو صاحب القول وهذا ضرب من الإيغال .
وجملة { إنك أنت السميع العليم } تعليل لطلب التقبل منهما ، وتعريف جزءي هذه الجملة والإتيان بضمير الفصل يفيد قصرين للمبالغة في كمال الوصفين له تعالى بتنزيل سمع غيره وعلم غيره منزلة العدم . ويجوز أن يكون قصراً حقيقياً باعتبار متعلق خاص أي السميع العليم لدعائنا لا يعلمه غيرك وهذا قصر حقيقي مقيد وهو نوع مغاير للقصر الإضافي لم ينبه عليه علماء المعاني .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} يعني: أساس البيت الحرام...
فلما فرغا من بناء البيت، قالا: {ربنا تقبل منا}، يعني: بناء هذا البيت الحرام.
{إنك أنت السميع العليم} لدعائهما: {ربنا تقبل منا}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ": واذكروا إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت. والقواعد جمع قاعدة، يقال للواحدة من قواعد البيت قاعدة، وللواحدة من قواعد النساء وعجائزهن قاعد... وقواعد البيت: أساسه.
ثم اختلف أهل التأويل في القواعد التي رفعها إبراهيم وإسماعيل من البيت، أهما أحدثا ذلك، أم هي قواعد كانت له قبلهما؟
فقال قوم: هي قواعد بيت كان بناه آدم أبو البشر بأمر الله إياه بذلك، ثم درس مكانه وتعفى أثره بعده حتى بوأه الله إبراهيم عليه السلام، فبناه...
وقال آخرون: بل هي قواعد بيت كان الله أهبطه لاَدم من السماء إلى الأرض، يطوف به كما كان يطوف بعرشه في السماء، ثم رفعه إلى السماء أيام الطوفان، فرفع إبراهيم قواعد ذلك البيت...
وقال آخرون: بل كان موضع البيت ربوة حمراء كهيئة القبة. وذلك أن الله لما أراد خلق الأرض علا الماءَ زَبْدَةٌ حمراءُ أو بيضاءُ، وذلك في موضع البيت الحرام. ثم دحا الأرض من تحتها، فلم يزل ذلك كذلك حتى بوأه الله إبراهيم، فبناه على أساسه... وقالوا: على أركان أربعة في الأرض السابعة...
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن إبراهيم خليله أنه وابنه إسماعيل رفعا القواعد من البيت الحرام، وجائز أن يكون ذلك قواعد بيت كان أهبطه مع آدم، فجعله مكان البيت الحرام الذي بمكة. وجائز أن يكون ذلك كان القبة مما أنشأه الله من زَبَد الماء، وجائز أن يكون كان ياقوتة أو درّة أُهبطا من السماء، وجائز أن يكون كان آدم بناه ثم انهدم حتى رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل. ولا علم عندنا بأيّ ذلك كان من أَيَ، لأن حقيقة ذلك لا تُدرك إلا بخبر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم بالنقل المستفيض، ولا خبر بذلك تقوم به الحجة فيجب التسليم لها، ولا هو إذ لم يكن به خبر على ما وصفنا مما يدل عليه بالاستدلال والمقاييس فيمثل بغيره، ويستنبط علمه من جهة الاجتهاد، فلا قول في ذلك هو أولى بالصواب ما قلنا. والله تعالى أعلم.
{رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا}: يعني تعالى ذكره بذلك: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإسْمَاعِيلُ} يقولان: {رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا} وذكر أن ذلك كذلك في قراءة ابن مسعود، وهو قول جماعة من أهل التأويل... فتأويل الآية على هذا القول: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} قائلَيْنِ: ربنا تقبل منا.
وقال آخرون: بل قائل ذلك كان إسماعيل. فتأويل الآية على هذا القول: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت}، وإذ يقول إسماعيل: ربنا تقبل منا...
ثم اختلف أهل التأويل في الذي رفع القواعد بعد إجماعهم على أن إبراهيم كان ممن رفعها، فقال بعضهم: رفعها إبراهيم وإسماعيل جميعا.
وقال آخرون: بل رفع قواعد البيت إبراهيم، وكان إسماعيل يناوله الحجارة...
وقال آخرون: بل الذي رفع قواعد البيت إبراهيم وحده وإسماعيل يومئذ طفل صغير...
