ثم يمضى السياق القرآنى مع المكذبين المتعجلين للعذاب ، فيسوق لهم صورة لعلم الله الشامل الذى لا يند عنه شىء { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } .
قال القرطبى : { مَفَاتِحُ } جمع مفتح ، ويقال مفتاح ويجمع مفاتيح ، وهى قراءة ابن السميقع ، والمفتح عبارة عن كل ما يخل غلقاً محسوساً كان كالقفل على البيت ، أو معقولا كالنظر ، وروى ابن ماجه فى سننه وأبى حاتم البستى فى صحيحه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر ، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه ، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه " ، وهو فى الآية استعارة عن التوصل إلى الغيوب كما يتوصل فى الشاهد بالمفتح إلى الغيب عن الإنسان . ولذلك قال بعضهم هو مأخوذ من قول الناس افتح على كذا ، أى : أعطنى أو علمنى ما أتوصل إليه به فالله - تعالى - عنده علم الغيب ، وبيده الطرق الموصلة إليه لا يملكها إلا هو ، فمن شاء إطلاعه عليها أطلعه ، ومن شاء حجبه عنها حجبه .
والغيب : ما غاب عن علم الناس بحيث لا سبيل لهم إلى معرفته ، وهو يشمل الأعيان المغيبة كالملائكة والجن ، ويشمل الأعراض الخفية ومواقيت الأشياء وغير ذلك . وقدم الظرف لإفادة الاختصاص ، أى : عنده لا عند غيره مفاتيح الغيب ، وجملة " لا يعلمها إلا هو " فى موضع الحال من مفاتح ، وهى مؤكدة لمضمون ما قبلها .
ومعنى { لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } أى : لا يعلم الغيوب علماً تاماً مستقلا إلا هو - سبحانه - فأما ما أطلع عليه بعض أصفيائه من الغيوب فهو إخبار منه لهم ، فكان فى الأصل راجعاً إلى علمه هو . قال - تعالى - { عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } ثم بين - سبحانه - أن علمه ليس مقصوراً على المغيبات ، وإنما هو يشملها كما يشمل المشاهدات فقال : { وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر } .
قال الراغب : أصل البحر كل مكان واسع جامع للماء الكثير ، وقيل إن أصله الماء الملح دون العذب وأطلق على النهر بالتوسع أو التغليب ، والبر ما يقابله من الأرض وهو ما يسمى باليابسة .
وهذه الجملة معطوفة على جملة ، وعنده مفتاح الغيب ، لغفادة تعميم علمه - سبحانه - بالأشياء الظاهرة المتفاوتة فى الظهور بعد إفادة علمه بما لا يظهر الناس .
وقدم ذكر البر على البحر على طريقة الترقى من الأقل إلى الأعظم ، لأن قسم البحر من الأرض أكبر من قسم البر ، وخفاياه أكثر وأعظم ، وخصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات المجاورة للبشر .
ثم صرح - سبحانه - بشمول علمه لكل كلى وجزئى ، ولكل صغير وكبير ، ولكل دقيق وجليل ، فقال - تعالى - { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } .
أى : وما تسقط ورقة ما من شجرة من الأشجار ولا حبة فى باطن الأرض وأجوافها ، ولا رطب ولا يابس من الثمار أو غيرها إلا ويعلمه الله علما تاما شاملا ، لأن كل ذلك مكتوب ومحفوظ فى العلم الإلهى الثابت .
وجملة { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا } معطوفة على جملة ، ويعلم ما فى البر والبحر ، لقصد زيادة التعميم فى الجزئيات الدقيقة .
والمراد بظلمات الأرض بطونها ، وكنَّى بالظلمة عن البطن لأنه لا يدرك ما فيه كما لا يدرك ما فى الظلمة .
وقوله { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } تأكيد لقوله " لا يعلمها " لأن المراد بالكتاب المبين علم الله - تعالى - الذى وسع كل شىء ، أو اللوح المحفوظ الذى هو محل معلوماته - عز وجل - .
قال الإمام الرازى : قال الزجاج : يجوز أن الله - تعالى - : أثبت كيفية المعلومات فى كتاب من قبل أن يخلق الخلق كما قال - تعالى - : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ } ثم قال الإمام الرازى : وفائدة هذا الكتاب أمور :
أحدها : أنه - تعالى - : إنما كتب هذه الأحوال فى اللوح المحفوظ لتقف الملائكة على نفاذ علمه فى المعلومات ، وأنه لا يغيب عنه مما فى السموات والأرض شىء ، فيكون ذلك عبرة تامة كاملة للملائكة باللوح المحفوظ لأنهم يقابلون به ما يحدث فى صحيفة هذا العالم فيجدونه موافقاً له .
