مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱسۡتَبَقَا ٱلۡبَابَ وَقَدَّتۡ قَمِيصَهُۥ مِن دُبُرٖ وَأَلۡفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا ٱلۡبَابِۚ قَالَتۡ مَا جَزَآءُ مَنۡ أَرَادَ بِأَهۡلِكَ سُوٓءًا إِلَّآ أَن يُسۡجَنَ أَوۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (25)

قوله تعالى { واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين }

اعلم أنه تعالى لما حكى عنها أنها { همت } أتبعه بكيفية طلبها وهربه فقال : { واستبقا الباب } والمراد أنه هرب منها وحاول الخروج من الباب وعدت المرأة خلفه لتجذبه إلى نفسها ، والاستباق طلب السبق إلى الشيء ، ومعناه تبادر إلى الباب يجتهد كل واحد منهما أن يسبق صاحبه فإن سبق يوسف فتح الباب وخرج ، وإن سبقت المرأة أمسكت الباب لئلا يخرج ، وقوله : { واستبقا الباب } أي استبقا إلى الباب كقوله : { واختار موسى قومه سبعين رجلا } أي من قومه .

واعلم أن يوسف عليه السلام سبقها إلى الباب وأراد الخروج والمرأة تعدو خلقه فلم تصل إلا إلى دبر القميص فقدته ، أي قطعته طولا ، وفي ذلك الوقت حضر زوجها وهو المراد من قوله { وألفيا سيدها لدى الباب } أي صادفا بعلها تقول المرأة لبعلها سيدي ، وإنما لم يقل سيدهما لأن يوسف عليه السلام ما كان مملوكا لذلك الرجل في الحقيقة ، فعند ذلك خافت المرأة من التهمة فبادرت إلى أن رمت يوسف بالفعل القبيح ، وقالت : { ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم } والمعنى ظاهر . وفي الآية لطائف : إحداها : أن «ما » يحتمل أن تكون نافية ، أي ليس جزاؤه إلا السجن ، ويجوز أيضا أن تكون استفهامية يعني أي شيء جزاؤه إلا أن يسجن كما تقول : من في الدار إلا زيد . وثانيها : أن حبها الشديد ليوسف حملها على رعاية دقيقتين في هذا الموضع وذلك لأنها بدأت بذكر السجن ، وأخرت ذكر العذاب ، لأن المحب لا يسعى في إيلام المحبوب ، وأيضا أنها لم تذكر أن يوسف يجب أن يعامل بأحد هذين الأمرين ، بل ذكرت ذلك ذكرا كليا صونا للمحبوب عن الذكر بالسوء والألم ، وأيضا قالت : { إلا أن يسجن } والمراد أن يسجن يوما أو أقل على سبيل التخفيف .

فأما الحبس الدائم فإنه لا يعبر بهذه العبارة ، بل يقال : يجب أن يجعل من المسجونين ألا ترى أن فرعون هكذا قال حين تهدد موسى عليه السلام في قوله : { لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين } وثالثها : أنها لما شاهدت من يوسف عليه السلام أنه استعصم منها أنه كان في عنفوان العمر وكمال القوة ونهاية الشهوة ، عظم اعتقادها في طهارته ونزاهته فاستحيت أن تقول إن يوسف عليه السلام قصدني بالسوء ، وما وجدت من نفسها أن ترميه بهذا الكذب على سبيل التصريح بل اكتفت بهذا التعريض ، فانظر إلى تلك المرأة ما وجدت من نفسها أن ترميه بهذا الكذب وأن هؤلاء الحشوية يرمونه بعد قريب من أربعة آلاف سنة بهذا الذنب القبيح . ورابعها : أن يوسف عليه السلام أراد يضربها ويدفعها عن نفسه ، وكان ذلك بالنسبة إليها جاريا مجرى السوء فقولها : { ما جزاء من أراد بأهلك سوءا } جاريا مجرى التعريض فلعلها بقلبها كانت تريد إقدامه على دفعها ومنعها . وفي ظاهر الأمر كانت توهم أنه قصدني بما لا ينبغي .