فمن قال: رفع القواعد إبراهيم وإسماعيل، أو قال رفعها إبراهيم وكان إسماعيل يناوله الحجارة. فالصواب في قوله أن يكون المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل، ويكون الكلام حينئذٍ: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإسْمَاعِيلُ} يقولان: رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا.
وقد كان يحتمل على هذا التأويل أن يكون المضمر من القول لإسماعيل خاصة دون إبراهيم، ولإبراهيم خاصة دون إسماعيل لولا ما عليه عامة أهل التأويل من أن المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل جميعا.
وأما على التأويل الذي روي عن عليّ أن إبراهيم هو الذي رفع القواعد دون إسماعيل، فلا يجوز أن يكون المضمر من القول عند ذلك إلا لإسماعيل خاصة.
والصواب من القول عندنا في ذلك أن المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل، وأن قواعد البيت رفعها إبراهيم وإسماعيل جميعا، وذلك أن إبراهيم وإسماعيل إن كانا هما بنياهما ورفعاها فهو ما قلنا، وإن كان إبراهيم تفرّد ببنائها، وكان إسماعيل يناوله، فهما أيضا رفعاها لأن رفعها كان بهما من أحدهما البناء ومن الاَخر نَقْلُ الحجارة إليها ومعونة وضع الأحجار مواضعها. ولا تمتنع العرب من نسبة البناء إلى من كان بسببه البناء ومعونته. وإنما قلنا ما قلنا من ذلك لإجماع جميع أهل التأويل على أن إسماعيل معنيّ بالخبر الذي أخبر الله عنه وعن أبيه أنهما كانا يقولانه، وذلك قولهما: {رَبّنَا تَقَبّلْ مِنّا إِنّكَ أَنْتَ السّمِيعُ العَلِيمُ} فمعلوم أن إسماعيل لم يكن ليقول ذلك إلا وهو إما رجل كامل، وإما غلام قد فهم مواضع الضرّ من النفع، ولزمته فرائض الله وأحكامه. وإذا كان في حال بناء أبيه، ما أمره الله ببنائه ورفعه قواعد بيت الله كذلك، فمعلوم أنه لم يكن تاركا معونة أبيه، إما على البناء، وإما على نقل الحجارة. وأيّ ذلك كان منه فقد دخل في معنى من رفع قواعد البيت، وثبت أن القول المضمر خبر عنه وعن والده إبراهيم عليهما السلام.
فتأويل الكلام: {وَإِذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} يقولان: ربنا تقبل منا عملنا وطاعتنا إياك وعبادتنا لك في انتهائنا إلى أمرك الذي أمرتنا به في بناء بيتك الذي أمرتنا ببنائه إنك أنت السميع العليم. وفي إخبار الله تعالى ذكره أنهما رفعا القواعد من البيت وهما يقولان: "رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا إِنّكَ أَنْتَ السّمِيعُ العَلِيمُ "دليل واضح على أن بناءهما ذلك لم يكن مسكنا يسكنانه ولا منزلاً ينزلانه، بل هو دليل على أنهما بنياه ورفعا قواعده لكل من أراد أن يعبد الله تقرّبا منهما إلى الله بذلك ولذلك قالا: {رَبّنا تَقَبّلْ منّا}. ولو كانا بنياه مسكنا لأنفسهما لم يكن لقولهما: تقبل منا وجه مفهوم، لأنه كانا يكونان لو كان الأمر كذلك سائلين أن يتقبل منهما ما لا قربة فيه إليه، وليس موضعهما مسألة الله قبول، ما لا قربة إليه فيه.
{إنّكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِيمُ}: إنك أنت السميع دعاءنا، ومسألتنا إياك قبول ما سألناك قبوله منا من طاعتك في بناء بيتك الذي أمرتنا ببنائه، العليم بما في ضمائر نفوسنا من الإذعان لك في الطاعة والمصير إلى ما فيه لك الرضا والمحبة، وما نُبدي ونُخفي من أعمالنا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فهكذا الواجب على كل مأمور بعبادة أو قربة إذا فرغ منها وأداها، أن يتضرع إلى الله ويبتهل ليقبل منه، ولا أن يرد عليه ليضيع سعيه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
نجْحُ السؤال في صدق الابتهال؛ فلما فزعا إلى الخضوع في الدعاء أتاهما المدد، وتحقيق السؤال. {إنك أنت السميع} لأقوالنا {العليم} بأحوالنا...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{القواعد} جمع قاعدة وهي... الأصل لما فوقه، وهي صفة غالبة، ومعناها الثابتة. ومنه قعّدك الله، أي أسأل الله أن يقعدك أي يثبتك.
ورفع الأساس: البناء عليها لأنها إذا بني عليها نقلت عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع وتطاولت بعد التقاصر... ومعنى رفع القواعد: رفعها بالبناء لأنه إذا وضع سافاً فوق ساف فقد رفع السافات. ويجوز أن يكون المعنى: وإذ يرفع إبراهيم ما قعد من البيت أي استوطأ يعني جعل هيئته القاعدة المستوطئة مرتفعة عالية بالبناء فإن قلت: هلا قيل: قواعد البيت، وأي فرق بين العبارتين؟ قلت: في إبهام القواعد وتبيينها بعد الإبهام ما ليس في إضافتها لما في الإيضاح بعد الإبهام من تفخيم لشأن المبين...
اعلم أن هذا هو النوع الرابع من الأمور التي حكاها الله تعالى عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وهو أنهما عند بناء البيت ذكرا ثلاثة من الدعاء...
{تقبل منا}... قال العارفون: فرق بين القبول والتقبل، فإن التقبل عبارة عن أن يتكلف الإنسان في قبوله، وذلك إنما يكون حيث يكون العمل ناقصا لا يستحق أن يقبل، فهذا اعتراف منهما بالتقصير في العمل، واعتراف بالعجز والانكسار، وأيضا فلم يكن المقصود إعطاء الثواب عليه، لأن كون الفعل واقعا موقع القبول من المخدوم ألذ عند الخادم العاقل من إعطاء الثواب عليه...
[و] إنما عقب هذا الدعاء بقوله: {إنك أنت السميع العليم} كأنه يقول: تسمع دعاءنا وتضرعنا، وتعلم ما في قلبنا من الإخلاص وترك الالتفات إلى أحد سواك. فإن قيل: قوله: {إنك أنت السميع العليم} يفيد الحصر وليس الأمر كذلك، فإن غيره قد يكون سميعا. قلنا: إنه سبحانه لكماله في هذه الصفة يكون كأنه هو المختص بها دون غيره...
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
49- فسؤالهما القبول في فعلهما مع أنهما- صلوات الله عليهما وسلامه- لا يفعلان إلا فعلا صحيحا، يدل على أن القبول غير لازم من الفعل الصحيح، ولذلك دعيا به أنفسهما (الفروق: 2/52)...
قال: إنما فصل بين إسماعيل وإبراهيم بالمفعول (ليظهر كمال المباينة بينهما) لأن إبراهيم هو متولي البناء وهو الذي كان يضع الحجر في الحائط وإسماعيل إنما كان يناوله خاصة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر بما مهده من أمر البيت ديناً ودنيا، أتبعه ببنائه مشيراً إلى ما حباهم به من النعمة وما قابلوه به من كفرها باختيارهم لأن يكونوا من غير الأمة المسلمة التي دعا لها لما دعا للرسول فقال عاطفاً على {إذ ابتلى} تعديداً لوجوه النعم على العرب بأبيهم الأعظم استعطافاً إلى التوحيد {وإذ يرفع إبراهيم} أي اذكر الوقت الذي يباشر بالرفع...
{القواعد من البيت} قال الحرالي: عدّد تعالى وجوه عنايته بسابقة العرب في هذه الآيات كما عدد وجوه نعمته على بني إسرائيل في سابقة الخطاب، فكانت هذه في أمر إقامة دين الله، وكانت تلك في محاولة مدافعته، ليظهر بذلك تفاوت ما بين الاصطفاء والعناية، والقاعدة ما يقعد عليه الشيء أي يستقر ويثبت...
ولما أفرد الخليل عليه السلام بهذا الرفع إظهاراً لشرفه بكونه هو السبب الأعظم في ذلك عطف عليه ولده فقال: {وإسماعيل} أي يرفع القواعد أيضاً.
