التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱذۡكُر رَّبَّكَ فِي نَفۡسِكَ تَضَرُّعٗا وَخِيفَةٗ وَدُونَ ٱلۡجَهۡرِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ ٱلۡغَٰفِلِينَ} (205)

ثم اختتمت السورة الكريمة بالحديث عن ذكر الله الذي هو طب القلوب ودواؤها وعافية الأبدان وشفاؤها فقالت : { واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ . . . } .

أى : استحضر عظمة ربك - جل جلاله - في قلبك . واذكره بما يقربك إليه عن طريق قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتحميد والتهليل وغير ذلك .

وقوله { تَضَرُّعاً وَخِيفَةً } في موضع الحال بتأويل اسم الفاعل أى : اذكره متضرعا متذللا له وخائفا منه - سبحانه - :

وقوله { وَدُونَ الجهر مِنَ القول } معطوف على قوله { فِي نَفْسِكَ } أى : اذكر ربك ذكراً في نفسك ، وذكرا بلسانك دون الجهر .

والمراد بالجهر : رفع الصوت بإفراط ، وبما دونه مما هو أقل منه ، وهو الوسط بين الجهر والمخافتة ، قال ابن عباس : هو أن يسمع نفسه .

وقوله { بالغدو والآصال } متعلق باذكر ، والغدو جمع غدوة وهو ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس .

والآصال جمع أصيل وهو من العصر إلى الغروب .

أى : اذكر ربك مستحضرا عظمته ، في كل وقت ، وراقبه في كل حال ، لا سيما في هذين الوقتين لأنهما طرفا النهار ومن افتتح نهاره بذكر الله واختتمه به كان جديرا برعاية ربه .

قيل : وخص هذان الوقتان بالذكر لأنهما وقت سكون ودعة وتعبد واجتهاد . وما بينهما من أوقات الغالب فيها الانقطاع لأمر المعاش .

ثم نهى - سبحانه - عن الغفلة عن ذكره فقال : { وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الغافلين } الذين شغلتهم الدنيا عن ذكر الله .

وفيه إشعار بطلب دوام ذكره - تعالى - واستحضار عظمته وجلاله وكبريائه بقدر الطاقة البشرية .

قال بعض العلماء : ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن للذكر آدابا من أهمها :

1 - أن يكون في النفس لأن الإخفاء أدخل في الإخلاص ، وأقرب إلى الإجابة ، وأبعد من الرياء .

2 - أن يكون على سبيل التضرع وهو التذلل والخضوع والاعتراف بالتقصير .

3 - أن يكون على وجه الخيفة أى الخوف والخشية من سلطان الربوبية وعظمة الألوهية من المؤاخذة على التقصير في العمل لتخشع النفس ويخضع القلب .

4 - أن يكون دون الجهر لأنه أقرب إلى حسن التفكر ، وفى الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى قال : " رفع الناس أصواتهم بالدعاء في بعض الأسفار ، فقال لهم النبى صلى الله عليه وسلم يأيها الناس : اربعوا على أنفسكم - أى هونوا على أنفسكم - فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً . إن الذي تدعونه سميع قريب ، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته " .

5 - أن يكون باللسان لا بالقلب وحده ، وهو مستفاد من قوله { وَدُونَ الجهر } لأن معناه ومتكلما كلاماً دون الجهر ، فيكون صفة لمعمول حال محذوفة ، معطوفاً على { تَضَرُّعاً } أو هو معطوف على { فِي نَفْسِكَ } أى : اذكره ذكراً في نفسك وذكراً بلسانك دون الجهر .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱذۡكُر رَّبَّكَ فِي نَفۡسِكَ تَضَرُّعٗا وَخِيفَةٗ وَدُونَ ٱلۡجَهۡرِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ ٱلۡغَٰفِلِينَ} (205)

إقبال بالخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم فيما يختص به ، بعد أن أمر بما أمر بتبليغه من الآيات المتقدمة ، والمناسبة في هذا الانتقال أن أمر الناس باستماع القرآن يستلزم أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بقراءة القرآن عليهم قراءة جهرية يسمعونها ، فلما فرغ الكلام من حظ الناس نحو قراءة الرسول عليه الصلاة والسلام ، أقبل على الكلام في حظ الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن وغيره ، وهو التذكر الخاص به ، فأمر بأن يذكر الله ما استطاع وكيفما تسنى له ، وفي أوقات النهار المختلفة ، فجملة { واذكر ربك } معطوفة على الجمل السابقة من قوله : { إن وليي الله } [ الأعراف : 196 ] إلى هنا .

