التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَيَسۡتَبۡشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمۡ يَلۡحَقُواْ بِهِم مِّنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (170)

ثم بين - سبحانه - ما هم فيه من مسرة وحبور فقال : { فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } أى فرحين فرحا عظيما بعد انتقالهم من الدنيا ، بما أعطاهم الله في حياتهم الجديدة من ضروب النعم المتعددة التى من بينها الثواب العظيم ، والنعيم الدائم ، والسعادة التى ليس بعدها سعادة .

وقوله { فَرِحِينَ } يصح أن يكون حالا من الضمير فى { يُرْزَقُونَ } أو من الضمير فى " أحياء " وقوله { مِن فَضْلِهِ } متعلق بأتاهم .

و { مِن } يصح أن تكون للسببية أى الذى آتاهم متسبب عن فضله . أو لابتداء الغاية وقوله { وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ } معطوف على فرحين لتأويله بيفرحون . أو هو حال من الضمير فى { فَرِحِينَ } بتقدير وهم يستبشرون .

وأصل الاستبشار : طلب البشارة وهو الخبر السار الذى تظهر آثاره على البشرة إلا أن المراد هنا السرور استعمالا للفظ فى لازم معناه .

أى : أن هؤلاء الشهداء فرحين بما آتاهم الله من فضله من شرف الشهادة ، ومن الفوز برضا الله ، ويسرون بما تبين لهم من حسن مآل إخوانهم الذين تركوهم من خلفهم على قيد الحياة ، لأن الأحياء عندما يموتون شهداء مثلهم سينالون رضا الله وكرامته ، وسيظفرون بتلك الحياة الأبدية الكريمة كما ظفروا هم بها . فالمراد لم يلحقوا بهم من خلفهم : رفقاؤهم الذين كانوا يجاهدون معهم فى الدنيا ولم يظفروا بالشهادة بعد ، لأنهم ما زالوا على قيد الحياة .

وفى هذا دلالة على أن أرواح هؤلاء الشهداء قد منحها الله - تعالى - من الكشف والصفاء ما جعلها تطلع على ما يسرها من أحوال الذين يهمهم شأنهم فى الدنيا .

وقيل : إن معنى { لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم } لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم .

وقوله { مِّنْ خَلْفِهِمْ } متعلق بمحذوف حال من فاعل { يَلْحَقُواْ } أى لم يلحقوهم متخلفين عنهم باقين بعد فى الدنيا . أو متعلق بقوله { يَلْحَقُواْ } ذاته على معنى أنهم قد يقوا بعدهم وهؤلاء الشهداء قد تقدموهم .

وقوله { أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } بدل اشتمال من قوله { الذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم } مبين لكون استبشارهم بحال إخوانهم لا بذواتهم .

والمعنى : ويستبشرون بما تبين لهم من حال الذين تركوهم من خلفهم فى الدنيا من رفقائهم المجاهدين ، وهو أنهم لا خوف عليهم فى المستقبل ولا هم يحزنون على ما تركوه فى الدنيا ، بل هم سيكونون آمنين مطمئنين بعد فراقهم للدنيا وعندما يبعثون يوم القيامة .

ونفى عنهم الخوف والحزن ، لأن الخوف يكون بسبب توقع المكروه النازل فى المستقبل .

والحزن يكون بسبب فوات المنافع إلتى كانت موجودة فى الماضى . فبين - سبحانه - أنه لا خوف عليهم فيما سيأتيهم من أحوال القيامة ، ولا حزن لهم فيما فاتهم من متاع الدنيا .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَيَسۡتَبۡشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمۡ يَلۡحَقُواْ بِهِم مِّنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (170)

وقوله : { فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ [ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ] {[6172]} } أي : الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله أحياء عند الله ، وهم فَرحون{[6173]} مما هم فيه من النعمة والغبطة ، ومستبشرون{[6174]} بإخوانهم الذين يقتلون بعدهم في سبيل الله أنهم يقدَمون عليهم ، وأنهم لا يخافون مما أمامهم ولا يحزنون على ما تركوه وراءهم .

قال محمد بن إسحاق { وَيَسْتَبْشِرُونَ } أي : ويُسَرون بلحوق من خَلْفهم{[6175]} من إخوانهم على ما مَضَوْا عليه من جهادهم ؛ ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم .

[ و ]{[6176]} قال السدي : يُؤتى الشهيد بكتاب فيه : " يَقْدَمُ عَلَيْكَ فُلانٌ يَوْمَ كَذَا وكَذَا ، ويَقْدَمُ عَلَيْكَ فُلانٌ يَوْمَ كَذَا وكَذَا ، فَيُسَرُّ بِذَلِكَ كَمَا يُسَرُّ أَهْلُ الدُّنْيَا بِقُدُومِ غُيَّابِهِمْ " {[6177]} .

وقال سعيد بن جبير : لَمّا دخلوا الجنة ورَأوْا ما فيها من الكرامة للشهداء قالوا : يا ليت إخواننا الذين في الدنيا يعلمون ما عرفناه من الكرامة ، فإذا شهدوا للقتال{[6178]} باشروها بأنفسهم ، حتى ويُستشهدوا فيصيبوا ما أصبنا من الخير ، فأُخبِر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأمرهم وما هم فيه من الكرامة ، وأخبرهم - أي ربهم - [ أني ]{[6179]} قد أنزلت على نبيكم وأخبرته بأمركم ، وما أنتم فيه ، فاستَبْشروا بذلك ، فذلك قوله : { وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ } الآية .

وقد ثبت في الصحيحين عن أنس ، رضي الله عنه ، في قصة أصحاب بئر مَعُونة السبعين من الأنصار ، الذين قتلوا في غداة واحدة ، وقَنَت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوهم ، يدعو عليهم ويَلْعَنهم ، قال أنس : ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رفع : " أنْ بَلغُوا عَنّا قَوْمَنا أنّا لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنّا وأرْضَانا " {[6180]} .


[6172]:زيادة في جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "إلى آخر الآية".
[6173]:في أ: "فرحين" وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه.
[6174]:في جـ، ر، أ: "ويستبشرون".
[6175]:في جـ، ر، أ، و: "لحقهم".
[6176]:زيادة من جـ، ر، أ، و.
[6177]:في جـ، ر، أ، و: "غايبهم".
[6178]:في أ، و: "القتال".
[6179]:زيادة من جـ، ر.
[6180]:صحيح البخاري برقم (2801، 4095) وصحيح مسلم برقم (677).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَيَسۡتَبۡشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمۡ يَلۡحَقُواْ بِهِم مِّنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (170)

{ يستبشرون } معناه : يسرون ويفرحون ، وليست استفعل في هذا الموضع بمعنى طلب البشارة ، بل هي بمعنى ا ستغنى الله واستمجد المرخ والعفار{[3713]} ، وذهب قتادة والربيع وابن جريج وغيرهم : إلى أن هذا الاستبشار إنما هو بأنهم يقولون : إخواننا الذين تركناهم خلفنا في الدنيا يقاتلون في سبيل الله مع نبيهم فيستشهدون فينالون من الكرامة مثل ما نحن فيه فيسرون لهم بذلك ، إذ يحصلون{[3714]} لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وذهب فريق من العلماء وأشار إليه الزجّاج وابن فورك : إلى أن الإشارة في قوله : { بالذين لم يلحقوا } إلى جميع المؤمنين ، أي لم يلحقوا بهم في فضل الشهادة لكن الشهداء لما عاينوا ثواب الله ، وقع اليقين بأن دين الإسلام هو الحق الذي يثيب الله عليه ، فهم فرحون لأنفسهم بما آتاهم الله من فضله ، { ويستبشرون } للمؤمنين بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون « ، و { ألا } مفعول من أجله ، التقدير ، بأن لا خوف ، ويجوز أن يكون في موضع خفض بدل اشتمال .


[3713]:- في بعض النسخ استحمد، والصواب ما أثبتناه. وفي "مجمع الأمثال" للميداني (2/47): في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار. أي استكثر وأخذا من النار ما حسبهما- واستمجد: استفضل، وقيل: معناه: اقتدح. والمرخ: شجر كثير الورق سريعه. والعفار: شجر يتخذ منه الزناد.
[3714]:- في اللسان في مادة: حصل. "أحصل القوم إذا أحصل نخلهم، أي: استبان البسر وتدحرج. وعلى ذلك يكون في هذه الكلمة مجاز، والمراد: إذ يثمر جهادهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والله أعلم.