ووصل بهذا العمل الشريف قوله: {ربنا} مراداً فيه القول محذوفاً منه أداة البعد: أي يقولان: {ربنا تقبل منا} أي عاملنا بفضلك ولا ترده علينا، إشعاراً بالاعتراف بالتقصير لحقارة العبد وإن اجتهد في جنب عظمة مولاه.
ولما تضمن سؤال القبول المشعر بخوف الرد علم الناقد البصير بالتقصير علله بقوله: {إنك} وأكده بقوله: {أنت السميع العليم} أي فإن كنت سمعت أو علمت منا حسناً فرده حسناً، وإن كنت سمعت أو علمت غير ذلك من نحو قول ناشئ عن اختلاج في النفس بما سببه كلال أو إعياء فاغفره...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
والتعرضُ لوصف الربوبية المنبئة عن إفاضة ما فيه صلاحُ المربوبِ مع الإضافة إلى ضميرهما عليهما السلام لتحريك سلسلةِ الإجابةِ...
وتركُ مفعول تقبّل مع ذكره في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء} [إبراهيم، الآية 40] ليعُم الدعاءُ وغيره من القُرَب والطاعات التي من جملتها ما هما بصدده من الثناء كما يُعرب عنه جعلُ الجملة الدعائية حالية {إِنَّكَ أَنتَ السميع} لجميع المسموعات التي من جملتها دعاؤُنا {العليم} بكل المعلومات التي من زُمرتها نياتُنا في جميع أعمالِنا
والجملة تعليلٌ لاستدعاء التقبّل لا من حيث إن كونَه تعالى سميعاً لدعائهما عليماً بنياتهما مصححٌ للتقبل في الجملة، بل من حيث إن علمَه تعالى بصحة نياتهما وإخلاصِهما في أعمالهما مستدعٍ له بموجَب الوعدِ تفضُّلاً.
وتأكيدُ الجملة لغرض كمالِ قوةِ يقينِهما بمضمونها، وقصرُ نعتي السمع والعلمِ عليه تعالى لإظهار اختصاصِ دعائهما به تعالى وانقطاعِ رجائهما عما سواه بالكلية... واعلم أن الظاهر أن أولَ ما جرى من الأمور المحكية هو الابتلاءُ وما يتبعه، ثم دعاءُ البلديةِ والأمنِ وما يتعلق به ثم رفعُ قواعدِ البيت وما يتلوه ثم جعلُه مثابةً للناس والأمرُ بتطهيره، ولعل تغيير الترتيب الوقوعيِّ في الحكاية لنظم الشؤون الصادرةِ عن جنابه تعالى في سلك مستقلٍ ونظمِ الأمور الواقعةِ من جهة إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهما السلام من الأفعال والأقوال في سلك آخرَ.
وأما قوله تعالى: ومن كفر الخ فإنما وقع في تضاعيف الأحوال المتعلقةِ بإبراهيم لاقتضاءِ المقام، واستيجابِ ما سبق من الكلام ذلك بحيث لم يكن بدٌّ منه أصلاً كما أن وقوعَ قوله عليه السلام: (ومن ذريتي) في خلال كلامِه سبحانه لذلك...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ذكر الله تعالى العرب أولا بنعمته عليهم بهذا البيت: أن جعله مثابة للناس وأمنا، وبدعاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام لبلد البيت واستجابة الله تعالى دعاءه إذ جعله بلدا آمنا تجبى إليه الثمرات من البلاد البعيدة فيتمتع أهله بها، وهي نعم يعرفونها لا ينكرها أحد، وانتقل منها إلى التذكير بالنعم المعنوية فذكر عهده إلى إبراهيم وإسماعيل بأن يطهرا بيته للطائفين والعاكفين والركع السجود لينبههم بإضافة البيت إلى نفسه أنه لا يليق أن يعبد فيه غيره، وبتطهيره لأجل الطواف والاعتكاف والصلاة أنه يجب تنزيهه عن الأصنام والتماثيل وعبادتها الفاسدة وعن سائر الأعمال الذميمة كطواف العريان وكانوا يفعلونه. ثم ذكرهم بعد هذا بأن إبراهيم هو الذي بنى هذا البيت بمساعدة ابنه إسماعيل وذكر لهم من دعائهما هنالك ما يرشدهم إلى العبادة الصحيحة والدين الحق ويجذبهم إلى الاقتداء بذلك السلف الصالح الذي ينتمون إليه ويفاخرون به، فإن قريشا كانت تنتسب إلى إبراهيم وإسماعيل بحق وتدعى أنها على ملة إبراهيم، ولذلك كانت ترى أنها أهدى من الفرس والروم. وسائر العرب تبع لقريش.