وثانيها : أنه يجوز أن يقال : أنه - تعالى - : ذكر ما ذكر من الورقة والحبة تنبيها للمكلفين على أمر الحساب ، وإعلاما بأنه لا يفوته من كل ما يصنعون فى الدنيا شىء ، لأنه إذا كان لا يهمل الأحوال التى ليس فيها ثواب ولا عقاب ولا تكليف فبأن لا يهمل الأحوال المشتملة على الثواب والعقاب أولى .
وثالثها : أنه - تعالى - : علم أحوال جميع الموجودات ، فيمتنع تغييرها عن مقتضى ذلك العلم وإلا لزم الجهل ، فإذا كتب أحوال جميع الموجودات فى ذلك الكتاب على التفصيل التام امتنع - أيضاً - تغييرها ، وإلا لزم الكذب ، فتصير كتابة جملة الأحوال فى ذلك الكتاب موجبا تاما ، وسببا كاملا فى أنه يمتنع تقدم ما تأخر وتأخر ما تقدم كما قال صلى الله عليه وسلم " جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة " .
ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أمور من أهمها :
أن علم الله - تعالى - : محيط بالكليات والجزئيات ، وبكل شىء فى هذا الكون ، وبذلك يتبين بطلان رأى بعض الفلاسفة الذين قالوا بأن الله يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات .
أن علم الغيب مرده إلى الله وحده ، قال الحاكم : دل قوله تعالى { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } على بطلان قول الإمامية : إن الإمام يعلم شيئاً من الغيب " .
وقال القاسمى : قال صاحب " فتح البيان " : فى هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين وغيرهم من مدعى الكشف والإلهام ما ليس من شأنهم ولا يدخل تحت قدرتهم ولا يحيط به علمهم .
ولقد ابتلى الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة والأنواع المخذولة ، ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم سوى خطة السوء المذكورة فى قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم " من أتى كاهنا أو منجما فقد كفر بما أنزل على محمد " قال ابن مسعود " أوتى نبيكم كل شىء إلا مفاتيح الغيب " .
وروى البخارى بسنده عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مفاتيح الغيب خمس لا يعملها إلا الله . لا يعلم أحد ما يكون فى غد إلا الله ، ولا يعلم أحد ما يكون فى الأرحام إلا الله . ولا تعمل نفس ماذا تكسب غداً ، ولا تدرى نفس بأى أرض تموت ، ولا يدرى أحد متى يجىء المطر " .
وقال القرطبى : قال علماؤنا : أضاف - سبحانه علم الغيب إلى نفسه فى غير ما آية من كتابه إلا من اصطفى من عباده ، فمن قال : إنه ينزل الغيث غدا وجزم فهو كافر ، وكذلك من قال : إنه يعلم ما فى الرحم فهو كافر . وفى صحيح مسلم عن عائشة قالت : من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بما يكون فى غد فقد أعظم على الله الفرية ؛ والله تعالى يقول : { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله } ثم قال : وقد انقلبت الأحوال فى هذه الأزمان بإتيان المنجمين والكهان لا سيما بالديار المصرية فقد شاع فى رؤسائهم وأتباعهم وأمرائهم اتخاذ المنجمين ، بل ولقد انخدع كثير من المنتسبين للفقر والدين فلجأوا إلى هؤلاء الكهنة والعرافين فبهرجوا عليهم بالمحال ، واستخرجوا منهم الأموال ، فحصلوا من أقوالهم على السراب والآل ، ومن أديانهم على الفساد والضلال ، وكل ذلك من الكبائر لحديث النبى صلى الله عليه وسلم " من أتى عرافا فسأله عن شىء لم تقبل له صلاة أربعين يوما " والعراف هو الحازر والمنجم الذى يدعى علم الغيب .
