التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَذَكِّرۡ فَمَآ أَنتَ بِنِعۡمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٖ وَلَا مَجۡنُونٍ} (29)

ثم عادت السورة الكريمة مرة أخرى إلى الحديث عن الكافرين ، فأمرت النبى - صلى الله عليه وسلم - أن يمضى فى طريقه دون أن يهتم بأكاذيبهم ، وحكت جانبا من هذه الأكاذيب التى قالوها فى حقه - صلى الله عليه وسلم - ولقتنه الجواب المزهق لها . . . فقال - تعالى - : { فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ . . . } .

الفاء فى قوله - سبحانه - : { فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ } للإفصاح . والكاهن : هو الإنسان الذى يزعم أنه يخبر عن الأشياء المغيبة ، والمجنون : هو الإنسان الذى سلب عقله ، فصار لا يعى ما يقول .

أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا لك قبل ذلك - أيها الرسول الكريم - فاثبت على ما أنت عليه من التذكير بما أوحينا إليك . . فما أنت بسبب إنعام الله عليك بكاهن ولا مجنون كما يزعم أولئك الكافرون .

قال الجمل : والباء فى قوله { بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } للسببية ، وهى متعلقة بالنفى الذى أفادته " ما " أى : انتفى كونك كاهنا أو مجنونا ، بسبب إنعام الله عليك بالعقل الراجح ، وعلو الهمة ، وكرم الفعال ، وطهارة الأخلاق ، وهم معترفون بذلك لك قبل النبوة .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَذَكِّرۡ فَمَآ أَنتَ بِنِعۡمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٖ وَلَا مَجۡنُونٍ} (29)

يقول{[27515]} تعالى آمرا رسوله ، صلوات الله وسلامه عليه ، بأن يبلغ رسالته إلى عباده ، وأن يذكرهم بما أنزل الله عليه . ثم نفى عنه ما يرميه به أهل البهتان والفجور فقال : { فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ } أي : لست بحمد الله بكاهن كما تقوله {[27516]} الجهلة من كفار قريش . والكاهن : الذي يأتيه الرئي من الجان بالكلمة يتلقاها من خبر السماء ، { وَلا مَجْنُونٍ } : وهو الذي يتخبطه الشيطان من المس .


[27515]:- (1) في م: "قال".
[27516]:- (2) في م: "يقوله".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَذَكِّرۡ فَمَآ أَنتَ بِنِعۡمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٖ وَلَا مَجۡنُونٍ} (29)

{ فذكر } فاثبت على التذكير ولا تكترث بقولهم . { فما أنت بنعمة ربك } بحمد الله وإنعامه . { بكاهن ولا مجنون } كما يقولون .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَذَكِّرۡ فَمَآ أَنتَ بِنِعۡمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٖ وَلَا مَجۡنُونٍ} (29)

تفريع على ما تقدم كله من قوله : { إن عذاب ربك لواقع } [ الطور : 7 ] لأنه تضمن تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن تكذيب المكذبين والافتراء عليه ، وعقب بهذا لأن من الناس مؤمنين به متيقنين أن الله أرسله مع ما أعد لكلا الفريقين فكان ما تضمنه ذلك يقتضي أن في استمرار التذكير حكمة أرادها الله ، وهي ارعواء بعض المكذبين عن تكذيبهم وازدياد المصدقين توغلاً في إيمانهم ، ففرع على ذلك أن أمر الله رسول صلى الله عليه وسلم بالدوام على التذكير .

فالأمر مستعمل في طلب الدوام مثل { يا أيها الذين آمنوا آمنوا باللَّه ورسوله } [ النساء : 136 ] . ولما كان أثر التذكير أَهمَّ بالنسبة إلى فريق المكذبين ليهتدي من شرح قلبه للإِيمان رُوعي ما يَزيد النبي صلى الله عليه وسلم ثباتاً على التذكير من تبرئته مما يواجهونه من قولهم له : هو كاهن أو هو مجنون ، فربط الله جَأش رسوله صلى الله عليه وسلم وأعلمه بأن براءته من ذلك نعمة أنعم بها عليه ربه تعالى ففرع هذا الخبر على الأمر بالتذكير بقوله : { فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون } . والباء في { بنعمت ربك } للملابسة وهي في موضع الحال من ضمير { أنت } .