قوله تعالى {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} ظاهر في أنهما هما اللذان بنيا هذا البيت لعبادة الله تعالى في تلك البلاد الوثنية ولكن القصاصين ومن تبعهم من المفسرين جاءونا من ذلك بغير ما قصه الله تعالى علينا وتفننوا في رواياتهم عن قدم البيت وعن حج آدم ومن بعده من الأنبياء إليه وعن ارتفاعه إلى السماء في وقت الطوفان ثم نزوله مرة أخرى، وهذه الروايات يناقض، أو يعارض بعضها بعضا، فهي فاسدة في تناقضها وتعارضها، وفاسدة في عدم صحة أسانيدها، وفاسدة في مخالفتها لظاهر القرآن، ولم يستح بعض الناس من إدخالها في تفسير القرآن وإلصاقها به وهو بريء منها...
(الأستاذ الإمام): لو كان أولئك القصاصون يعرفون الماس لقالوا إن الحجر الأسود منه لأنه أبهج الجواهر منظرا وأكثرها بهاء، وقد أراد هؤلاء أن يزينوا الدين ويرقشوه برواياتهم هذه، ولكنها إذا راقت للبله من العامة فإنها لا تروق لأهل العقل والعلم الذين يعلمون أن الشريف هذا الضرب من الشرف المعنوي هو ما شرفه الله تعالى، فشرف هذا البيت إنما هو بتسمية الله تعالى إياه بيته، وجعله موضعا لضروب من عبادته لا تكون في غيره كما تقدم، لا بكون أحجاره تفضل سائر الأحجار، ولا بكون موقعه يفضل سائر المواقع، ولا بكونه من السماء، ولا بأنه من عالم الضياء، وكذلك شرف الأنبياء على غيرهم من البشر ليس لمزية في أجسامهم ولا في ملابسهم، وإنما هو لاصطفاء الله تعالى إياهم، وتخصيصهم بالنبوة التي هي أمر معنوي. وقد كان أهل الدنيا أحسن زينة وأكثر نعمة منهم.
وقد أفصح عن هذا المعنى الذي قرره الأستاذ الإمام أمير المؤمنين ومشيد دعائم الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إذ قال عند استلام الحجر الأسود "أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك: ثم دنا فقبله "رواه أبو بكر بن أبي شيبة والإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم من عدة طرق...
ومن مباحث اللفظ في الجملة: أن القواعد جمع قاعدة وهي ما يقعد ويقوم عليه البناء من الأساس أو من الساقات، ورفعها إعلاء البناء عليها أو إعلاؤها نفسها على الخلاف و "من البيت" قال الجلال إنه متعلق بيرفع، وهذا إنما يصح إذا أريد بالبيت العرصة أو البقعة التي وقع فيها البناء، والأكثرون على أن "من" للبيان وعليه يكون البيت بمعنى نفس البناء والجدران، وهناك قول ثالث وهو أن "من" للتبعيض بناء على أن البيت مجموع العرصة والبناء،.
قال الأستاذ الإمام: وفي الكلام نكتة لطيفة وهي أن ذكر القواعد أولا ينبه الذهن ويحركه إلى طلب معرفة القواعد ما هي؟ وقواعد أي شيء هي؟ فإذا جاء البيان بعد ذلك كان أحسن وقعا في النفس، وأشد تمكنا في الذهن، وأما النكتة في تأخير ذكر إسماعيل عن ذكر المفعول، مع أن الظاهر أن يقال: وإذ يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت: فهي الإلماع إلى كون المأمور من الله ببناء البيت هو إبراهيم، وإنما كان إسماعيل مساعدا له وقد ورد أنه كان يناوله الحجارة...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
وفي الآية إشارة إلى أن كل مأمور بعبادة إذا فرغ منها وأداها كما أمر وبذل أقصى الوسع في ذلك – فعليه أن يتضرع إلى الله ويبتهل، ليتقبل منه ما عمل ولا يرده خائبا ولا يضيع سعيه سدى، كما أنه لا ينبغي أن يجزم بأن عبادته متقبلة، ولولا ذلك لما كان لهذا التضرع فائدة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يرسم مشهد تنفيذ إبراهيم وإسماعيل للأمر الذي تلقياه من ربهما بإعداد البيت وتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود.. يرسمه مشهودا كما لو كانت الأعين تراهما اللحظة وتسمعهما في آن...
