التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ يُجَٰدِلُونَ فِيٓ ءَايَٰتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٖ} (35)

ثم بين - سبحانه - أن علمه شامل لكل شئ فقال : { وَيَعْلَمَ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } والمحيص : المهر والمنجى من العذاب . يقال : خاص فلان عن الشئ ، إذا حاول الفرار منه .

وقراءة الجمهور بنصب " يعلم " على أنه منصوب على فعل مقدر . أى : فعل ما فعل - سبحانه - لينتقم من الظالمين ، وليعلم الذين يجادلون فى آياتنا الدالة على وحدنيتنا وقدرتنا . . أنهم لا محيص لهم ولا مهرب من عذابنا ، بسبب جدالهم بالباطل ليدحضوا به الحق .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ يُجَٰدِلُونَ فِيٓ ءَايَٰتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٖ} (35)

وقوله : { وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ } أي : لا محيد لهم عن بأسنا ونقمتنا ، فإنهم مقهورون بقدرتنا .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ يُجَٰدِلُونَ فِيٓ ءَايَٰتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٖ} (35)

وقرأ نافع وابن عامر والأعرج وأبو جعفر وشيبة : «ويعلمُ » بالرفع على القطع والاستئناف ، وحسن ذلك إذا جاء بعد الجزاء . وقرأ الباقون والجمهور : «ويعلمَ » بالنصب على تقدير : أن ، وهذه الواو نحو التي يسميها الكوفيون واو الصرف{[10153]} ، لأن حقيقة واو الصرف هي التي يريد بها عطف فعل على اسم ، فيقدر أن لتكون مع الفعل بتأويل المصدر فيحسن عطفه على اسم{[10154]} ، وذلك نحو قول الشاعر{[10155]} : [ الطويل ]

تقضي لبانات ويسأم سائم . . . فكأنه أراد : وسآمة سائم ، فقدر : وأن يسأم لتكون ذلك بتأويل المصدر الذي هو سآمة قال أبو علي : حسن النصب إذ كان قبله شرط وجزاء ، وكل واحد منهما غير واجب وقوله تعالى : { ما لهم من محيص } هو معلموهم الذي أراد أن يعلمه المجادلون في آياته عز وجل . والمحيص : المنجي وموضوع الروغان ، يقال حاص إذا راغ ، وفي حديث هرقل : فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب{[10156]} .


[10153]:معنى الصرف أنه كان على جهة فصرف إلى غيرها فتغير الإعراب لأجل الصرف، قال ذلك أبو عبيد، ومثل له بقوله تعالى في سورة آل عمران: {ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}، وقال: إن العطف لا يعين الاقتران في الوجود كالعطف في الاسم نحو (جاء زيد وعمرو)، ولو نصب فقيل: (وعمروا) اقتضى الاقتران، وكذلك (واو الصرف)تفيد معنى الاقتران، ولذلك أجمع على النصب في قوله تعالى: {ويعلم الصابرين}، أي: ويعلم المجاهدين والصابرين معا.
[10154]:نقل أبو حيان الأندلسي هذا الكلام ثم علق عليه بقوله: (وليس قوله تعليلا لقولهم: "واو الصرف" إنما هو تقدير لمذهب البصريين، وأما عند الكوفيين فإن "واو الصرف" ناصبة بنفسها لا بإضمار (أن) بعدها".
[10155]:هذا عجز بيت قاله الأعشى من قصيدة له يهجو يزيد بن مسهر الشيباني، والبيت بتمامه: لقد كان في حول ثواء ثوتيه تقضي لبانات ويسأم سائم وهو في الديوان، وابن الشجري، وابن يعيش، وشرح شواهد المغني، وكتاب سيبويه، والثواء: طول الإقامة، ثوى يثوي، ولبانات: جمع لبانة وهي الحاجة، وقضاء اللبانة هو تحقيق الغرض والغاية التي يسعى إليها الإنسان، وقيل: اللبانة: الحاجة من غير فاقة ولكن من همة، والسأم: المملل، والشاهد فيه أن (تقضي) اسم بمعنى قضاء، ولهذا نصبوا الفعل (يسأم) ليمكن العطف على الاسم، ويكون تقدير الكلام: لقد كان في هذا الحول الذي ثويته قضاء لبانات وسآمة سائم، قال هذا في شرح الأخفش، وقد روي البيت في كتاب سيبويه: (تقضى لبانات ويسأم سائم) على أن (تقضى) فعل مبني للمفعول و(لبانات) نائب فاعل بها، و(يسأم) فعل مرفوع وهو معطوف على (تقضى)، ويكون الشاهد هو رفع (يسأم) لأنه خبر واجب معطوف على (تقضى)، واسم (كان) مضمر فيها، والتقدير: لقد كان الأمر تقضى لبانات في الحول الذي ثويت فيه ويسأم من أقام فيه لطوله، وعلى هذا فلا شاهد فيه في بحثنا هنا.
[10156]:هذا جزء من حديث طويل رواه البخاري في كتاب بدء الوحي، وفي تفسير سورة النساء، وأبو داود، والترمذي في الجهاد، واحمد في مسنده (2-70، 100)، عن أبي سفيان بن حرب، وقد كان في تجارة مع بعض العرب في الشام، وعلم هرقل بأمره وأمر أصحابه فجمعهم وسألهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن أصله ونسبه ودعوته ومبادئه، واقتنع بها فجمع أهل حمص، وجمع عظماء الروم، ثم أمر بدكسرة له فغلقت أبوابها عليهم، ودعاهم إلى متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام، كما جاء في الحديث (فحاصوا حيصة حمر الوحش، فلما رأى هرقل هذا منهم أخبرهم أنه كان يختبرهم). راجع صفحة 129 من هذا الجزء.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ يُجَٰدِلُونَ فِيٓ ءَايَٰتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٖ} (35)

