وقوله - تعالى - : { الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ } استئناف جيء به لبيان كيفية الإِنفاق الذي يحبه الله ، ويجازي عليه المنفقين بالجزاء العظيم .
وقوله : { ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى } تحذير للمتصدق من هاتين الصفتين الذميمتين لأنهما مبطلتان لثواب الصدقة .
والمن معناه : أن يتطاول المحسن بإحسانه على من أحسن إليه ، ويتفاخر عليه بسبب ما أعطاه من عطايا . كأن يقول على سبيل التفاخر والتعبير : لقد أحسنت إليك وأنقذتك من الفقر وما يشبه ذلك .
قال الإِمام الرازي ما ملخصه : والمن في اللغة على وجوه : فقد يأتي بمعنى الإِنعام . يقال : قد من الله على فلان . إذا أنعم عليه بنعمه . وقد يأتي بمعنى النقص من الحق والبخس له . قال - تعالى - : { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } أي غير مقطوع وغير ممنوع ومنه سمى الموت منونا لأنه يقطع الأعمار ، ومن هذا الباب المنة والمذمة لأنها تنقص النعمة وتكدرها ، والعرب يمتدحون بترك المن بالنعمة .
والمراد بالمن في الآية المذموم الذي هو بمعنى " إظهار الاصطناع إليهم " .
وقال صاحب الكشاف : المن : أن يعتد على من أحسن إليه بإحسانه ، ويريد أنه اصطنعه وأوجب عليه حقاله ، وكانوا يقولون : إذا صنعتم صنيعة فانسوها . ولبعضهم .
وإن أمروا أسدى إلى صينعة . . . وذكرينها إنه للئيم
وفي نوابغ الكلم : صنوان : من منح سائله ومنَّ ، ومن منع نائله وضن " والمراد بالأذى في الآية : أن يقول المعطى لمن أعطاه قولا يؤذيه ، أو يفعل مه فعلا يسئ به إليه ، وهو أعم من المن ، إذ المن نوع من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وقوعه .
وجاء العطف بثم في الجملة الكريمة ، لإظهار التفاوت الشديد في ارتبة بين الإِنفاق الذي يحبه الله ، وبين الإِنفاق الذي يصاحبه المن والأذى ، وللإِشعار بأن المن والأذى بغيضان عند الإِنفاق وبعده ، فعلى المنفق أن يستمر في أدبه وإخلاصه وقت الإِنفاق وبعده حتى لا يذهب ثوابه ، إذ المنّ والأذى مبطلان للثواب في أي وقت يحصلان فيه .
قال الشيخ ابن المنير مبيناً أن { ثُمَّ } هنا تفيد استمرار الفعل بجانب إفادتها للتفاوت في الرتبة : وعندي فيها - أي في ثم - وجه آخر محتمل في هذه الآية ونحوها . وهو الدلالة على دوام الفعل المعطوف بها وإرخاء الطول في استصحابه . فهي على هذا لم تخجر عن الإِشعار ببعد الزمن ، ولكن معناها الاصلىي تراخي زمن وقوع الفعل وحدوثه ، ومعناها المستعار إليه دوام وجود الفعل وتراخي زمن بقائه . وعليه حمل قوله - : { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا } أي : داوموا على هذه الاستقامة دواما متراخيا ممتد الامد . . وكذلك قوله هنا { ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى } أي يدومون على تناسي الإِحسان وعلى ترك الاعتداد به والامتنان والأذى . .
وكرر - سبحانه - النفي في قوله : { ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى } لتأكيده وشموله لأفراد كل واحد منهما ، أي يجب ألا يقع منهم أي من نوع من أنواع المن ولا أي نوع من أنواع الأذى . حتى لقد قال بعض الصالحين : " لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه بنفقة تبتغي بها وجه الله ، فلا تسلم عليه " .