والنفس اسم للقوة التي بها الحياة ، فهي مرادفة الروح ، وتطلق على الذات المركبة من الجسد والروح ، ولكون مقر النفس في باطن الإنسان أطلقت على أمور باطن الإنسان من الإدراك والعقل كما في قوله تعالى حكاية عن عيسى { تعلم ما في نفسي } [ المائدة : 116 ] وقد مضى في سورة المائدة ، ومن ذلك يتطرق إلى إطلاقها على خويصة المرء ، ومنه قوله في الحديث القدسي في « صحيح البخاري » " وإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي وإن ذكرني في ملإٍ ذكرته في ملإٍ خيرِ منهم " فقابل قوله : في نفسه بقوله : في ملإ .

والمعنى : اذكر ربك وأنت في خلوتك كما تذكره في مجامع الناس .

والذكر حقيقة في ذكر اللسان ، وهو المراد هنا ، ويعضده قوله : { ودونَ الجهر من القول } وذلك يشمل قراءة القرآن وغيرَ القرآن من الكلام الذي فيه تمجيد الله وشكره ونحو ذلك ، مثل كلمة التوحيد والحوقلة والتسبيح والتكبير والدعاء ونحو ذلك .

و« التضرع » التذلل ولما كان التذلل يستلزم الخطاب بالصوت المرتفع في عادة العرب كني بالتضرع عن رفع الصوت مراداً به معناه الأصلي والكنائي ، ولذلك قوبل بالخُفيه في قوله { ادعوا ربكم تضرعاً وخفيةً } في أوائل هذه السورة ( 55 ) وقد تقدم .

وقوبل التضرع هنا بالخيفة وهي اسم مصدر الخوف ، فهو من المصادر التي جاءت على صيغة الهيئة وليس المراد بها الهيئة ، مثل الشدة ، ولما كانت الخيفة انفعالا نفسياً يجده الإنسان في خاصة نفسه كانت مستلزمة للتخافت بالكلام خشية أن يَشعُر بالمرء من يخافه . فلذلك كني بها هنا عن الإسرار بالقول مع الخوف من الله ، فمقابلتُها بالتضرع طباق في معنيي اللفظين الصريحين ومعنييهما الكناءين ، فكأنه قيل تضرعاً وإعلاناً وخيفة وإسراراً .

وقوله : { ودون الجهر من القول } هو مقابل لكل من التضرع والخيفة وهو الذكر المتوسط بين الجهر والإسرار ، والمقصود من ذلك استيعاب أحوال الذكر باللسان ، لأن بعضها قد تكون النفس أنشط إليه منها إلى البعض الآخر .

و ( الغُدو ) اسم لزمن الصباح وهو النصف الأول من النهار .

و ( الآصال ) جمع أصيل وهو العشي وهو النصف الثاني من النهار إلى الغروب .

والمقصود استيعاب أجزاء النهار بحسب المتعارف ، فأما الليل فهو زمن النوم ، والأوقات التي تحصل فيها اليقظة خصت بأمر خاص مثل قوله تعالى : { قم الليل إلا قليلاً } [ المزمل : 2 ] على أنها تدخل في عموم قوله : { ولا تكن من الغافلين } .

فدل قوله : { ولا تكن من الغافلين } على التحذير من الغفلة عن ذكر الله ولاحد للغفلة ، فإنها تحدد بحال الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أعلم بنفسه . فإن له أوقاتاً يتلقى فيها الوحي وأوقات شؤون جِبِلّية كالطعام .

وهذا الأمر خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام ، وكل ما خص به الرسول عليه الصلاة والسلام من الوجوب يستحسن للأمة اقتداؤهم به فيه إلا ما نهوا عنه مثل الوصال في الصوم .