{ وَيَعْلَمَ الذين يجادلون فى ءاياتنا مَا لَهُمْ من محيص } .

قرأ نافع وابن عامر ويعقوب برفع { ويعلمُ } على أنه كلام مستأنف . وقرأه الباقون بالنصب .

فأما الاستئناف على قراءة نافع وابن عامر ويعقوب فمعناه أنه كلام أنُف لا ارتباط له بما قبله ، وذلك تهديد للمشركين بأنهم لا محيص لهم من عذاب الله لأنه لما قال : { ومن آياته الجواري في البحر } [ الشورى : 32 ] صار المعنى : ومن آيات انفراده بالإلهية الجواري في البحر . والمشركون يجادلون في دلائل الوحدانية بالإعْراض والانصراف عن سماعها فهددهم الله بأن أعلمهم أنهم لا محيص لهم ، أي من عذابه ، فحُذف متعلق المحيص إبهاماً له تهويلاً للتهديد لتذهب النفس كل مذهب ممكن فيكون قوله : ويعلم الذين يجادلون } خبَراً مراداً به الإنشاء والطلب فهو في قوة : وليعلمْ الذين يجادلون ، أو اعلموا يا من يجادلون ، وليس خبراً عنهم لأنهم لا يؤمنون بذلك حتى يعلموه .

وأما قراءة النصب فهي عند سيبويه وجمهور النحاة على العطف على فعللٍ مدخول للام التعليل ، وتضمَّن ( أنْ ) بعده . والتقدير : لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون الخ . وسموا هذه الواو واو الصَّرفْ لأنها تصرف ما بعدها عن أن يكون معطوفاً على ما قبلها ، إلى أن يكون معطوفاً على فعل متصيَّد من الكلام ، وهذا قول سيبويه في باب ما يرتفع بين الجزمين وينجزم بينهما ، وتبعه في « الكشاف » ، وذهب الزجاج إلى أن الواو واو المعية التي ينصب الفعل المضارع بعدها ب ( أن ) مضمرة .

ويجوز أن يجعل الخبر مستعملاً في مقاربة المخبر به كقولهم : قد قامت الصلاة ، فلما كان علمهم بذلك يوشك أن يَحصل نُزّل منزلة الحاصل فأخبر عنهم به ، وعلى هذا الوجه يكون إنذاراً بعقاب يحصل لهم قريب وهو عذاب السيف والأسْر يوم بدر .

وذكر فعل { يعلَم } للتنويه والاعتناء بالخبر كقوله تعالى : { واعْلموا أنكم ملاقُوه } في سورة البقرة ( 223 ) ، وقوله : { واعلموا أنما غنمتم من شيء } في سورة الأنفال ( 41 ) ، وقول النبي حين رأى أبا مسعود الأنصاري يضرب غلاماً له فناداه : اعْلَم أبَا مسعود اعْلم أبَا مسعود ، قال أبو مسعود : فالتفتُّ فإذا هو رسول الله فإذا هو يقول : اعلَم أبا مسعود . فألقيت السوط من يدي ، فقال لي : إن الله أقدر عليك منكَ على هذا الغلام رواه مسلم أواخر كتاب الإيمان . وتقدم معنى الذين يجادلون في آياتنا } في هذه السورة .

و { مَا } نافية ، وهي معلِّقة لفعل { يعلم } عن نصب المفعلوين .

والمَحِيص : مصدر ميمي من حاص ، إذا أخذ في الفرار ومَال في سَيره ، وفي حديث أبي سفيان في وصْف مجلس هرقل « فحاصُوا حَيْصة حُمر الوحش وأغلقت الأبواب » . والمعنى : ما لهم من فرار ومهرب من لقاء الله . والمراد : ما لهم من محيد ولا ملجأ . وتقدم في قوله تعالى : { ولا يجدون عنها محيصاً } في سورة النساء ( 121 ) .