التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَكُمۡ فِيهَا مَنَٰفِعُ وَلِتَبۡلُغُواْ عَلَيۡهَا حَاجَةٗ فِي صُدُورِكُمۡ وَعَلَيۡهَا وَعَلَى ٱلۡفُلۡكِ تُحۡمَلُونَ} (80)

{ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ } أخرى غير الأكل وغير الركوب ، كالانتفاع بألبانها وأوباؤها وجلودها . .

{ وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ } أى : ومن منافعها - أيضا - أنكم تستعملونها فى الأمور الهامة كحمل الأثقال ، والانتقال عليها من مكان إلى مكان . .

كما قال - تعالى - { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } { وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ } أى : وعلى هذه الإِبل فى البر وعلى السفن فى البحر تحملون .

كما قال - تعالى - : { والذي خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ } هذا ، ولا مانع من أن يكون المراد بالأنعام هنا ما يشمل الإبل والبقر والغنم ، وإلى هذا المعنى ذهب الإِمام ابن كثير ، فقد قال : يقول - تعالى - ممتنا على عباده بما خلق لهم من الأنعام ! وهى : الإِبل والبقر والغنم ، فالإبل تركب وتؤكل وتحلب ، ويحمل عليها الأثقال فى الأسفار والرحال إلى البلاد النائبة ، والأقطار الشاسعة ، والبقر تؤكل ويشرب لبنها ، وتحرث عليها الأرض ، والغنم تؤكل ويشرب لبنها ، والجميع تجز أوبارها وأصوافها وأشعارها . فيتخذ منه الأثاث والثياب والأمتعة . . . "

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَكُمۡ فِيهَا مَنَٰفِعُ وَلِتَبۡلُغُواْ عَلَيۡهَا حَاجَةٗ فِي صُدُورِكُمۡ وَعَلَيۡهَا وَعَلَى ٱلۡفُلۡكِ تُحۡمَلُونَ} (80)

اللام في { لكم } لام التعليل ، أي لأجلكم وهو امتنان مُجمل يشمل بالتأمل كل ما في الإِبل لهم من منافع وهم يعلمونها إذا تذكّروها وعدُّوها . ثم فصّل ذلك الإِجمال بعضَ التفصيل بذكر المهمّ من النعم التي في الإِبل بقوله : { لِتَرْكَبُوا منهَا } إلى { تحملون . } فاللام في { لِتَرْكَبُوا منهَا } لام كي وهي متعلقة ب { جعل } أي لركوبكم .

و ( مِنْ ) في الموضعين هنا للتبعيض وهي صفة لمحذوف يدل عليه ( من ) أي بعضاً منها ، وهو ما أعد للأسفار من الرواحل . ويتعلق حرف ( مِن ) ب { تركبوا } ، وتعلُّقُ ( مِن ) التبعيضية بالفعل تعلق ضعيف وهو الذي دعا التفتزاني إلى القول بأن ( مِن ) في مثله اسمٌ بمعنى بعضضٍ ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى : { ومن الناس من يقول آمنا باللَّه } في سورة [ البقرة : 8 ] .

وأريد بالركوب هنا الركوب للراحة من تَعب الرِّجلين في الحاجة القريبة بقرينة مقابلته بقوله : { وَلِتَبلُغُوا عَليهَا حَاجَةً في صُدُورِكُم } .

وجملة { وَمِنْها تَأكُلُونَ } في موضع الحال من { الأنعام ، } أو عطف على المعنى من جملةِ { لِتَرْكَبُوا مِنْهَا } لأنها في قوة أن يقال : تركبونَ منها ، على وجه الاستئناف لبيان الإجمال الذي في { جَعَلَ لَكُمُ الأنعام } ، وعلى الاعتبارين فهي في حيّز ما دخلت عليه لاَم كي فمعناها : ولتأكلوا منها .

وجملة { ولكم فيها منافع } عطف على جملة { وَمِنْهَا تَأكُلُونَ } ، والمعنى أيضاً على اعتبار التعليل كأنه قيل : ولتجتنوا منافعها المجعولة لكم وإنما غيّر أسلوب التعليل تفنناً في الكلام وتنشيطاً للسامع لئلا يتكرر حرف التعليل تكراراتٍ كثيرة .

