اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱسۡتَبَقَا ٱلۡبَابَ وَقَدَّتۡ قَمِيصَهُۥ مِن دُبُرٖ وَأَلۡفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا ٱلۡبَابِۚ قَالَتۡ مَا جَزَآءُ مَنۡ أَرَادَ بِأَهۡلِكَ سُوٓءًا إِلَّآ أَن يُسۡجَنَ أَوۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (25)

قوله تعالى : { واستبقا الباب } [ الآية : 25 ] " البَابَ " منصوبٌ إمَّا على إسقاطِ الخافض اتّساعاً ، إذ أصلُ " اسْتبَقَ " أن يتعدَّى ب " إلى " ، وإما على تضمين " اسْتَبقَ " معنى ابتدر ، فينصب مفعولاً به . قوله تعالى : { وَقَدَّتْ } يحتمل أن تكون الجملة نسقاً على " اسْتبقَا " أي : استبق ، وقدت ، ويحتمل أن يكون في محل نصب على الحال ، أي : وقد قدَّت . والقدّ : الشَّقُّ مطلقاً ، قال بعضهم : القدُّ : فيما كان يشقُّ طولاً القطُّ : فيما كان يشقُّ عَرْضاً .

قال ابن عطية " وقرأت فرقة : وقَطّ " قال أبو الفضل بنُ حربٍ : رأيت في مصحب " وقطَّ مِنْ دبُرٍ " أي : شقَّ .

قال يعقوب : القطُّ في الجلدِ الصحيح ، والثوب الصحيح ؛ وقال الشاعر : [ الطويل ]

3077 تَقُدُّ السَّلُوقيَّ المُضاعفَ نَسْجهُ *** وتُوقِدُ بالصفَّاحِ نَارَ الحُباحِبِ

فصل

قال العلماء رضي الله عنهم وهذا الكلامْ من اختصار القرآن المعجز الذي يجتمع فيه المعاني ، وذلك أنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام لما رأى برهان ربِّه ، خرج حينئذ هارباً ، وتبعته المرأة فتعلقت بقميصه من خلفه ، فجذبته إليها حتى لا يخرج " وقدَّتْ قَميصَهُ " [ أي ] : فشققته المرأة من دبر .

والاستباقُ : طلبُ السَّبْق ، أي : يجتهدُ كلُّ واحدٍ منهما أن يسبق صاحبهُ فإن سبق يوسف فتح الباب ، وخرج ، وإن سبقت المرأةُ أمسكتِ الباب لئلا يخرج فسبقها يوسف عليه السلام إلى الباب ، والمرأة تعدو خلفه ، فلم تصلْ إلا إلى دبر القميص ، فتعلقت به فقدته من خلفه ، فلمَّا خرجا " ألْفَيَا " ، أي : وجدا " سيِّدهَا " ، وإنما لم يقل سيدهما ؛ لأنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام لم يكن مملوكاً لذلك الرجل حقيقة " لَدى البابِ " أي : عند البابِ ، والمرأة تقول لبعلها : سيِّدي .

فإن قيل : فالمرأةُ أيضاً ليست مملوكة لبعلها حقيقة .

فالجواب : أن الزَّوج لما ملك الانتفاع بالمرا’ من الوطء والخلوةِ ، والمباشرةِ ، والسفر بها من غير اختيارها أشبهت المملوكة ، فلذلك حسن إطلاقُ السيِّد عليه .

قال القرطبيُّ : " والقبط يسمون الزوج سيداً ، ويقال : ألفاه ، وصادفهُ ، وواله ووَالطَه ، ولاطَهُ ، وكلٌّ بمعنى واحدٍ " .

فعند ذلك ، خافتِ المرأةُ من التُّهمِ ، فبادرت إلى أن رمتْ يوسف عليه السلام بالعفلِ القبيح ، { وقالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً } يعنى الزِّنا ، ثم خافت عليه أن يقتل فقالت : { إلاَّ أن يُسجنَ } ، أي : يحبس ، { أوْ عذابٌ أليمٌ } أي : يُعَاقبُ بالضَّربِ .

قوله : " مَا جزاءُ " يجوز في " مَا " هذه أن تكون نافية ، وأن تكون استفهاميَّة ، و " مَنْ " يجوز أن تكون موصولة ، أو نكرة موصوفة .

قوله : " إلاَّ أن يُسْجنَ " خبر المبتدأ ، ولما كان " أن يُسْجنَ " في قوَّة المصدر عطف عليه المصدر ، وهو قوله : " أو عذابٌ " . و " أوْ " تحتملُ معانيها ، وأظهرها التنويع .

وقرأ زيد بن علي : ( أو عذاباً أليماً ] بالنصب ، وخرَّجه الكسائي على إضمار فعل ، أو أن يعذَّب عذباً أليماً .

قوله : " هِيَ " ولم يقل هذه ، ولا تلك ، لفرط استحايئه " وهو أدبٌ حسنٌ حيث أتى بلفظ الغيبة دون الحضور .

فصل

قال ابن الخطيب : في الآية لطائف :

إحداها : أن حُبَّها الشَّديد ليوسف ، حملها على رعايةِ دقيقتين في هذا الموضع ، وذلك لأنهَّا بدأت بذكر السِّجن ، وأخرت ذكر العذاب ؛ لأنَّ المحبَّة لا تسعى في إيلام المحبوب ، وأيضاً : لم تقل إنَّ يوسف يجب أن يقابل بهذين الأمرين ، بل ذكرت ذلك ذكراً كليًّا صوناً للمحبوب عن الذِّكر بالشر وأيضاً قالت : " إلاَّ أنْ يُسْجنَ " والمرادُ أن يسجن يوماً ، أو يومين ، أو أقل على سبيل التخفيف ، فأمَّا الحبسُ الدَّائمُ فإنَّه لا يعبِّر عنه بهذه العبارة ، بل يقال : يجبُ أن يجعل من المسجونين ، كما قال فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام حين هدَّدُ { لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين } [ الشعراء : 29 ] وأيضاً : لما شاهدت من يوسف أنه استعصم ، مع أنه كان في عنفوان العمر ، وكمال القوة ، ونهاية الشهوة ، وعظم اعتقادها في طهارته ، ونزاهته ، فاستحيتْ أن تقول : إنَّ يوسف قصدني بالسُّوءِ ، ولم تجد من نفسها أن ترميهُ بالكذبِ ، وهؤلاء نسبُوا إليه هذا الذَّنب القبيحَ .

وأيضاً : يوسف عليه الصلاة والسلام أراد أن يضربها ، ويدفعها عن نفسه [ وكان ] ذلك بالنسبة إليها جارياً مجرى السُّوء ، فقولها { ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً } له ظاهر وباطن ، باطنه أنَّها التي أرادت السُّوء ، وظاهره دفعه لها ومنعها ، فأرادت بقولها : { ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً } فعل نفسها بقلبها ، أو في ظاهر الأمر ، أو همت أنه قصدني بما لا ينبغي .