وقد تقدم أن نحو { ولا تكن من الغافلين } أشد في الانتفاء وفي النهي من نحو : ولا تغفل ، لأنه يفرض جماعة يحق عليهم وصف الغافلين فيحذر من أن يكون في زمرتهم وذلك أبْين للحالة المنهي عنها .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَٱذۡكُر رَّبَّكَ فِي نَفۡسِكَ تَضَرُّعٗا وَخِيفَةٗ وَدُونَ ٱلۡجَهۡرِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ ٱلۡغَٰفِلِينَ} (205)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: واذكر أيها المستمع المنصت للقرآن إذا قرئ في صلاة أو خطبة، "رَبّكَ فِي نَفْسِكَ "يقول: اتعظ بما في آي القرآن، واعتبر به، وتذكّر معادك إليه عند سماعكه. "تَضَرّعا" يقول: افعل ذلك تخشعا لله وتواضعا له. "وَخِيفَةً" يقول: وخوفا من الله أن يعاقبك على تقصير يكون منك في الاتعاظ به والاعتبار، وغفلة عما بين الله فيه من حدوده. "ودُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ" يقول: ودعاء باللسان لله في خفاء لا جهار، يقول: ليكن ذكر الله عند استماعك القرآن في دعاء إن دعوت غير جهار، ولكن في خفاء من القول...

وأما قوله: "بالغدُوّ والآصالِ" فإنه يعني بالبكر والعشيات...

وأما الاَصال فهي فيما يقال في كلام العرب ما بين العصر إلى المغرب.

وأما قوله: "ولا تَكُنْ مِن الغافِلِين" فإنه يقول: ولا تكن من اللاهين إذا قرئ القرآن عن عظاته وعبره وما فيه من عجائبه، ولكن تدبر ذلك وتفهّمه، وأشعره قلبك بذكر الله وخضوع له وخوف من قدرة الله عليك، إن أنت غفلت عن ذلك...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

اختلف أهل التأويل في الذكر الذي ذكر في الآية. منهم من صرف التأويل إلى كل ذكر، ومنهم من صرفه إلى التلاوة. فإن كان ذكر الغدوّ والآصال كناية عن الليل والنهار فهو ذكر أحواله؟ يذكر الله عز وجل، بنعمه وإحسانه، ويذكره بنعمه وشكره، أو يذكره بقدرته وسلطانه، وذلك يحمله على الخضوع له والتواضع، أو يذكر أمره ونهيه ووعده ووعيده. وذلك يوجب الإقرار بالتقصير والخوف لعقوبته والرغبة في وعده. كأنه قال: {واذكر ربك في} كل حال من الليل والنهار إما لنعمه وإحسانه وإما لإقرار بالتقصير في أمره ونهيه وإما لخوف وعيده وإما لرغبة بوعده. فكأنه قال: {واذكر ربك} تضرّعا وتواضعا وخفية مع الخوف. وإن كان تأويل الغدوّ والآصال كناية عن الغداة والعشيّ فهو كناية عن التلاوة، وهو ما سبق من ذكر التلاوة من قوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} [الأعراف: 204] وقوله تعالى: {هذا بصائر من ربكم} [الأعراف: 203] وهو قوله تعالى: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} [الإسراء: 110] وتأويله، والله أعلم: {ولا تجهر بصلاتك}، في بعض صلاتك {ولا تخافت بها} في بعضها، أو أن يقال: لا تجهر جهر العالي، ولا تخافت غاية المخافتة، ولكن بين ذلك، أو أن يقول: لا تشتغل بالجهر ولا بالمخافتة، ولكن اقرأ لما فيه. فعلى ذلك قوله تعالى: {واذكر ربك في نفسك تضرّعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدوّ والآصال} وقرأ بعضهم: وخفية وهو من الإخفاء حيث قال: {واذكر ربك في نفسك} وأما ظاهر القراءة فهو {وخيفة} وهو من الخوف...

[وقوله تعالى]: {ولا تكن من الغافلين} معلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن من الغافلين في حال، ولكن قال ذلك على النهي لأمّته كقوله تعالى: {فلا تكوننّ من الممترين} [البقرة: 147] [وقوله تعالى]: {ولا تكوننّ من المشركين} [الأنعام: 14] ونحوه نهاه أن يكون ما ذكر لما ذكرنا نهيا لغيره، والله أعلم...