ونفي هاذين الوصفين عنه في خطاب أمثاله ممن يستحق الوصف بصفات الكمال يدل على أن المراد من النفي غرض آخر وهو هنا إبطال نسبة من نسبه إلى ذلك كما في قوله تعالى : { وما صاحبكم بمجنون } [ التكوير : 22 ] ، ولذلك حسن تعقيبه بقوله : { أم يقولون شاعر } [ الطور : 30 ] مصرحاً فيه ببعض أقوالهم ، فعلم أن المنفي عنه فيما قبله مقالة من مقالهم .

وقد اشتملت هاته الكلمة الطيبة على خصائص تناسب تعظيم من وجهت إليه وهي أنها صيغت في نظم الجملة الاسمية فقيل فيها « ما أنت بكاهن » دون : فلست بكاهن ، لتدل على ثبات مضمون هذا الخبر .

وقدم فيها المسند إليه مع أن مقتضى الظاهر أن يقدم المسند وهو { كاهن } أو { مجنون } لأن المقام يقتضي الاهتمام بالمسند ولكن الاهتمام بالضمير المسند إليه كان أرجح هنا لما فيه من استحضار معاده المشعر بأنه شيء عظيم وأفاد مع ذلك أن المقصود أنه متصف بالخبر لا نفس الإِخبار عنه بالخبر كقولنا : الرسول يأكل الطعام ويتزوج النساء . وأفاد أيضاً قصراً إضافياً بقرينة المقام لقلب ما يقولونه أو يعتقدونه من قولهم : هو كاهن أو مجنون ، على طريقة قوله تعالى : { وما أنت علينا بعزيز } [ هود : 91 ] .

وقرن الخبر المنفي بالباء الزائدة لتحقيق النفي فحصل في الكلام تقويتان ، وجيء بالحال قبل الخبر ، أو بالجملة المعترضة بين المبتدأ والخبر ، لتعجيل المسرة وإظهار أن الله أنعم عليه بالبراءة من هذين الوصفين .

وعدل عن استحضار الجلالة بالاسم العلم إلى تعريفه بالإِضافة وبوصفه الرب لإِفادة لطفه تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم لأنه ربه فهو يربُّه ويدبر نفعه ، ولتفيد الإضافة تشريف المضاف إليه .

وقوله تعالى : { فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون } ردّ على مقالة شَيبة بن ربيعة قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم هو كاهن ، وعلى عقبة بن أبي معيط إذ قال : هو مجنون ، ويدل لكونه رداً على مقالة سبقت أنه أتبعه بقوله : { أم يقولون شاعر } [ الطور : 30 ] ما سيكون وما خفي مما هو كائن .

والكاهن : الذي ينتحل معرفة ما سيحدث من الأمور وما خفي مما هو كائن ويخبر به بكلام ذي أسْجاع قصيرة . وكان أصل الكلمة موضوعة لهذا المعنى غير مشتقة ، ونظيرها في العبرية ( الكوهين ) وهو حافظ الشريعة والمفتي بها ، وهو من بني ( لاوي ) ، وتقدم ذكر الكهانة عند قوله تعالى : { وما تنزلت به الشياطين } في سورة الشعراء ( 210 ) .

وقد اكتُفي في إبطال كونه كاهناً أو مجنوناً بمجرد النفي دون استدلال عليه ، لأن مجرد التأمل في حال النبي صلى الله عليه وسلم كاففٍ في تحقق انتفاء ذينك الوصفين عنه فلا يحتاج في إبطال اتصافه بهما إلى أكثر من الإِخبار بنفيهما لأن دليله المشاهدة .