التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَأَسِرُّواْ قَوۡلَكُمۡ أَوِ ٱجۡهَرُواْ بِهِۦٓۖ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (13)

ثم بين - سبحانه - بأبلغ أسلوب ، أن السر يتساوى مع العلانية بالنسبة لعلمه - تعالى - فقال : { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور . . . } .

وقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآية ، أن المشركين كانوا ينالون من النبى صلى الله عليه وسلم فلما أطلعه الله - تعالى - على أمرهم ، فقال بعضهم لبعض : أسروا قولكم كي لا يسمعه رب محمد . .

وصيغة الأمر في قوله : { وَأَسِرُّواْ } و { اجهروا } مستعملة في التسوية بين الأمرين ، كما في قوله - تعالى - { فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ . . . }

أي : إن إسراركم - أيها الكافرون - بالإِساءة إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم - أو جهركم بهذه الإِساءة ، يستويان في علمنا ، لأننا لا يخفى علينا شئ من أحوالكم ، فسواء عندنا من أسر منكم القول ومن جهر به .

وجملة { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } تعليق للتسوية المستفادة من صيغة الأمر ، أي : سواء في علمه - تعالى- إسراركم وجهركم ، لأنه - سبحانه - عليم علما تاما بما يختلج في صدوركم ، وما يدور في نياتكم التي هي بداخل قلوبكم .

وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد }

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَأَسِرُّواْ قَوۡلَكُمۡ أَوِ ٱجۡهَرُواْ بِهِۦٓۖ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (13)

عطف على الجمل السابقة عطف غرض على غرض ، وهو انتقال إلى غرض آخر لِمناسبة حكاية أقوالهم في الآخرة بذكر أقوالهم في الدنيا وهي الأقوال التي كانت تصدر منهم بالنيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان الله يطلعه على أقوالهم فيخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنكم قلتم كذا وكذا ، فقال بعضهم لبعض : أسروا قولكم كيلا يسمعه رب محمد فأنزل الله { وأسروا قولكم أو اجهروا به } كذا روي عن ابن عباس .

وصيغة الأمر في { وأسروا } و { اجهروا } مستعملة في التسوية كقوله تعالى : { فاصبروا أو لا تصبروا } [ الطور : 16 ] ، وهذا غالب أحوال صيغة افعل إذا جاءت معها { أو } عاطفة نقيض أحد الفعلين على نقيضه .

فقوله : { إنه عليم بذات الصدور } تعليل للتسوية المستفادة من صيغة الأمر بقرينة المقام وسبب النزول ، أي فسواء في علم الله الإِسرار والإِجهار لأن علمه محيط بما يختلج في صدور الناس بَلْهَ ما يسرون به من الكلام ، ولذلك جيء بوصف عليم إذ العليم من أمثلة المبالغة وهو القويّ علمُه .

وضمير { إنه } عائد إلى الله تعالى المعلوم من المقام ، ولا معاد في الكلام يعود إليه الضمير ، لأن الاسم الذي في جملة { إن الذين يخشون ربهم بالغيب } [ الملك : 12 ] لا يكون معاداً لكلام آخر .

و ( ذات الصدور ) مَا يتردد في النفس من الخواطر والتقادير والنوايا على الأعمال . وهو مركب من ( ذات ) التي هي مؤنث ( ذُو ) بمعنى صاحب ، و { الصدور } بمعنى العقول وشأن ( ذُو ) أن يضاف إلى ما فيه رفعة .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَأَسِرُّواْ قَوۡلَكُمۡ أَوِ ٱجۡهَرُواْ بِهِۦٓۖ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (13)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

{وأسروا قولكم أو اجهروا به}: وأخفوا قولكم وكلامكم أيها الناس أو أعلنوه وأظهروه.

