وقوله - سبحانه - { واستبقا الباب . . . } متصل بقوله - سبحانه - قبل ذلك { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ . . . } وقوله { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء . . . } اعتراض جئ به بين المتعاطفين تقريرا لنزاهته .
وقوله { واستبقا . . } من الاستباق وهو افتعال من السبق بمعنى أن كل واحد منهما يحالو أن يكون هو السابق إلى الباب .
ووجه تسابقهما : أن يوسف - عليه السلام - أسرع بالفرار من أمامها إلى الباب هروبا من الفاحشة التي طلبتها منه . وهى أسرعت خلفه لتمنعه من الوصول إلى الباب ومن الخروج منه .
وأفرد - سبحانه - الباب هنا ، وجمعه فيما تقدم ، لأن المراد به هنا الباب الخارجى ، الذي يخلص منه يوسف إلى خارج الدار ، وهو منصوب هنا على نزع الخافض أى : واستبقا إلى الباب .
وجملة { وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ } حالية ، والقد : القطع والشق ، وأكثر استعماله في الشق والقطع الذي يكون طولا ، وهو المراد هن ، لأن الغالب أنها جذبته من الخلف وهو يجرى أمامها فانخرق القميص إلى أسفله .
وقوله : { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الباب } أى : وصادفا ووجدا زوجها عند الباب الذي تسابقا للوصول إليه .
قالوا : والتعبير عن الزوج بالسيد ، كان عادة من عادات القوم في ذلك الوقت ، فعبر عنه القرآن بذلك حكاية لدقائق ما كان متبعا في التاريخ القديم .
وقال - سبحانه - { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا } لأن ملك العزيز ليوسف - عليه السلام - لم يكن ملكا صحيحا ، فيوسف ليس رقيقا يباع ويشترى ، وإنما هو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ، وبيع السيارة له ، إنما كان على سبيل التخلص منه بعد أن التقطوه من الجب .
وقوله - سبحانه - { قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سواءا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } حكاية لما قالته لزوجها عندما فوجئت به عند الباب وهى تسرع وراء يوسف .
أى قالت تلك المرأة لزوجها عندما فوجئت به لدى الباب : ليس من جزاء لمن أراد بأهلك - تعنى نفسها - سوءا ، أى ما يسوءك ويؤلمك ، إلا أن يسجن ، عقوبة له ، أو أن يعذب عذابا أليما عن طريق الضرب أو الجلد ، لتجاوزه الحدود ، واعتدائه على أهلك .
وهذه الجملة الكريمة التي حكاها القرآن الكريم عنها ، تدل على أن تلك المرأة كانت في نهاية المكر والدهاء والتحكم في إرادة زوجها . . .
ورحم الله الآلوسى فقد علق على قولها ها الذي حكاه القرآن عنها بقوله ما ملخصه : " ولقد آتت - تلك المرأة - في هذه الحالة التي يدهش فيها الفطن اللوذعى - حيث شاهدها زوجها على تلك الحالة المريبة - بحيلة جمعت فيها غرضيها ، وهما تبرئة ساحتها مما يلوح من ظاهر حالها ، واستنزال يوسف عن رأيه في استعصائه عليها ، وعدم طاعته لها ، بإلقاء الرعب في قلبه . . .
ولم تصرح بالاسم ، بل أتت بلفظ عام { مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سواءا . . . } تهويلا للأمر ، ومبالغة في التخويف ، كأن ذلك قانون مطرد في حق كل من أراد بأهله سوءاً .
وذكرت نفسها بعنوان أهلية العزيز ، إعظاما للخطب . . .
ثم إن حبها الشديد ليوسف - عليه السلام - حملها على أن تبدأ بذكرالسجن ، وتؤخر ذكر العذاب لأن المحب لا يسعى في إيلام المحبوب ، لا سيما أن قولها : " إلا أن يسجن .
. . قد يكون المراد منه السجن لمدة يوم أو يومين . . . " .
والحق أن هذه الجملة التي حكاها القرآن عنها ، تدل على اكتمال قدرتها على المكر والدهاء - كما سبق أن أشرنا - ومن مظاهر ذلك ، محاولتها إيهام زوجها بأن يوسف قد اعتدى عليها بما يسؤوها ويسوؤه ، ولكن بدون تصريح بهذا العدوان - شأن العاشق مع معشوقه - حتى لا يسعى زوجها في التخلص منه ببيعه - مثلا - .
وفى الوقت نفسه إفهام يوسف عن طريق مباشر ، بأن أمره بيدها لا بيد زوجها ، وأنها هي الآمرة الناهية ، فعليه أن يخضع لما تريده منه ، وإلا فالسجن أو العذاب الأليم هو مصيره المحتوم .
