التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{حَتَّىٰ زُرۡتُمُ ٱلۡمَقَابِرَ} (2)

{ حتى زُرْتُمُ المقابر } أى : بقيتم على هذه الحال حتى أتاكم الموت ، ودفنتم فى قبوركم ، وانصرف عنكم أحب الناس إليكم ، وبقيتم وحدكم .

والخطاب عام لكل عاقل ، ويدخل فيه المشركون والفاسقون ، الذين آثروا الدنيا على الآخرة دخولا أوليا .

فالمراد بزيارة المقابر : انتهاء الآجال ، والدفن فى القبور بعد الموت . وعبر - سبحانه - عن ذلك بالزيارة . لأن الميت يأتي إلى القبر كالزائر له ، ثم بعد ذلك يخرج منه يوم البعث والنشور ، للحساب والجزاء ، فوجوده فى القبر إنما هو وجود مؤقت بوقت يعلمه الله - تعالى - .

وقد روي أن أعرابيا عندما سمع هذه الآية قال : بعثوا ورب الكعبة ، فقيل له كيف ذلك ؟ فقال : لأن الزائر لابد أن يرتحل .

وقد نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن التهالك على حطام الدنيا فى أحاديث كثيرة ، منها ما رواه مسلم فى صحيحه عن عبد الله بن الشَّخَّير قال : انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : " { ألهاكم التكاثر } قال : يقول ابن آدم : مالى مالى ، وهل لك من مالك يابن آدم ، إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت " .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{حَتَّىٰ زُرۡتُمُ ٱلۡمَقَابِرَ} (2)

وقوله : { حتى زرتم المقابر } غاية ، فيحتمل أن يكون غاية لفعل { ألهاكم } كما في قوله تعالى : { قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى } [ طه : 91 ] ، أي دَام إلهاء التكاثر إلى أن زرتم المقابر ، أي استمرّ بكم طولَ حياتكم ، فالغاية مستعملة في الإِحاطة بأزمان المغيَّا لا في تنهيته وحصول ضده لأنهم إذا صاروا إلى المقابر انقطعت أعمالهم كلها .

ولكون زيارة المقابر على هذا الوجه عبارة عن الحلول فيها ، أي قبورَ المقابر . وحقيقة الزيارة الحلول في المكان حلولاً غير مستمر ، فأطلق فعل الزيارة هنا تعريضاً بهم بأن حلولهم في القبور يعقبه خروج منها .

والتعبير بالفعل الماضي في { زرتم } لتنزيل المستقبل منزلة الماضي لأنه محقق وقوعه مثل : { أتى أمرُ اللَّه } [ النحل : 1 ] .

ويحتمل أن تكون الغاية للمتكاثر بهِ الدالِّ عليه التكاثُر ، أي بكل شيء حتى بالقبور تعدونها . وهذا يجري على ما رَوَى مقاتل والكلبي أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا بكثرة السادة منهم ، كما تقدم في سبب نزولها آنفاً ، فتكون الزيارة مستعملة في معناها الحقيقي ، أي زرتم المقابر لتَعُدُّوا القبور ، والعرب يكنّون بالقبر عن صاحبه قال النابغة :

لَئِنْ كان للقَبْرين قَبْرٍ بجِلَّقٍ *** وقَبر بصيداءَ الذي عند حَارِب

وقال عصام بن عُبيد الزّمَّاني ، أو همّام الرَّقَاشي :

لو عُدَّ قَبْرٌ وقبرٌ كُنتُ أقربَهم *** قبراً وأبْعَدَهم من مَنزِل الذَّام

أي كنتُ أقربهم منكَ قبراً ، أي صاحبَ قبر .

و{ المقابر } : جمع مقبَرة بفتح الموحدة وبضمها . والمقبرة الأرض التي فيها قبور كثيرة .

والتوبيخ الذي استُعمل فيه الخبر أُتبع بالوعيد على ذلك بعد الموت ، وبحرف الزجر والإِبطال بقوله : { كلا سوف تعلمون } فأفاد { كلا } زجراً وإبطالاً لإِنهاء التكاثر .