عُطف على جملة : { والله أعلم بالظالمين } [ الأنعام : 58 ] على طريقة التخلّص . والمناسبة في هذا التخلّص هي الإخبار بأنّ الله أعلم بحالة الظالمين ، فإنّها غائبة عن عيان الناس ، فالله أعلم بما يناسب حالهم من تعجيل الوعيد أو تأخيره ، وهذا انتقال لبيان اختصاصه تعالى بعلم الغيب وسعة علمه ثم سعة قدرته وأنّ الخلق في قبضة قدرته . وتقديم الظرف لإفادة الاختصاص ، أي عنده لا عند غيره . والعندية عندية علم واستئثار وليست عندية مكان .
والمفاتح جمع مِفْتَح بكسر الميم وهو الآلة التي يفتح بها المغلق ، وتسمّى المِفتاح . وقد قيل : إنّ مفتح أفصح من مفتاح ، قال تعالى : { وآتيناه من الكنوز ما إنّ مَفَاتِحَه لتنوء بالعُصْبَة أولي القوة } [ القصص : 76 ] .
والغيب ما غاب على علم الناس بحيث لا سبيل لهم إلى علمه ، وذلك يشمل الأعيان لمغيَّبة كالملائكة والجنّ ، والأعراض الخفيَّة ، ومواقيت الأشياء .
و { مفاتح الغيب } هنا استعارة تخييلية تنبني على مكنية بأن شُبِّهت الأمور المغيّبة عن الناس بالمتاع النفيس الذي يُدّخر بالمخازن والخزائن المستوثق عليها بأقفال بحيث لا يعلم ما فيها إلاّ الذي بيده مفاتحها . وأثبتت لها المفاتِح على سبيل التخييلية . والقرينة هي إضافة المفاتح إلى الغيب ، فقوله : { وعنده مفاتح الغيب } بمنزلة أن يقول : عنده علم الغيب الذي لا يعلمه غيرُه .
ومفاتح الغيب جَمْع مضاف يعمّ كلّ المغيّبات ، لأنّ علمها كلّها خاصّ به تعالى ، وأمّا الأمور التي لها أمارات مثل أمارات الأنواء وعلامات الأمراض عند الطبيب فتلك ليْست من الغيب بل من أمور الشهادة الغامضة . وغمُوضُها متفاوت والناس في التوصّل إليْها متفاوتون ومعرفتهم بها من قبيل الظنّ لا من قبيل اليقين فلا تسمّى عِلماً ، وقيل : المفاتح جمع مَفْتَح بفتح الميم وهو البيت أو المخزن الذي من شأنه أن يُغلق على ما فيه ثم يُفْتح عند الحاجة إلى ما فيه ، ونقل هذا عن السدّي ، فيكون استعارة مصرّحة والمشبَّه هو العلم بالغيب شبّه في إحاطته وحَجبه المغيِّبات ببيت الخزم تشبيه معقول بمحسوس .
وجملة { لا يعلمها إلاّ هو } مُبيَّنة لمعنى { عندَه } ، فهي بيان للجملة التي قبلها ومفيدة تأكيداً للجملة الأولى أيضاً لرفع احتمال أن يكون تقديم الظرف لمجرّد الاهتمام فأعيد ما فيه طريق مُتَعيِّن كونُه للقصر . وضمير { يعلمها } عائد إلى { مفاتح الغيب } على حذف مضاف من دلالة الاقتضاء . تقديره : لا يعلم مكانَها إلاّ هو ، لأنّ العلم لا يتعلّق بذوات المفاتح ، وهو ترشيح لاستعارة مفاتح الغيب للعلم بالمغيّبات ، ونفيُ علم غيره لها كناية عن نفي العلم بما تغلق عليه المفاتح من علم المغيّبات .
ومعنى : { لا يعلمها إلاّ هو } أي علماً مستقلاً به ، فأمَّا ما أطْلع عليه بعضَ أصفيائه ، كما قال تعالى : { عالم الغيب فلا يُظهر على غيبه أحداً إلاّ مَن ارتضى مِن رسول } [ الجن : 26 ] فذلك علم يحصل لمن أطلعه بإخبار منه فكان راجعاً إلى علمه هو . والعلم معرفة الأشياء بكيفية اليقين .
وفي الصحيح عن عبد الله بن عمر أنّ رسول يالله صلى الله عليه وسلم قال : { مفاتح الغيب خمس : إنّ الله عندَه علمُ الساعة ، ويُنزّل الغيث ، ويعلَم ما في الأرحام ، وما تدري نفس مَاذا تكسب غداً ، وما تدري نفس بأي أرض تموت إنّ الله عليم خبير } .
وجملة : { ويعلم ما في البرّ والبحر } عطف على جملة { لا يعلمها إلاّ هو } ، أو على جملة { وعنده مفاتح الغيب } ، لأنّ كلتيهما اشتملت على إثبات علم لله ونفي علم عن غيره ، فعُطفت عليهما هذه الجملة التي دلَّت على إثبات علم لله تعالى ، دون نفي علم غيره وذلك علم الأمور الظاهرة التي قد يتوصّل الناس إلى علم بعضها ، فعطفُ هذه الجملة على جملة { وعنده مفاتح الغيب } لإفادة تعميم علمه تعالى بالأشياء الظاهرة المتفاوتة في الظهور بعد إفادة علمه بما لا يظهر للناس .
وظهور ما في البرّ للناس على الجملة أقوى من ظهور ما في البحر . وذكر البرّ والبحر لقصد الإحاطة بجميع ما حوته هذه الكرة ، لأنّ البرّ هو سطح الأرض الذي يمشي فيه الحيوان غير سابح ، والبحر هو الماء الكثير الذي يغمر جزءاً من الأرض سواء كان الماء ملحاً أم عذباً . والعرب تسمِّي النهر بحراً كالفرات ودجلة . والموصول للعموم فيشمل الذوات والمعاني كلّها .
وجملة : { وما تسقط من ورقة } عطف على جملة : { ويعلم ما في البرّ والبحر } لقصد زيادة التعميم في الجزئيات الدقيقة . فإحاطة العلم بالخفايا مع كونها من أضعف الجزئيات مؤذن بإحاطة العلم بما هو أعظم أولى به . وهذه من معجزات القرآن فإنّ الله علِمَ ما يعتقده الفلاسفة وعلم أنْ سيقول بقولهم من لا رسوخ له في الدين من أتباع الإسلام فلم يترك للتأويل في حقيقة علمه مجالاً ، إذ قال : { وما تسقط من ورقة إلاّ يعلمها ولا حبَّة في ظُلمات الأرض } كما سنبيّن الاختيار في وجه إعرابه .
والمراد بالورقة ورقة من الشّجر . وحرف ( مِنْ ) زائد لتأكيد النفي ليفيد العموم نصّاً . وجملة { يعلمها } في موضع الحال من { ورقة } الواقعة في حيِّز النفي المستغنية بالعموم عن الصفة . وذلك لأنّ الاستثناء مفرّغ من أحوال ، وهذه الحال حال لازمة بعد النفي حصل بها مع الفعل المنفي الفائدة الاستثناء من عموم الأحوال ، أي ما تسقط من ورقة في حالة إلاّ حالة يعلمها .
والأظهر في نظم قوله : { وما تسقط من ورقة } أن يكون { ورقة } في محلّ المبتدأ مجرور بِ { منْ } الزّائدة ، وجملة { تسْقط } صفة ل { ورقة } مقدّمة عليها فتُعرب حالاً ، وجملة { إلاّ يعلمها } خبر مفرّغ له حرفُ الاستثناء . { ولا حبّة } عطف على المبتدأ بإعادة حرف النفي ، و { في ظلمات الأرض } صفة ل { حبّة } ، أي ولا حبّة من بذور النبت مظروفة في طبقات الأرض إلى أبعد عمق يمكن ، فلا يكون { حبَّة } معمولاً لفعل { تسقط } لأنّ الحبَّة التي تسقط لا تبلغ بسقوطها إلى ظلمات الأرض .
{ ولا رطببٍ ولا يابس } معطوفان على المبتدأ المجرور ب { من } . والخبر عن هذه المبتدآت الثلاثة هو قوله : { إلاّ في كتاب مبين } لوروده بعد الثلاثة ، وذلك ظاهر وقُوع الإخبار به عن الثلاثة ، وأنّ الخبر الأول راجع إلى قوله : { من ورقة } .
والمراد بالكتاب المبين العلم الثابت الذي لا يتغيّر ، وما عسى أن يكون عند الله من آثار العلم من كتابة أو غيرها لم يطلعنا على كنهها .
وقيل : جرّ { حبَّة } عطف على { ورقة } مع إعادة حرف النفي ، و { في ظلمات الأرض } وصف ل { حبّة } . وكذلك قوله : { ولا رطب ولا يابس } بالجرّ عطفاً على { حبَّة } و { ورقة } ، فيقتضي أنَّها معمولة لفعل { تسقط } ، أي ما يَسقط رطب ولا يابس ، ومقيَّدة بالحال في وقوله : { إلاّ يعلمها } .
وقوله : { إلاّ في كتاب مبين } تأكيد لقوله : { إلاُّ يعلمها } لأنّ المراد بالكتاب المبين علم الله تعالى سواء كان الكتاب حقيقة أم مجازاً عن الضبط وعدم التبديل . وحسَّن هذا التأكيد تجديد المعنى لبعد الأول بالمعطوفات وصفاتها ، وأعيد بعبارة أخرى تفنّناً .
وقد تقدّم القول في وجه جمع { ظلمات } عند قوله تعالى : { وجعل الظلمات والنور } في هذه السورة [ 1 ] . ومبين إمّا من أبان المتعدّي ، أي مبين لبعض مخلوقاته ما يريده كالملائكة ، أو من أبَانَ القاصر الذي هو بمعنى بان ، أي بيّن ، أي فصل بما لا احتمال فيه ولا تردّد .
وقد علم من هاته الآيات عموم علمه تعالى بالكلِّيّات والجزئيّات . وهذا متَّفق عليه عند أهل الأديان دون تصريح به في الكتب السابقة وما أعلنه إلاّ القرآن في نحو قوله : { وهو بكلّ شيء عليم } [ البقرة : 29 ] . وفيه إبطال لقول جمهور الفلاسفة أنّ الله يعلم الكلِّيّات خاصّة ولا يعلم الجزئيّات ، زعماً منهم بأنَّهم ينزّهون العلم الأعلى عن التجزّي ؛ فهم أثبتوا صفة العلم لله تعالى وأنكروا تعلّق علمه بجزئيات الموجودات . وهذا هو المأثور عنهم عند العلماء . وقد تأوّله عنهم ابن رشد الحفيدُ ونصير الدين الطُوسي . وقال الإمام الرازي في « المباحث المشرقية »{[228]} : ولا بدّ من تفصيل مذهب الفلاسفة فإنّ اللائق بأصولهم أن يقال : الأمور أربعة أقسام ؛ فإنَّها إمَّا أن لا تكون متشكِّلة ولا متغيِّرة ، وإمَّا أن تكون متشكّلة غير متغيِّرة ، وإمَّا أن تكون متغيِّرة غير متشكّلة ؛ وإمَّا أن تكون متشكّلة ومتغيّرة معاً . فأمَّا ما لا تكون متشكِّلة ولا متغيِّرة فإنَّه تعالى عالم به سواء كان كليّاً أو جزئياً . وكيف يمكن القول بأنَّه تعالى لا يعلم الجزئيّات منها مع اتِّفاق الأكثر منهم على علمه تعالى بذاته المخصوصة وبالعقول .
وأمّا المتشكِّلة غير المتغيِّرة وهي الأجرام العلوية فهي غير معلومة له تعالى بأشخاصها عندهم ، لأنّ إدراك الجسمانيات لا يكون إلاّ بالآت جسمانية .
وأمّا المتغيِّرة غير المتشكّلة فذلك مثل الصور والأعراض الحادثة والنفوس الناطقة ، فإنَّها غير معلومة له لأنّ تعلّقها يحوج إلى آلة جسمانية بل لأنَّها لمّا كانت متغيّرة يلزم من تغيّرها العلم .
وأمّا ما يكون متشكِّلاً ومتغيِّراً فهو الأجسام الكائنة الفاسدة{[229]} . وهي يمتنع أن تكون مُدْركة له تعالى للوجهين ( أي المذكورين في القسمين الثاني والثالث ) اه .
وقد عُدّ إنكار الفلاسفة أنّ الله يعلم الجزئيَّات من أصول ثلاثة لهم خالفت المعلوم بالضرورة من دين الإسلام . وهي : إنكار علم الله بالجزئيَّات ؛ وإنكار حشر الأجساد ، والقول بقدم العالم . ذكر ذلك الغزالي في « تهافت الفلاسفة » فمن يوافقهم في ذلك من المسلمين يعتبر قوله كفراً ، لكنَّه من قبيل الكفر باللازم فلا يعتبر قائله مرتدّاً إلاّ بعد أن يوقف على ما يفضي إليه قولُه ويأبى أن يرجع عنه فحينئذٍ يستتاب ثلاثاً فإن تاب وإلاّ حكم بردّته .