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً}. قال أبو بكر: الذكر على وجهين، أحدهما: الفكر في عظمة الله وجلاله ودلائل قدرته وآياته، وهذا أفضل الأذكار إذْ به يستحق الثواب على سائر الأذكار سواه، وبه يتوصل إليه. والذكر الآخر: القول، وقد يكون ذلك الذكر دعاء وقد يكون ثناء على الله تعالى ويكون قراءة للقرآن ويكون دعاء للناس إلى الله؛ وجائز أن يكون المراد الذكرين جميعاً من الفكر والقول فيكون قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ} هو الفكر في دلائل الله وآياته. وقوله تعالى: {ودون الجهر من القول} فيه نصّ على الذكر باللسان، وهذا الذكر يجوز أن يريد به قراءة القرآن وجائز أن يريد الدعاء، فيكون الأفضل في الدعاء الإخفاء، على نحو قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} وإن أراد به قراءة القرآن كان في معنى قوله: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً} [الإسراء: 110]. وقيل: إنما كان إخفاءُ الدعاء أفضل لأنه أبعد من الرياء وأقرب من الإخلاص وأجدر بالاستجابة، إذ كانت هذه صفته. وقيل: إن ذلك خطاب للمستمع للقرآن لأنه معطوف على قوله: {وإذا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}. وقيل: إنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى عام لسائر المكلفين...

جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :

بين المراتب والأوقات، والذكر الخفي أجمل، إذ ليس فيه أذى لسامعه، وهو خالص عن الرياء والنفاق مثل صوم السر وصدقته، والحث عليه كثير...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} هو عام في الأذكار من قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتهليل وغير ذلك {تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} متضرعاً وخائفاً {وَدُونَ الجهر} ومتكلماً كلاماً دون الجهر، لأنّ الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب إلى حسن التفكر {بالغدو والأصال} لفضل هذين الوقتين، أو أراد الدوام...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وقوله تعالى: {واذكر ربك في نفسك} الآية، مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم تعم جميع أمته وهو أمر من الله عز وجل بذكره وتسبيحه وتقديسه والثناء عليه بمحامده، والجمهور على أن الذكر لا يكون في النفس ولا يراعى إلا بحركة اللسان، ويدل على ذلك من هذه الآية قوله: {ودون الجهر من القول} فهذه مرتبة السر والمخافتة باللفظ، و {تضرعاً} معناه تذللاً وخضوعاً، {خيفة}... وقوله {بالغدو والآصال} معناه دأباً وفي كل يوم وفي أطراف النهار، وقالت فرقة هذه الآية كانت في صلاة المسلمين قبل فرض الصلوات الخمس، وقال قتادة: «الغدو» صلاة الصبح و {الآصال} صلاة العصر...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

أنه تعالى أمر رسوله بالذكر مقيدا بقيود. القيد الأول: {واذكر ربك في نفسك} والمراد بذكر الله في نفسه كونه عارفا بمعاني الأذكار التي يقولها بلسانه مستحضرا لصفات الكمال والعز والعلو والجلال والعظمة، وذلك لأن الذكر باللسان إذا كان عاريا عن الذكر بالقلب كان عديم الفائدة...

القيد الثاني: من القيود المعتبرة في الذكر حصول التضرع، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {تضرعا} وهذا القيد معتبر، ويدل عليه القرآن، والمعقول. أما القرآن فقوله في سورة الأنعام {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخيفة} وأما المعقول: فلأن كمال حال الإنسان إنما يحصل بانكشاف أمرين: أحدهما: عزة الربوبية، وهذا المقصود، إنما يتم بقوله: {واذكر ربك في نفسك} الثاني: بمشاهدة ذلة العبودية وذلك إنما يكمل بقوله: {تضرعا} فالانتقال من الذكر إلى التضرع يشبه النزول من المعراج، والانتقال من التضرع إلى الذكر يشبه الصعود، وبهما يتم معراج الأرواح القدسية... القيد الرابع: قوله: {ودون الجهر من القول} والمراد منه أن يقع ذلك الذكر بحيث يكون متوسطا بين الجهر والمخافتة كما قال تعالى: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا} وقال عن زكريا عليه السلام: {إذ نادى ربه نداء خفيا} قال ابن عباس: وتفسير قوله: {ودون الجهر من القول} المعنى أن يذكر ربه على وجه يسمع نفسه، فإن المراد حصول الذكر اللساني، والذكر اللساني إذا كان بحيث يسمع نفسه، فإنه يتأثر الخيال من ذلك الذكر، وتأثر الخيال يوجب قوة في الذكر القلبي الروحاني، ولا يزال يتقوى كل واحد من هذه الأركان الثلاثة، وتنعكس أنوار هذه الأذكار من بعضها إلى بعض، وتصير هذه الانعكاسات سببا لمزيد القوة والجلاء والانكشاف والترقي من حضيض ظلمات عالم الأجسام إلى أنوار مدبر النور والظلام.

والقيد الخامس: قوله: {بالغدو والآصال}... خص الغدو والآصال بهذا الذكر، والحكمة فيه أن عند الغدوة انقلب الإنسان من النوم الذي هو كالموت إلى اليقظة التي هي كالحياة، والعالم انقلب من الظلمة التي هي طبيعة عدمية إلى النور الذي هو طبيعة وجودية. وأما عند الآصال فالأمر بالضد لأن الإنسان ينقلب فيه من الحياة إلى الموت، والعالم ينقلب فيه من النور الخالص إلى الظلمة الخالصة، وفي هذين الوقتين يحصل هذان النوعان من التغيير العجيب القوي القاهر ولا يقدر على مثل هذا التغيير إلا الإله الموصوف بالحكمة الباهرة والقدرة الغير المتناهية، فلهذه الحكمة العجيبة خص الله تعالى هذين الوقتين بالأمر بالذكر. ومن الناس من قال: ذكر هذين الوقتين والمراد مداومة الذكر والمواظبة عليه بقدر الإمكان. عن ابن عباس أنه قال في قوله: {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} لو حصل لابن آدم حالة رابعة سوى هذه الأحوال لأمر الله بالذكر عندها والمراد منه أنه تعالى أمر بالذكر على الدوام. والقيد السادس: قوله تعالى: {ولا تكن من الغافلين} والمعنى أن قوله: {بالغدو والآصال} دل على أنه يجب أن يكون الذكر حاصلا في كل الأوقات وقوله: {ولا تكن من الغافلين} يدل على أن الذكر القلبي يجب أن يكون دائما، وأن لا يغفل الإنسان لحظة واحدة عن استحضار جلال الله وكبريائه بقدر الطاقة البشرية والقوة الإنسانية، وتحقيق القول، أن بين الروح وبين البدن علاقة عجيبة، لأن كل أثر حصل في جوهر الروح نزل منه أثر إلى البدن، وكل حالة حصلت في البدن صعدت منها نتائج إلى الروح، ألا ترى أن الإنسان إذا تخيل الشيء الحامض ضرس سنه، وإذا تخيل حالة مكروهة وغضب سخن بدنه، فهذه آثار تنزل من الروح إلى البدن، وأيضا إذا واظب الإنسان على عمل من الأعمال وكرر مرات وكرات حصلت ملكة قوية راسخة في جوهر النفس فهذه آثار صعدت من البدن إلى النفس. إذا عرفت هذا فنقول: إذا حضر الذكر اللساني بحيث يسمع نفسه، حصل أثر من ذلك الذكر اللساني في الخيال، ثم يصعد من ذلك الأثر الخيالي مزيد أنوار وجلايا إلى جوهر الروح، ثم تنعكس من تلك الإشراقات الروحانية آثار زائدة إلى اللسان ومنه إلى الخيال، ثم مرة أخرى إلى العقل، ولا يزال تنعكس هذه الأنوار من هذه المرايا بعضها إلى بعض، ويتقوى بعضها بعض ويستكمل بعضها ببعض، ولما كان لا نهاية لتزايد أنوار المراتب، لا جرم لسفر العارفين في هذه المقامات العالية القدسية وذلك بحر لا ساحل له، ومطلوب لا نهاية له. واعلم أن قوله تعالى: {واذكر ربك في نفسك} وإن كان ظاهره خطابا مع النبي عليه السلام، إلا أنه عام في حق كل المكلفين ولكل أحد درجة مخصوصة ومرتبة معينة بحسب استعداد جوهر نفسه الناطقة كما قال في صفة الملائكة: {وما منا إلا له مقام معلوم}...

لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :

وهاهنا لطيفة وهي أن قوله سبحانه وتعالى: {واذكر ربك في نفسك} فيه إشعار بقرب العبد من الله عز وجل وهو مقام الرجاء لأن لفظ الرب مشعر بالتربية والرحمة والفضل والإحسان فإذا تذكر العبد إنعام الله عز وجل عليه وإحسانه إليه فعند ذلك يقوى مقام الرجاء ثم أتبعه بقوله تضرعاً وخيفة وهذا مقام الخوف فإذا حصل في قلب العبد داعية الخوف والرجاء قوي إيمانه والمستحب أن يكون الخوف أغلب على العبد في حال صحته وقوته فإذا قارب بالموت ودنا آخر أجله فيستحب أن يغلب رجاؤه على خوفه. عن أنس بن مالك «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال كيف تجدك؟ قال أرجو الله يا رسول الله وإني أخاف ذنوبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو منه وآمنه مما يخاف» أخرجه الترمذي.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

بعد الأمر بالاستماع والإصغاء لتلاوة القرآن، في سياق حصانة الأنفس من مس الشيطان، أمرنا تعالى بالذكر العام الشامل للقرآن تلاوة وتدبرا أو لغيره فإن كل نوع من أنواع ذكره تعالى حصن للنفس وتزكية لها فقال: {واذكر ربك في نفسك تضرّعا وخيفة ودون الجهر من القول} أي واذكر ربك الذي خلقك ورباك بنعمه في نفسك بأن تستحضر معنى أسمائه وصفاته وآياته وآلائه وفضله عليك وحاجتك إليه متضرعا له خائفا منه، راجيا نعمه- واذكره بلسانك مع ذكره في نفسك ذكرا دون الجهر برفع الصوت من القول، وفوق التخافت والسر، بل ذكرا قصدا وسطا- كما قال في آخر سورة الإسراء {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا} [الإسراء: 110] ولا تحصل فائدة الذكر باللسان إلا مع ذكر القلب، وهو ملاحظة معاني القول، وكأيٍّ مِن ذي وِرْدٍ يَذْكُرٌ اللهَ ذكرا كثيرا يعد بالسبحة منه المئين أو الألوف ثم لا يفيده كل ذلك معرفة بالله ولا مراقبة له، بل هو عادة تقارنها عادات أخرى منكرة شرعا. وما ذلك إلا أنه ذكر لسان محض لا حظ فيه للقلب. ذكر النفس وحده ينفع دائما، وذكر اللسان وحده قلما ينفع وقد يكون في بعض الأحوال ذنبا. والأكمل الجمع بين ذكر اللسان والقلب. وبعد أن بين تعالى صفة الذكر والذاكر بين وقته فقال: {بالغدو والآصال} فهو كقوله تعالى في سورة الأحزاب {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا وسبحوه بكرة وأصيلا} [الأحزاب: 41] وقوله في سورة الدهر أو الإنسان {واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا} [الإنسان: 25] وقوله في سورة آل عمران {وسبح بالعشي والإبكار} [آل عمران: 41] وخص هذان الوقتان بالذكر لأنهما طرفا النهار ومن افتتح نهاره بذكر الله واختتمه به كان جديرا بأن يراقبه تعالى ولا ينساه فيما بينهما وأهم الذكر فيهما صلاتا الفجر والعصر اللتين تحضرهما ملائكة الليل وملائكة النهار ويشهدان عند الله تعالى بما وجدا عليه العبد كما ورد في الصحيح. {ولا تكن من الغافلين} عن ذكره تعالى في سائر الأوقات وإنما يتسامح بقلة الذكر فيما بين البكرة والأصيل لأنه وقت العمل للمعاش فمن غفل عن ذكره تعالى مرض قلبه، وضعف إيمانه، واستحوذ عليه الشيطان فأنساه نفسه... ثم عزز عز وجل هذا الأمر وهذا النهي بما يعد خير أسوة للإنسان، وهو التشبه والمشاركة لملائكة الرحمان، فقال {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته}...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ الذين نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم، فإنهم حرموا خير الدنيا والآخرة، وأعرضوا عمن كل السعادة والفوز في ذكره وعبوديته، وأقبلوا على من كل الشقاوة والخيبة في الاشتغال به، وهذه من الآداب التي ينبغي للعبد أن يراعيها حق رعايتها، وهي الإكثار من ذكر اللّه آناء الليل والنهار، خصوصا طَرَفَيِ النهار، مخلصا خاشعا متضرعا، متذللا ساكنا، وتواطئا عليه قلبه ولسانه، بأدب ووقار، وإقبال على الدعاء والذكر، وإحضار له بقلبه وعدم غفلة، فإن اللّه لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

.. والنفس: اسم للقوة التي بها الحياة، فهي مرادفة الروح، وتطلق على الذات المركبة من الجسد والروح، ولكون مقر النفس في باطن الإنسان أطلقت على أمور باطن الإنسان من الإدراك والعقل كما في قوله تعالى حكاية عن عيسى {تعلم ما في نفسي} [المائدة: 116] وقد مضى في سورة المائدة، ومن ذلك يتطرق إلى إطلاقها على خويصة المرء، ومنه قوله في الحديث القدسي في « صحيح البخاري» "وإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خيرِ منهم "فقابل قوله: في نفسه بقوله: في ملأ.

والمعنى: اذكر ربك وأنت في خلوتك كما تذكره في مجامع الناس.

والذكر حقيقة في ذكر اللسان، وهو المراد هنا، ويعضده قوله: {ودونَ الجهر من القول} وذلك يشمل قراءة القرآن وغيرَ القرآن من الكلام الذي فيه تمجيد الله وشكره ونحو ذلك، مثل كلمة التوحيد والحوقلة والتسبيح والتكبير والدعاء ونحو ذلك.

و« التضرع» التذلل ولما كان التذلل يستلزم الخطاب بالصوت المرتفع في عادة العرب كني بالتضرع عن رفع الصوت مراداً به معناه الأصلي والكنائي، ولذلك قوبل بالخُفيه في قوله {ادعوا ربكم تضرعاً وخفيةً} في أوائل هذه السورة (55) وقد تقدم.

وقوبل التضرع هنا بالخيفة وهي اسم مصدر الخوف، فهو من المصادر التي جاءت على صيغة الهيئة وليس المراد بها الهيئة، مثل الشدة، ولما كانت الخيفة انفعالا نفسياً يجده الإنسان في خاصة نفسه كانت مستلزمة للتخافت بالكلام خشية أن يَشعُر بالمرء من يخافه. فلذلك كني بها هنا عن الإسرار بالقول مع الخوف من الله، فمقابلتُها بالتضرع طباق في معنيي اللفظين الصريحين ومعنييهما الكناءين، فكأنه قيل تضرعاً وإعلاناً وخيفة وإسراراً.

وقوله: {ودون الجهر من القول} هو مقابل لكل من التضرع والخيفة وهو الذكر المتوسط بين الجهر والإسرار، والمقصود من ذلك استيعاب أحوال الذكر باللسان، لأن بعضها قد تكون النفس أنشط إليه منها إلى البعض الآخر.

و (الغُدو) اسم لزمن الصباح وهو النصف الأول من النهار.

و (الآصال) جمع أصيل وهو العشي وهو النصف الثاني من النهار إلى الغروب.

والمقصود استيعاب أجزاء النهار بحسب المتعارف، فأما الليل فهو زمن النوم، والأوقات التي تحصل فيها اليقظة خصت بأمر خاص مثل قوله تعالى: {قم الليل إلا قليلاً} [المزمل: 2] على أنها تدخل في عموم قوله: {ولا تكن من الغافلين}.

فدل قوله: {ولا تكن من الغافلين} على التحذير من الغفلة عن ذكر الله ولاحد للغفلة، فإنها تحدد بحال الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أعلم بنفسه. فإن له أوقاتاً يتلقى فيها الوحي وأوقات شؤون جِبِلّية كالطعام.

وهذا الأمر خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام، وكل ما خص به الرسول عليه الصلاة والسلام من الوجوب يستحسن للأمة اقتداؤهم به فيه إلا ما نهوا عنه مثل الوصال في الصوم.

وقد تقدم أن نحو {ولا تكن من الغافلين} أشد في الانتفاء وفي النهي من نحو: ولا تغفل، لأنه يفرض جماعة يحق عليهم وصف الغافلين فيحذر من أن يكون في زمرتهم وذلك أبْين للحالة المنهي عنها.