"إنّهُ عَلِيمٌ بذَاتِ الصّدُورِ ": إنه ذو علم بضمائر الصدور التي لم يُتَكَلّم بها، فكيف بما نطق به وتكلم به، أخفى ذلك أو أعلن، لأن من لم تخف عليه ضمائر الصدور، فغيرها أحرى أن لا يخفي عليه...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{وأسرّوا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور}: إنه عالم بالأنفس التي فيها الصدور، بما يضمرون فيها، ويودعون، ويكتمون، وبما يخبرون عما أودعوا، ويظهرون. والصدر هو ساحة القلب، سمي صدرا، لأن الآراء تصدر عنها، فهو عالم بالأنفس التي لها الصدور بما يصدر عن آرائهم، وعالم بما يضمر فيها من الأسرار...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ}. خوَّفَهم بِعلْمِه، ونَدَبَهم إلى مراقبته، لأنه يعلم السِّرَّ وأخفى، ويسمع الجَهْرَ والنجوى ....

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

ظاهره الأمر بأحد الأمرين: الإسرار والإجهار. ومعناه: لِيَستَوِ عندكم إسراركم وإجهاركم في علم الله بهما، ثم أنه علله ب (إنه عليم بذات الصدور) أي بضمائرها قبل أن تترجم الألسنة عنها، فكيف لا يعلم ما تكلم به.

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

{وأسروا قولكم}: خطاب لجميع الخلق...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

أي: بما خطر في القلوب...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ثم علل ذلك مؤكداً لأجل ما للناس من استبعاد ذلك بقوله: {إنه} أي ربكم {عليم} أي بالغ العلم {بذات الصدور} أي بحقيقتها وكنهها، وحالها وجبلتها، وما يحدث عنها، سواء كانت قد تخيلته ولم تعبر عنه، أو كان مما لم تتخيله بعد، بدليل ما يخبر به سبحانه وتعالى عنهم مما وقع وهم يخفونه، أو لم يقع بعد ثم يقع كما أخبر به سبحانه...

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

وتقديمُ السرِّ على الجهرِ، للإيذانِ بافتضاحِهِم، ووقوعِ ما يحذرونَهُ من أولِ الأمرِ، والمبالغةِ في بيانِ شمولِ علمِهِ المحيطِ لجميعِ المعلوماتِ، كأنَّ علمَهُ تعالَى بما يُسرُّونَهُ أقدرُ منهُ بما يجهرونَ بهِ، مع كونِهِما في الحقيقةِ على السويةِ...، أو لأنَّ مرتبةَ السرِّ متقدمةٌ على مرتبةِ الجهرِ، إذْ مَا من شيءٍ يُجهرُ بهِ، إلا وهُو أو مباديهِ مضمرٌ في القلبِ، يتعلقُ بهِ الأسرارُ غالباً، فتعلقُ علمه تعالَى بحالتِهِ الأُولى متقدمٌ على تعلقِهِ بحالتِهِ الثانيةِ.

وقولُهُ تعالَى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} تعليلٌ لما قبلَهُ، وتقريرٌ لهُ. وفي صيغةِ الفعيلِ، وتحليةِ الصدورِ بلامِ الاستغراقِ، ووصفِ الضمائرِ بصاحبِيتِها، من الجزالةِ ما لا غايةَ وراءَهُ، كأنَّهُ قيلَ إنه مبالغٌ في الإحاطةِ بمضمراتِ جميعِ الناسِ وأسرارِهِم الخفيةِ المستكنةِ في صدورِهِمْ، بحيثُ لا تكادُ تفارقُها أصلاً، فكيفَ يَخْفى عليهِ ما تُسرُّونَهُ وتجهرونَ بهِ، ويجوزُ أنْ يُرَادَ بذاتِ الصُّدورِ، القلوبُ التي في الصدرِ، والمعنى أنه عليمٌ بالقلوبِ وأحوالِهَا، فلا يَخْفَى عليهِ سرٌّ من أسرارِهَا...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وهذه الآية السابقة تربط ما قبلها في السياق بما بعدها، في تقرير علم الله بالسر والجهر، وهو يتحدى البشر. وهو الذي خلق نفوسهم، ويعلم مداخلها ومكامنها، التي أودعها إياها: وأسروا قولكم أو اجهروا به، أنه عليم بذات الصدور. ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟. أسروا أو اجهروا فهو مكشوف لعلم الله سواء. وهو يعلم ما هو أخفى من الجهر والسر. (إنه عليم بذات الصدور) التي لم تفارق الصدور! عليم بها، فهو الذي خلقها في الصدور، كما خلق الصدور!...