التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَلَنَأۡتِيَنَّكَ بِسِحۡرٖ مِّثۡلِهِۦ فَٱجۡعَلۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكَ مَوۡعِدٗا لَّا نُخۡلِفُهُۥ نَحۡنُ وَلَآ أَنتَ مَكَانٗا سُوٗى} (58)

ثم أضاف فرعون إلى تهديده لموسى تهديدا آخر فقال : { فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى } .

وقوله : { فَلَنَأْتِيَنَّكَ . . . } جواب لقسم محذوف . أى : والله لنأتينك بسحر مثله . . .

قال الجمل : وقوله : { مَوْعِداً } يجوز أن يكون زمانا ، ويرجحه قوله : { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } ويجوز أن يكون مكانا ، والمعنى : بين لنا مكانا معلوما نعرفه نحن وأنت فنأتيه ، وهذا يؤيده قوله : { مَكَاناً سُوًى } .

ويجوز أن يكون مصدرا ، ويؤيد هذا قوله { لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ } لأن المواعدة توصف بالخلف وعدمه .

وقوله : { لاَّ نُخْلِفُهُ } من الإخلاف بمعنى عدم إنجاز الوعد .

وقوله : { سُوًى } قرأه ابن عامر وعاصم وحمزة بضم السين ، وقرأة الباقون بالكسر ومعنى القراءتين واحد .

وأصله من الاستواء . يقال : مكان سوى وسواء .

أى : عدل ووسط ، بحيث يستوى طرفاه بالنسبة للفريقين .

أى : قال فرعون لموسى مهددا ومتوعدا : أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى ، والله لنأتينك بسحر مثل سحرك ، فاجعل بيننا وبينك موعدا للمباراة والمنازلة ، لا نخلف نحن ولا أنت هذا الموعد ، وأن يكون مكان منازلتنا لك فى مكان يتوسط المدينة ، بحيث يستطيع جميع سكانها أن يحضروا إليه .

والمتأمل فى الآية الكريمة يرى أن فرعون قد قال ما قال لموسى وهو كأنه قد جمع أطراف النصر بين يديه .

ويشهد لذلك : تصديره كلامه بالقسم { فَلَنَأْتِيَنَّكَ . . } وتركه لموسى اختيار الموعد الذى يناسبه { فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً } واشتراطه عدم الخلف فى الموعد { لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ } واقتراحه أن يكون مكان المبارزة فى وسط المدينة ، حتى يراها جميع الناس { مَكَاناً سُوًى } .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَلَنَأۡتِيَنَّكَ بِسِحۡرٖ مِّثۡلِهِۦ فَٱجۡعَلۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكَ مَوۡعِدٗا لَّا نُخۡلِفُهُۥ نَحۡنُ وَلَآ أَنتَ مَكَانٗا سُوٗى} (58)

فإن عندنا سحرًا مثل سحرك ، فلا يغرنك ما أنت فيه { فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا } أي : يومًا نجتمع نحن وأنت فيه ، فنعارض ما جئت به بما عندك من السحر في مكان معين ووقت معين فعند ذلك .

/خ59

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَلَنَأۡتِيَنَّكَ بِسِحۡرٖ مِّثۡلِهِۦ فَٱجۡعَلۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكَ مَوۡعِدٗا لَّا نُخۡلِفُهُۥ نَحۡنُ وَلَآ أَنتَ مَكَانٗا سُوٗى} (58)

إضافته السحرَ إلى ضمير موسى قُصد منها تحقير شأن هذا الذي سمّاه سحراً .

وأسنَدَ الإتيان بسحرٍ مثله إلى ضمير نفسه تعظيماً لشأنه . ومعنى إتيانه بالسحر : إحضار السحرة بين يديه ، أي فلنأتينك بسحر ممنْ شأنهم أن يأتوا بالسحر ، إذ السحر لا بد له من ساحر .