{ واستبقا الباب } أي تسابقا إلى الباب ، فحذف الجار أو ضمن الفعل معنى الابتدار . وذلك أن يوسف فرّ منها ليخرج وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج . { وقدّت قميصه من دُبر } اجتذبته من ورائه فانقد قميصه والقد الشق طولاً والقط الشق عرضا . { وأفيا سيّدها } وصادفا زوجها . { لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يُسجن أو عذاب أليم } إسهاما بأنها فرت منه تبرئة لساحتها عد زوجها وتغييره على يوسف وإغراءه به انتقاما منه ، و{ ما } نافية أو استفهامية بمعنى أي شيء جزاءه إلا السجن .
الاستباق : افتعال من السبْق . وتقدم آنفاً ، وهو هنا إشارة إلى تكلفهما السبق ، أي أن كل واحد منهما يحاول أن يكون هو السابق إلى الباب .
وانتصب { الباب } على نزع الخافض . وأصله : واستبقا إلى الباب ، مثل { واختار موسى قومَه سبعين رجلاً } [ سورة الأعراف : 155 ] ، أي من قومه ، أو على تضمين استبقا } معنى ابتدرا .
والتعريف في ( الباب ) تعريف الجنس إذ كانت عدة أبواب مغلقة . وذلك أن يوسف عليه السّلام فرّ من مراودتها إلى الباب يريد فتحه والخروج وهي تريد أن تسبقه إلى الباب لتمنعه من فتحه .
وجملة { وقدّت قميصه } في موضع الحال . و { قدت } أي قطعت ، أي قطعت منه قداً ، وذلك قبل الاستباق لا محالة . لأنه لو كان تمزيق القميص في حال الاستباق لم تكن فيه قرينة على صدق يوسف عليه السّلام أنها راودته ، إذ لا يدل التمزيق في حال الاستباق على أكثر من أن يوسف عليه السّلام سبقها مسرعاً إلى الباب ، فدل على أنها أمسكته من قميصه حين أعرض عنها تريد إكراهه على ما راودته فجذب نفسه فتخرق القميص من شدة الجذبة . وكان قطع القميص من دبر لأنه كان مولياً عنها معْرضاً فأمسكته منه لرده عن إعراضه .
وقد أبدع إيجاز الآية في جمع هذه المعاني تحت جملة { استبقا الباب وقَدت قميصه } .
وصادف أن ألفيا سيدها ، أي زوجها ، وهو العزيز ، عند الباب الخارجي يريد الدخول إلى البيت من الباب الخارجي . وإطلاق السيد على الزوج قيل : إن القرآن حكى به عادة القبط حينئذٍ ، كانوا يدعون الزوج سيداً . والظاهر أنه لم يكن ذلك مستعملاً في عادة العرب ، فالتعبير به هنا من دقائق التاريخ مثل قوله الآتي { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } [ سورة يوسف : 76 ] . ولعل الزواج في مصر في ذلك العهد كان بطريق الملك غالباً . وقد علم من الكلام أن يوسف عليه السّلام فتح الأبواب التي غَلّقتها زليخا باباً باباً حتى بلغ الخارجي ، كل ذلك في حال استبَاقهما ، وهو إيجاز .
والإلفاء : وجدان شيء على حالة خاصة من غير سعي لوجدانه ، فالأكثر أن يكون مفاجئاً ، أو حاصلاً عن جهل بأول حصول ، كقوله تعالى : { قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا } [ سورة البقرة : 170 ] .
وجملة { قالت ما جزاء } الخ مستأنفة بيانياً ، لأن السامع يسأل : ماذا حدث عند مفاجأة سيدها وهما في تلك الحالة .
وابتدرته بالكلام إمعاناً في البهتان بحيث لم تتلعثم ، تخيل له أنها على الحق ، وأفرغت الكلام في قالب كلي ليأخذ صيغة القانون ، وليكون قاعدة لا يعرف المقصود منها فلا يسع المخاطب إلا الإقرار لها . ولعلها كانت تخشى أن تكون محبة العزيز ليوسف عليه السّلام مانعة له من عقابه ، فأفرغت كلامها في قالب كلي . وكانت تريد بذلك أن لا يشعر زوجها بأنها تهوى غير سيدها ، وأن تخيف يوسف عليه السّلام من كيدها لئلا يمتنع منها مرة أخرى .
ورددت يوسف عليه السّلام بين صنفين من العقاب ، وهما : السجن ، أي الحبس . وكان الحبس عقاباً قديماً في ذلك العصر ، واستمر إلى زمن موسى عليه السّلام ، فقد قال فرعون لموسى عليه السّلام : { لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين } [ سورة الشعراء : 29 ] .
وأما العذاب فهو أنواع ، وهو عقاب أقدمُ في اصطلاح البشر . ومنه الضرب والإيلام بالنار وبقطع الأعضاء . وسيأتي ذكر السجن في هذه السورة مراراً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.