ثم ختم - سبحانه - الآية ببيان عاقبة المنفقين بلا من ولا أذى فقال : { لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } أي : لهم جزاؤهم العظيم مكافأة لهم على أدبهم وإخلاصهم ، عند مربيهم ومالك أمرهم ، ولا خوف عليهم مما سيجدونه في مستقبلهم ، ولا هم يحزنون على ماضيهم ، وذلك لأن الله - تعالى - قد أحاطهم برعايته في دنياهم وأخراهم وعوضهم عما فارقوه خير عوض وأكرمه .
يمدح تعالى الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ، ثم لا يتبعون ما أنفقوا من الخيرات والصدقات منا على من{[4419]} أعطوه ، فلا يمنون على أحد ، ولا يمنون به لا بقول ولا فعل .
وقوله : { وَلا أَذًى } أي : لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروها يحبطون به ما سلف من الإحسان . ثم وعدهم تعالى الجزاء الجزيل على ذلك ، فقال : { لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِم } أي : ثوابهم على الله ، لا على أحد سواه { وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِم } أي : فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } أي : [ على ]{[4420]} ما خلفوه من الأولاد وما فاتهم من الحياة الدنيا وزهرتها{[4421]} لا يأسفون عليها ؛ لأنهم قد صاروا إلى ما هو خير لهم من ذلك .
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 262 )
وقوله تعالى : { الذين ينفقون أموالهم } الآية ، لما تقدم في الآية التي قبل هذه ذكر الإنفاق في سبيل الله على العموم بيّن في هذه الآية أن ذلك الحكم إنما هو لمن لم يتبع إنفاقه مناً ولا أذى( {[2575]} ) ، وذلك أن المنفق في سبيل الله إنما يكون على أحد ثلاثة أوجه ، إما أن يريد وجه الله تعالى ويرجو ثوابه ، فهذا لا يرجو من المنفق عليه شيئاً ولا ينظر من أحواله في حال سوى أن يراعي استحقاقه( {[2576]} ) ، وإما أن يريد من المنفق عليه جزاء بوجه من الوجوه ، فهذا لم يرد وجه الله بل نظر إلى هذه الحال من المنفق عليه ، وهذا هو الذي متى أخلف ظنه من بإنفاقه وآذى ، وإما أن ينفق مضطراً دافع غرم إما لماتة( {[2577]} ) للمنفق عليه أو قرينة أخرى من اعتناء معتن ونحوه ، فهذا قد نظر في حال ليست لوجه الله ، وهذا هو الذي متى توبع وحرج بوجه من وجوه الحرج آذى .
فالمن والأذى يكشفان ممن ظهرا منه أنه إنما كان على ما ذكرناه من المقاصد ، وأنه لم يخلص لوجه الله ، فلهذا كان المن والأذى مبطلين للصدقة ، من حيث بين كل واحد منهما أنها لم تكن صدقة ، وذكر النقاش أنه قيل إن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وقيل في علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقال مكي في عثمان وابن عوف( {[2578]} ) رضي الله عنهما : والمن ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها ، والأذى : السب والتشكي ، وهو أعم من المنّ ، لأنّ المن جزء من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وقوعه ، وذهب ابن زيد إلى أن هذه الآية هي في الذين لا يخرجون في الجهاد ، بل ينفقون وهم قعود ، وأن الأولى التي قبلها هي في الذين يخرجون بأنفسهم وأموالهم . قال : ولذلك شرط على هؤلاء ولم يشترط على الأولين .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وفي هذا القول نظر ، لأن التحكم فيه باد( {[2579]} ) ، وقال زيد بن أسلم : لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه تريد وجه الله فلا تسلم عليه ، وقالت له امرأة : يا أبا أسامة دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقاً ، فإنهم إنما يخرجون ليأكلوا الفواكه ، فإن عندي أسهماً وجعبة( {[2580]} ) ، فقال لها لا بارك الله في أسهمك وجعبتك ، فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم . وضمن الله الأجر للمنفق في سبيل الله ، والأجر الجنة ، ونفى عنه الخوف بعد موته لما يستقبل والحزن على ما سلف من دنياه ، لأنه يغتبط بآخرته .