والمماثلة في قوله { مِثْلِهِ } مماثلة في جنس السحر لا في قوته .

وإنما جعل فرعون العلّة في مجيء موسى إليه : أنها قصده أن يخرجهم من أرضهم قياساً منه على الذين يقومون بدعوة ضد الملوك أنهم إنما يبغون بذلك إزالتهم عن الملك وحلولَهم محلّهم ، يعني أن موسى غرّته نفسه فحسب أنه يستطيع اقتلاع فرعون من ملكه ، أي حسبتَ أنّ إظهار الخوارق يطوّع لك الأمة فيجعلونك ملكاً عليهم وتخرجني من أرضي . فضمير المتكلم المشارك مستعمل في التعظيم لا في المشاركة ، لأنّ موسى لم يصدر عنه ما يشمّ منه إخراجهم من أرضهم .

ويجوز أن يكون ضمير المتكلم المشارك مستعملاً في الجماعة تغليباً ، ونزّل فرعون نفسه واحداً منها . وأراد بالجماعة جماعة بني إسرائيل حيث قال له موسى { فأرسِلْ معنا بني إسرائيل } [ طه : 47 ] ، أي جئت لتخرج بعض الأمة من أرضنا وتطمع أن يتبعك جميع الأمّة بما تظهر لهم من سحرك .

والاستفهام في { أجِئْتَنَا } إنكاري ، ولذلك فرّع عليه القسم على أن يأتيه بسحر مثله ، والقسم من أساليب إظهار الغضب .

واللام لام القسم ، والنون لتوكيده . وقصد فرعون من مقابلة عمل موسى بمثله أن يزيل ما يخالج نفوس الناس من تصديق موسى وكونه على الحق ، لعلّ ذلك يفضي بهم إلى الثورة على فرعون وإزالته من ملك مصر .

وفرّع على ذلك طلب تعيين موعد بينه وبين موسى ليُحضر له فيه القائمين بسحر مثل سحره .

والموعد هنا يجوز أن يراد به المصدر الميمي ، أي الوعد وأن يراد به مكان الوعد ، وهذا إيجاز في الكلام .

وقوله { مكاناً } بدل اشتمال من { موعداً } بأحد معنييه ، لأنّ الفعل يقتضي مكاناً وزماناً فأبدل منه مكانُه .

وقوله { لا نُخْلِفُهُ } في قراءة الجمهور برفع الفعل صفةً ل { موعداً } باعتبار معناه المصدري . وقرأه أبو جعفر بجزم الفاء من ( نخلفْه ) على أن ( لا ) ناهية . والنهي تحذير من إخلافه .

و { سِوىً } قرأه نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، والكسائي بكسر السين . وقرأه عاصم ، وحمزة ، وابن عامر ، ويعقوب ، وخلف بضم السين وهما لغتان ، فالكسر بوزن فِعَل ، قال أبو عليّ : وزن فِعَل يقلُّ في الصفات ، نحو : قوم عِدىً . وقال أبو عبيدة ، وأبو حاتم ، والنحاس : كسر السين هو اللغة العالية الفصيحة ، وهو اسم وصف مشتق من الاستواء : فيجوز أن يكون الاستواء استواء التوسط بين جهتين . وأنشد أبو عبيدة لموسى ابن جابر الحنفي :

وإن أبانا كانَ حلّ ببلدة *** سِوىً بين قيسسٍ قيس عيلان والفِزْر

( الفِزر : لقب لسعد بن زيد مناةَ بن تميم هو بكسر الفاء ) .

والمعنى : قال مجاهد : إنه مكان نصف ، وكأنّ المرادَ أنّه نصف من المدينة لئلا يشق الحضور فيه على أهل أطراف المدينة . وعن ابن زيد : المعنى مكاناً مستوياً ، أي ليس فيه مرتفعات تحجب العين ، أراد مكاناً منكشفاً للناظرين ليشهدوا أعمال موسى وأعمال السحرة .