التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفّٗا لَّقَدۡ جِئۡتُمُونَا كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةِۭۚ بَلۡ زَعَمۡتُمۡ أَلَّن نَّجۡعَلَ لَكُم مَّوۡعِدٗا} (48)

ثم تذكر السورة الكريمة حالة رابعة من أهوال يوم القيامة ، هى حالة العرض بعد حالة الجمع فتقول : { وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً } .

أى : وأحضروا جميعا إلى ربك مصفوفين فى صف واحد أو فى صفوف متعددة ، ليقضى فيهم - سبحانه - بقضائه العادل .

قال الآلوسى : أخرج ابن منده فى التوحيد عن معاذ بن جبل ، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله - تعالى - ينادى يوم القيامة ، يا عبادى : أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين . وأحكم الحاكمين ، وأسرع الحاسبين . أحضروا حجتكم ويسروا جوابكم . فإنكم مسئولون محاسبون . يا ملائكتى أقيموا عبادى صفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب " .

وفى الحديث الصحيح : " يجمع الله - تعالى - الأولين والآخرين فى صعيد واحد صفوفا يسمعهم الداعى وينفذهم البصر . . " .

وقوله - سبحانه - : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ . . } مقول لقول محذوف ، وجملة { كما خلقناكم } نعت لمصدر محذوف .

والمعنى : ونقول لمنكرى البعث والحساب بعد عرضهم علينا على سبيل التوبيخ والتأنيب : لقد جئتمونا - أيها المكذبون - مجيئا كائنا كمجيئكم عند خلقنا إياكم أول مرة . أى حفاة عراة لا مال معكم ولا ولد .

وعبر - سبحانه - بالماضى فى قوله : { لقد جئتمونا . . } لتحقق الوقوع وتنزيله منزلة الواقع بالفعل .

وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } ثم ختم - سبحانه - الآية بالانتقال من توبيخهم هذا إلى توبيخ أشد وأقسى فقال : { بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً } .

أى : بل زعمتم أيها المكذبون بالبعث - أن لن نجعل لكم زمانا أو مكانا نجازيكم فيه على أعمالكم ، وأنكرتم إنكاراً مصحوبا بقسم أننا لا نبعث من يموت .

قال - تعالى - : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ بلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ }

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفّٗا لَّقَدۡ جِئۡتُمُونَا كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةِۭۚ بَلۡ زَعَمۡتُمۡ أَلَّن نَّجۡعَلَ لَكُم مَّوۡعِدٗا} (48)

وقوله { صفاً } إفراد نزل منزلة الجمع ، أي صفوفاً ، وفي الحديث الصحيح يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفاً يسمعهم الداعي وينفدهم البصر ، الحديث{[7819]} بطوله ، وفي حديث آخر «أهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون صفاً ، أنتم منها ثمانون صفاً »{[7820]} ، وقوله تعالى : { لقد جئتمونا } إلى آخر الآية مقاولة للكفار المنكرين{[7821]} للبعث ، ومضمنها التقريع والتوبيخ ، والمؤمنون المعتقدون في الدنيا أنهم يبعثون يوم القيامة ، لا تكون لهم هذه المخاطبة بوجه وفي الكلام حذف ويقتضيه القول ويحسنه الإيجاز تقديره : يقال للكفرة منهم ، { كما خلقناكم أول مرة } يفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلاً { كما بدأنا أول خلق نعيده }{[7822]} [ الأنبياء : 104 ] .


[7819]:أخرجه البخاري في الأنبياء، وتفسير سورة الإسراء، ومسلم في الإيمان والبر، والترمذي في القيامة ، والدارمي في الرقاق، وأحمد في مسنده، وهو حديث طويل، عن أبي هريرة، ولفظه كما في البخاري في تفسير سورة الإسراء، قال: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم فرفع إليه الذراع ـ وكانت تعجبه ـ فنهس منها نهسة ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذلك؟ يجمع الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب مالا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟...) وهو حديث طويل عن الشفاعة يوم القيامة.
[7820]:أخرجه ابن ماجه في الزهد، والترمذي في الجنة، والدارمي في الرقاق، وأحمد في مسنده (1ـ453)، ولفظه كما جاء في المسند، عن ابن مسعود، قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف أنتم وربع أهل الجنة، لكم ربعها ولسائر الناس ثلاثة أرباعها، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فكيف أنتم وثلثها؟ قالوا: فذاك أكثر، فقال: فكيف أنتم والشطر؟ قالوا: فذلك أكثر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهل الجنة يوم القيامة عشرون ومائة صف، أنتم منها ثمانون صفا).
[7821]:في بعض النسخ: "مقاولة للكفار المنكرين".
[7822]:أخرجه مسلم في الجنة، والبخاري في التفسير والأنبياء، والترمذي في القيامة والتفسير، والنسائي في الجنائز، وأحمد في مسنده (1ـ223، 229)، ولفظه كما في مسلم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا)، قلت: يا رسول الله الرجال و النساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: (يا عائشة، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض)، ومعنى غرلا: غير مختونين. وقوله تعالى: {كما بدأنا أول خلق نعيده} من الآية (104) من سورة (الأنبياء).
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفّٗا لَّقَدۡ جِئۡتُمُونَا كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةِۭۚ بَلۡ زَعَمۡتُمۡ أَلَّن نَّجۡعَلَ لَكُم مَّوۡعِدٗا} (48)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وعرضوا على ربك صفا}، يعني: جميعا، نظيرها في طه: {ثم ائتوا صفا} [طه:64]، يعني: جميعا،

{لقد جئتمونا} فرادى ليس معكم من دنياكم شيء،

{كما خلقناكم أول مرة}، حين ولدوا وليس لهم شيء،

{بل زعمتم} في الدنيا،

{ألن نجعل لكم موعدا}، يعني: ميقاتا في الآخرة تبعثون فيه.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"وَعُرِضُوا عَلى رَبّكَ صَفّا" يقول عزّ ذكره: وعُرض الخلق على ربك يا محمد صفا، "لَقَدْ جِئْتُمُونا كمَا خَلَقْناكُمْ أوّلَ مَرّةٍ "يقول عزّ ذكره: يقال لهم إذ عُرضوا على الله: لقد جئتمونا أيها الناس أحياء كهيئتكهم حين خلقناكم أوّل مرّة، وحذف يقال من الكلام لمعرفة السامعين بأنه مراد في الكلام.

وقوله: "بَلْ زَعَمْتُمْ ألّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدا" وهذا الكلام خرج مخرج الخبر عن خطاب الله به الجميع، والمراد منه الخصوص، وذلك أنه قد يرد القيامة خلق من الأنبياء والرسل، والمؤمنين بالله ورسله وبالبعث. ومعلوم أنه لا يُقال يومئذٍ لمن وردها من أهل التصديق بوعد الله في الدنيا، وأهل اليقين فيها بقيام الساعة، بل زعمتم أن لن نجعل لكم البعث بعد الممات، والحشر إلى القيامة موعدا، وأن ذلك إنما يقال لمن كان في الدنيا مكذّبا بالبعث وقيام الساعة.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... {وعرضوا على ربك} للحساب.

وقال بعضهم: يعرضون على مقامهم، أي يعرض كل فريق على مقامه، أي يبعث كقوله: {وأزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين} (الشعراء: 90و91). ويحتمل معنى العرض في ذلك اليوم، وإن كانوا في جميع الأحوال والأوقات في الدنيا والآخرة معروضين عليه أنه عالم بأحوالهم لما يقرون له جميعا يومئذ منكرهم ومقرهم بالعرض والقيامة كقوله: {وبرزوا لله جميعا} (إبراهيم: 21) (وقوله): {والأمر يومئذ لله} (الانفطار: 19) أي الأمر في جميع الأوقات لله. وكذلك هم بارزون له في جميع الأوقات. لكنه خص ذلك اليوم بالإضافة إليه بما يقرون له جميعا في ذلك اليوم بالألوهية له والملك، ويعرفون حقيقته. فعلى ذلك هذا، والله أعلم...

وقوله تعالى: {لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة} يحتمل هذا وجوها:

أحدها: يحتمل {لقد جئتمونا} بالإجابة والإقرار لنا كما أجابت خلقتكم في أول خلقنا إياها في الدنيا.

والثاني: {ولقد جئتمونا فرادى} كما قلنا في الدنيا {ثم إنكم يوم القيامة تبعثون} (المؤمنين: 16) وقلنا: {واعلموا أنكم إليه تحشرون} (البقرة: 103و..) وقلنا: {ويوم تقوم الساعة} (الجاثية: 27).

والثالث: ما قاله أهل التأويل: {ولقد جئتمونا فرادى} (الأنعام: 94) بلا أنصار ينصرونكم ولا أعوان يعينونكم على ما كنتم في الابتداء،

وقال بعضهم: كما خرجتم من بطون أمهاتكم عراة وحفاة، ليس معكم مال يمانعكم ولا أنصار يناصرونكم. وهو ما قال: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم} (الأنعام: 94).

"بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا" هذا يدل أن تلك الأهوال التي ذكر إنما تكون للعصاة ومن أنكر البعث حين قال: {بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا} يعني القيامة. و هذا يدل أن الأهوال و الأفزاع التي ذكر في الآية الأولى تكون للعصاة و الفَسَقةَ من خلقه دون المؤمنين...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{صَفَّا} مصطفِّين ظاهرين، يَرى جماعتَهم كما يَرى كلَّ واحدٍ لا يَحجُب أحدٌ أحداً... {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا} أي قُلْنا لهم: لقد جئتمونا...

والمعنى لقد بعثناكم كما أنشأناكم... {مَّوْعِدًا} وقتاً لإنجاز ما وُعِدْتُم على ألسنة الأنبياء من البعث والنشور...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{لقد جئتمونا} إلى آخر الآية مقاولة للكفار المنكرين للبعث، ومضمنها التقريع والتوبيخ، والمؤمنون المعتقدون في الدنيا أنهم يبعثون يوم القيامة، لا تكون لهم هذه المخاطبة بوجه وفي الكلام حذف ويقتضيه القول ويحسنه الإيجاز تقديره: يقال للكفرة منهم...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما ذكر سبحانه حشرهم، وكان من المعلوم أنه للعرض، ذكر كيفية ذلك العرض، فقال بانياً الفعل للمفعول عل طريقة كلام القادرين، ولأن المخوف العرض لا كونه من معين: {وعرضوا على ربك} أي المحسن إليك برفع أوليائك وخفض أعدائك {صفاً} لاتساع والمسايقة إلى داره، لعرض أذل شيء وأصغره، وأطوعه وأحقره، يقال لهم تنبيهاً على مقام العظمة: {لقد جئتمونا} أحياء سويين حفاة عراة غرلاً {كما خلقناكم} بتلك العظمة {أول مرة} منعزلين من كل شيء كنتم تجمعونه وتفاخرون به منقادين مذعنين فتقولون {هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} [يس: 52] فيقال لكم: {بل زعمتم} أي ادعيتم جهلاً بعظمتنا {أن} أي أنا {لن نجعل لكم} على ما لنا من العظمة {موعداً} أي مكاناً ووقتاً نجمعكم فيه هذا الجمع فننجز ما وعدناكم به على ألسنة الرسل...

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

{على رَبِّكَ} إشارة إلى غضب الله تعالى عليهم وطردهم عن ديوان القبول بعدم جريهم على معرفتهم لربوبيته عز وجل: {وَعُرِضُواْ على رَبّكَ صَفَّا} إخبار عن جميع بني آدم وإن كان المخاطب في قوله سبحانه {بَلْ زَعَمْتُمْ} الخ بعضهم، ذكر أنه يعرض كل صنف صفاً، وقيل الأنبياء عليهم السلام صف والأولياء صف وسائر المؤمنين صف والمنافقون والكافرون صف وهم آخر الصفوف فيقال لهم: {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الكهف: 48] على وصف الفطرة الأولية عاجزين منقطعين إليه سبحانه.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ومن الحشر الجامع الذي لا يخلف أحدا إلى العرض الشامل: (وعرضوا على ربك صفا). هذه الخلائق التي لا يحصى لها عدد، منذ أن قامت البشرية على ظهر هذه الأرض إلى نهاية الحياة الدنيا.. هذه الخلائق كلها محشورة مجموعة مصفوفة، لم يتخلف منها أحد، فالأرض مكشوفة مستوية لا تخفي أحدا. وهنا يتحول السياق من الوصف إلى الخطاب. فكأنما المشهد حاضر اللحظة، شاخص نراه ونسمع ما يدور فيه. ونرى الخزي على وجوه القوم الذين كذبوا بذلك الموقف وأنكروه: لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة. بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا. هذا الالتفات من الوصف إلى الخطاب يحيي المشهد ويجسمه. كأنما هو حاضر اللحظة، لا مستقبل في ضمير الغيب في يوم الحساب. وإننا لنكاد نلمح الخزي على الوجوه، والذل في الملامح. وصوت الجلالة الرهيب يجبه هؤلاء المجرمين بالتأنيب: (لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة) وكنتم تزعمون أن ذلك لن يكون: زعمتم ألن نجعل لكم موعدا!...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

عَرْضُ الشيءِ: إحضارُه ليُرى حالُه وما يحتاجه...

وهو هنا مستعار لإحضارهم حيث يَعلمون أنهم سيتلقَّون ما يأمر الله به في شأنهم...

والصَّفُّ: جماعةٌ يقفون واحداً حَذْوَ واحدٍ بحيث يبدو جميعهم لا يَحْجُبُ أحدٌ منهم أحداً. وأصله مصدر (صَفَّهُم) إذا أوقَفَهم...

وتلك الحالة إيذانٌ بأنهم أُحضِروا بحالة الجُنَاةِ الذين لا يَخفَى منهم أحدٌ إيقاعاً للرعب في قلوبهم...

وجملة {وعرضوا على ربك} معطوفة على جملة {وحشرناهم}، فهي في موضع الحال من الضمير المنصوب في {حشرناهم}، أي حشرناهم وقد عرضوا تنبيهاً على سرعة عرضهم في حين حشرهم...

وعدل عن الإضمار إلى التعريف بالإضافة في قوله: {على ربك} دون أن يقال (علينا) لتضمن الإضافة تنويهاً بشأن المضاف إليه بأن في هذا العرض وما فيه من التهديد نصيباً من الانتصار للمخاطَب إذ كذَّبوه حين أخبَرهم وأنذَرهم بالبعث...

والخبر في قوله: {لقد جئتمونا} مستعملٌ في التهديد والتغليظ والتنديم على إنكارهم البعث. والمجيء: مجازٌ في الحضور، شُبِّهوا حين موتهم بالغائبين وشُبِّهت حياتُهم بعد الموت بمجيء الغائب...

{كما خلقناكم أول مرة} واقع موقع المفعول المطلق المفيد للمشابهة، أي جئتمونا مجيئاً كخلقكم أول مرة. فالخلق الثاني أشبه الخلق الأول، أي فهذا خَلْقٌ ثانٍ...

والإضراب في قوله: {بل زعمتم ألن نجعل لكم موعداً} انتقال من التهديد وما معه من التعريض بالتغليط إلى التصريح بالتغليط في قالب الإنكار؛ فالخبر مستعمل في التغليط مجازاً وليس مستعملاً في إفادة مدلوله الأصلي...

والزعم: الاعتقاد المخطىء، أو الخبر المعرَّض للكذب...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

أي أنهم في هذا المَحْشَر الذي حُشروا فيه لم يكونوا مجهولون، أو أن الازدحام جعلهم غير معروفين، بل إنهم كانوا مع هذا الجمع الحاشد معروفين مُمَيَّزِين عند رب العالمين الذي لا يَخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء... أكد سبحانه وتعالى مجيئهم بـ (اللام)، و (قد) وأنهم مُعايَنون... وقوله تعالى: {كما خلقناكم أول مرة} فيه... إشارةٌ إلى قدرة الله الكامل المسيطرة، وأنه أعادهم كما بدأهم، كما بدأكم تعودون... {بل زعمتُم ألَّنْ نجعلَ لكم موعداً} الإضراب هنا بـ {بل} معناه الإضراب عما كانوا عليه في الدنيا وإثبات الواقع المُقرَّر الذي يرونه، و {زعمتم}، أي ظننتم بزعْمكم لا بالحقيقة الثابتة...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفّاً} واحداً يمثل التساوي في كل المواقع الذاتية، فلا تَفاضُلَ بنسبٍ، ولا جاهٍ، ولا مالٍ، ولا جَمالٍ، ولا غير ذلك مما كانوا يتفاضلون فيه في الدنيا ويختلفون حوله، وليس لهم في هذا الموقف إلا العمل، وبذلك يكتشفون سقوطَ الامتيازات الدنيوية في عُمق القيمة الروحية الإلهية...

{بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا} وخُيِّل إليكم... أنّ... الحياة ستمتد بكم إلى ما لا نهاية، أو أنها ستنتهي إلى اللاشيء، لأنكم لم تكتشفوا العلاقة الحقيقية بالله من خلال وجودكم في الدنيا، أو من خلال حركة الحياة في هذا الوجود، في حاجاتها وأوضاعها، وعلاقاتها، بل أخلدتم إلى الأرض في نظرة تائهة مشدودة إلى التراب، بعيدة عن الآفاق العليا التي تطل بالفكر على الحقيقة الإلهية التي تشمل الكون كله، وتحتوي الزمن كله، وتوحي للإنسان بأن هناك سرّاً يكمن خلف الحياة، وأن الله لم يخلق الناس عبثاً، ولم يُعْفِهم من المسؤولية، لأن ذلك هو معنى الحكمة في خلقه وفي تشريعه...