إن التعبير يبدأ بصيغة الخبر.. حكاية تحكى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل)..
وبينما نحن في انتظار بقية الخبر، إذا بالسياق يكشف لنا عنهما، ويرينا إياهما، كما لو كانت رؤية العين لا رؤيا الخيال. إنهما أمامنا حاضران، نكاد نسمع صوتيهما يبتهلان: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم... فنغمة الدعاء، وموسيقى الدعاء، وجو الدعاء.. كلها حاضرة كأنها تقع اللحظة حية شاخصة متحركة. وتلك إحدى خصائص التعبير القرآني الجميل. رد المشهد الغائب الذاهب، حاضرا يسمع ويرى، ويتحرك ويشخص، وتفيض منه الحياة..
إنها خصيصة "التصوير الفني "بمعناه الصادق، اللائق بالكتاب الخالد...
وماذا في ثنايا الدعاء؟ إنه أدب النبوة، وإيمان النبوة، وشعور النبوة بقيمة العقيدة في هذا الوجود. وهو الأدب والإيمان والشعور الذي يريد القرآن أن يعلمه لورثة الأنبياء، وأن يعمقه في قلوبهم ومشاعرهم بهذا الإيحاء: (ربنا تقبل منا. إنك أنت السميع العليم).. إنه طلب القبول.. هذه هي الغاية.. فهو عمل خالص لله. الاتجاه به في قنوت وخشوع إلى الله. والغاية المرتجاة من ورائه هي الرضى والقبول.. والرجاء في قبوله متعلق بأن الله سميع للدعاء. عليم بما وراءه من النية والشعور...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه منقبة ثالثة لإبراهيم عليه السلام، وتذكيرٌ بشرف الكعبة، ووسيلة ثالثة إلى التعريض بالمشركين بعد قوله: {ربنا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لك ومن ذريتنا أُمَّةً مُسلمة} [البقرة: 128] إلخ، وتمهيد للرد على اليهود إنكارهم استقبال الكعبة الذي يجيء عند قوله تعالى: {سيقول السفهاء} [البقرة: 142] ولأجل استقلالها بهاته المقاصد الثلاثة التي تضمنتها الآيات قبلها عطفت على سوابقها مع الاقتران بإذْ تنبيهاً على الاستقلال...
وخولف الأسلوب الذي يقتضيه الظاهر في حكاية الماضي أن يكون بالفعل الماضي بأن يقول وإذ رفع إلى كونه بالمضارع لاستحضارِ الحالة وحكايتها كأنها مشاهدة لأن المضارع دال على زمن الحال فاستعماله هنا استعارة تبعية، شبه الماضي بالحال لشهرته ولتكرر الحديث عنه بينهم فإنهم لحبهم إبراهيم وإجلالهم إياه لا يزالون يذكرون مناقبه وأعظمها بناء الكعبة فشبه الماضي لذلك بالحال ولأن ما مضى من الآيات في ذكر إبراهيم من قوله: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه} [البقرة: 124] إلى هنا مما يوجب امتلاء أذهان السامعين بإبراهيم وشؤونه حتى كأنه حاضر بينهم وكأن أحواله حاضرة مشاهدة.
وكلمة (إذ) قرينة على هذا التنزيل لأن غالب الاستعمال أن يكون للزمن الماضي وهذا معنى قول النحاة أن إذ تخلص المضارع إلى الماضي...
{إنك أنت السميع العليم}... ويجوز أن يكون قصراً حقيقياً باعتبار متعلق خاص أي السميع العليم لدعائنا لا يعلمه غيرك وهذا قصر حقيقي مقيد وهو نوع مغاير للقصر الإضافي لم ينبه عليه علماء المعاني...