والمنافع : جمع منفعة ، وهي مَفْعلة من النفع ، وهي : الشيء الذي ينتفع به ، أي يستصلح به . فالمنافع في هذه الآية أريد بها ما قابل منافع أكل لحومها في قوله : { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } مثل الانتفاع بأوبارها وألبانها وأثمانها وأعواضِها في الديَات والمهور ، وكذلك الانتفاع بجلودها باتخاذها قباباً وغيرَها وبالجلوس عليها ، وكذلك الانتفاع بجَمال مرآها في العيون في المسرح والمراح ، والمنافع شاملة للركوب الذي في قوله : { لِتَركبوا مِنهَا } ، فذكر المنافع بعد { لِتَركبوا منها } تعميم بعد تخصيص كقوله تعالى : { ولي فيها مئارب أخرى } [ طه : 18 ] بعد قوله : { هي عصاي أتوكؤ عليها } [ طه : 18 ] ، فذُكر هنا الشائع المطروق عندهم ثم ذكر مثيله في الشيوع وهو الأكل منها ، ثم عاد إلى عموم المنافع ، ثم خص من المنافع الأسفار ، فإن اشتداد الحاجة إلى الأنعام فيها تجعل الانتفاع بركوبها للسفر في محل الاهتمام . ولما كانت المنافع ليست منحصرة في أجزاء الأنعام جيء في متعلقها بحرف ( في ) دون ( مِن ) لأن ( في ) للظرفية المجازية بقرينة السياق فتشمل كل ما يُعدّ كالشيء المحوي في الأنعام ، كقول سَبْرَةَ بن عَمْرو الفقعسي من شعراء الحماسة يذكر ما أخذه من الإبل في ديةِ قريبٍ :

نحابي بها أكفاءَنا ونُهينُها *** وَنَشْرَب في أثمانها ونُقامر

وأنبأ فعل { لِتَبْلغوا } أن الحاجة التي في الصدور حاجة في مكان بعيد يطلبها صاحبها . والحاجة : النية والعزيمة .

والصدور أطلق على العقول اتباعاً للمتعارف الشائع كما يطلق القلوب على العقول .

وأعقب الامتنان بالأنعام بالامتنان بالفلك لمناسبة قوله : { ولِتَبلُغُوا عَلَيها حَاجَةً في صُدُورِكُم } فقال : { وَعَلَيهَا وَعَلَى الفُلْكِ تُحمَلُونَ } ، وهو انتقال من الامتنان بجعل الأنعام ، إلى الامتنان بنعمة الركوب في الفلك في البحار والأنهار فالمقصود هو قوله : { وعَلَى الفُلْكِ تُحْمَلُونَ } . وأما قوله : { وعليها } فهو تمهيد له وهو اعتراض بالواو الاعتراضية تكريراً للمنّة ، على أنه قد يشمل حمل الأثقال على الإِبل كقوله تعالى : { وتحمل أثقالكم } [ النحل : 7 ] فيكون إسناد الحمل إلى ضمير الناس تغليباً .

ووجه الامتنان بالفلك أنه امتنان بما ركَّب الله في الإِنسان من التدبير والذكاء الذي توصل به إلى المخترعات النافعة بحسب مختلف العصور والأجيال ، كما تقدم في سورة [ البقرة : 164 ] عند قوله تعالى : { والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس } الآيات ، وبيّنا هنالك أن العرب كانوا يركبون البحر الأحمر في التجارة ويركبون الأنهار أيضاً قال النابغة يصف الفرات :

يظل من خوفه الملاح معتصماً *** بالخيزرانة بعد الأيْن والنجَد

والجمع بين السفر بالإِبل والسفر بالفلك جمع لطيف ، فإن الإِبل سفائن البر ، وقديماً سموها بذلك ، قاله الزمخشري في تفسير سورة المؤمنين .

وإنما قال : { وَعلَى الفُلْكِ } ولم يقل : وفي الفلك ، كما قال : { فإذا ركبوا في الفلك } [ العنكبوت : 65 ] لمزاوجة والمشاكلة مع { وعليها ، } وإنما أعيد حرف ( على ) في الفلك لأنها هي المقصودة بالذكر وكان ذكر { وعليها } كالتوطئة لها فجاءت على مثالها .

وتقديم المجرورات في قوله : { وَمِنْهَا تأكُلُون } وقوله : { وَعَلَيها وعَلَى الفُلْكِ } لرعاية على الفاصلة مع الاهتمام بما هو المقصود في السياق . وتقديم { لكم } على { الأنعام } مع أن المفعول أشد اتصالاً بفعله من المجرور لقصد الاهتمام بالمنعَم عليهم .

وأما تقديم المجرورين في قوله : { وَلَكُمْ فِيهَا منافع } فللاهتمام بالمنعم عليهم والمنعم بها لأنه الغرض الأول من قوله : { الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنعام } .