ثم تبدأ السورة بعد ذلك حديثاً مستفيضاً عن أوهام المشركين وجهالاتهم التى تتعلق بمآكلهم ، ومشاربهم ، ونذورهم ، وذبائحهم ، وعاداتهم البالية ، وتقاليدهم الموروثة ، فتناقشهم فى كل ذلك مناقشة منطقية حكيمة ، وترد عليهم فيما أحلوه وحرموه بدون علم ولا هدى ولا كتاب منير ، وترشدهم إلى الطريق السليم الذى من الواجب عليهم أن يسلكوه . استمع إلى سورة الأنعام وهى تحكى كل ذلك فى بضع عشرة آية بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول : { وَجَعَلُواْ للَّهِ . . . . } .
لقد حكت هذه الآيات الكريمة بعض الرذائل التى كانت متفشية فى المجتمع الجاهلى ، أما الرذيلة الأولى فملخصها أنهم كانوا يجعلون من زروعهم وأنعامهم وسائر أموالهم نصيباً لله ونصيباً لأوثانهم ، فيشركونها فى أموالهم فما كان لله صرفوه إلى الضيفان والمساكين ، وما كان للأوثان أنفقوه عليها وعلى سدنتها فإذا رأوا ما جعلوه لله أزكى بدلوه بما للأوثان ، وإذا رأوا ما جعلوه للأوثان أزكى تركوه لها .
استمع إلى القرآن وهو يقص ذلك بأسلوبه الحكيم فيقول : { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً } .
" ذرأ " بمعنى خلق يقال : ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءًا أى : خلقهم وأوجدهم وقيل . الذرأ الخلق على وجه الاختراع .
أى : وجعل هؤلاء المشركون مما خلقه الله - تعالى - من الزروع والأنعام نصيباً لله يعطونه للمساكين وللضيوف وغيرهم ، وجعلوا لأصنامهم نصيباً آخر يقدمونه لسدنتها ، وإنما لم يذكر النصيب الذى جعلوه لأصنامهم اكتفاء بدلالة ما بعده وهو قوله : { فَقَالُواْ هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَآئِنَا } .
أى : فقالوا فى القسم الأول : هذا لله نتقرب به إليه .
وقالوا فى الثانى : وهذا لشركائنا نتوسل به إليها .
وقوله - تعالى - فى القسم الأول { هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ } أى : بتقولهم ووضعهم الذى لا علم لهم به ولا هدى .
قال الجمل : ومن المعلوم أن الزعم هو الكذب ، وإنما نسبوا للكذب فى هذه المقالة مع أن كل شىء لله ، لأن هذا الجعل لم يأمرهم به الله وإنما هو مجرد اختراع منهم .
وقال أبو السعود : وإنما قيد الأول بالزعم للتنبيه على أنه فى الحقيقة جعل لله - تعالى - غير مستتبع لشىء من الثواب كالتطوعات التى يبتغى بها وجه الله - لا لما قيل من أنه للتنبيه على أن ذلك مما اخترعوه ، فإن ذلك مستفاد من الجعل ولذلك لم يقيد به الثانى ، ويجوز أن يكون ذلك تمهيداً لما بعده على معنى أن قولهم هذا لله مجرد زعم منهم لا يعلمون بمقتضاه الذى هو اختصاصه - تعالى - به .
ثم فصل - سبحانه - ما كانوا يعملونه بالنسبة للقسمة فقال : { فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إلى الله وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَآئِهِمْ } .
أى : فما كان من هذه الزروع والأنعام من القسم الذى يتقرب به إلى شركائهم ، فإنهم يحرمون الضيفان والمساكين منه ولا يصل إلى الله منه شىء ، وما كان منها من القسم الذى يتقرب به إلى الله عن طريق إكرام الضيف والصدقة ، فإنهم يجورون عليه ويأخذون منه ما يعطونه لسدنة الأصنام وخدامها .
فهم يجعلون قسم الأصنام لسدنتها وأتباعها وحدهم ، بينما القسم الذى جعلوه لله بزعمهم ينتقصونه ويضعون الكثير منه فى غير موضعه ، ويقولون : إن الله غنى وإن آلهتنا محتاجة .
وقد عقب القرآن على هذه القسمة الجائرة بقوله : { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } أى : ساء وقبح حكمهم وقسمتهم حيث آثروا مخلوقا عاجزا عن كل شىء ، على خالق قادر على كل شىء ، فهم بجانب عملهم الفاسد من أساسه لم يعدلوا فى القسمة .
الضمير في { جعلوا } عائد على كفار العرب العادلين بربهم الأوثان الذين تقدم الردعليهم من أول السورة ، و { ذرأ } معناه خلق وأنشأ وبث في الأرض ، يقال ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءاً وذروءاً أي خلقهم ، وقوله وجعلوا من كذا وكذا نصيباً يتضمن بقاء نصيب آخر ليس بداخل في حكم الأول ، فبينه بقوله : { فقالوا هذا لله وهذا لشركائنا } ، ثم اعترضهم أثناء القول بأن ذلك زعم وتقول ، والزعم في كثير كلام العرب أقرب إلى غير اليقين والحق ، يقال «زَعم » بفتح الزاي وبه قرأت الجماعة ، «وزُعم » بضمها ، وقرأ الكسائي وحده في هذه الآية{[5105]} «زِعم » بكسر الزاي ، ولا أحفظ أحداً قرأت به و { الحرث } في هذه الآية يريد به الزرع والأشجار وما يكون من الأرض ، وقوله { لشركائنا } يريد به الأصنام والأوثان ، وسموهم شركاء على معتقدهم فيهم أنهم يساهمونهم في الخير والشر ويكسبونهم ذلك ، وسبب نزول هذه الآية أن العرب كانت تجعل من غلاّتها وزرعها وثمارها ومن أنعامها جزءاً تسميه لله وجزءاً تسميه لأصنامها ، وكانت عادتها التحفي والاهتبال بنصيب الأصنام أكثر منها بنصيب الله إذ كانوا يعتقدون أن الأصنام بها فقر وليس ذلك بالله فكانوا إذا جمعوا الزرع فهبت الريح فحملت ِمَن الذي لله إلى الذي لشركائهم أقروه ، وإذا حملت من الذي لشركائهم إلى الله ردوه . وإذا تفجر من سقي ما جعلوا لله في نصيب شركائهم تركوه ، وإن بالعكس سدوه ، وإذا لم يصيبوا في نصيب شركائهم شيئاً قالوا لا بد للآلهة من نفقة فيجعلون نصيب الله تعالى في ذلك .
قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم أنهم كانوا يفعلون هذا ونحوه من الفعل وكذلك في الأنعام وكانوا إذا أصابتهم السنة أكلوا نصِيب الله وتحاموا نصيب شركائهم ، وقوله تعالى : { فما كان لشركائهم } الآية قال جمهور المتأولين إن المراد بقوله تعالى : { فلا يصل } وبقوله تعالى : { يصل } ما قدمنا ذكره من حمايتهم نصيب آلهتهم في هبوب الريح وغير ذلك ، وقال ابن زيد إنما ذلك في أنهم كانوا إذا ذبحوا لله ذكروا آلهتهم على ذلك الذبح وإذا ذبحوا لآلهتهم لم يذكروا الله ، فكأنه قال «فلا يصل » إلى ذكر الله وقال فهو «يصل » إلى ذكر شركائهم ، و { ما } في موضع رفع كأنه قال ساء الذي يحكمون ، ولا يتجه عندي أن يجري هنا { ساء } مجرى نعم وبئس لأن المفسر هنا مضمر ولا بد من إظهاره باتفاق من النحاة ، وإنما اتجه أن تجري مجرى بئس في قوله { ساء مثلاً القوم }{[5106]} . لأن المفسر ظاهر في الكلام{[5107]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.