وبعد أن أبطل القرآن الكريم محاجة أهل الكتاب في دين الله بغير حق وأنكر عليهم ذلك ، عقبه بإبطال دعواهم أن أسلافهم من الأنبياء كانوا هوداً أو نصارى فقال تعالى : { أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } .
وقوله تعالى : { أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ } حرف " أم " فيه معادل للهمزة في قوله تعالى في الآية السابقة
{ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ } على أحد الوجوه بمعنى أي الأمرين تأتون ؟ المحاجة في حكمة الله أم ادعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء المذكورين في هذه الآية والمراد من الاستفهام عنهما إنكارهما معاً ، إنكار حجاجهم في دين الله ، وإنكار قولهم إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى .
فكأنه - سبحانه - يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهم : لا تجادلوننا في دين الله بغير حق ، ولا تقولوا إن الأنبياء كانوا على دينكم ، فإن مجادلتكم وأقوالكم من قبيل المزاعم الباطلة التي لا سند لها من عقل أو نقل .
وقوله تعالى : { قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله } معناه قل لهم يا محمد إن زعموا أن الأنبياء المذكورين في الآية كانوا هودا أو نصارى : إن ما زعمتوه من أن إبراهيم واسماعيل وإسحاق ويعقوب كانوا هودا أو نصارى هو على خلاف ما يعلمه الله ، لأنه - سبحانه - قد أخبرنا بأنهم كانوا مسلمين مبرئين عن اليهودية والنصرانية ، وأن يعقوب - عليه السلام - عندما حضرته الوفاة أوصى بنيه بأن يموتوا على الإِسلام ، وأن التوراة والانجيل ما أنزلا إلا من بعد أولئك الأنبياء جميعا ، هكذا أخبرنا الله فهل أنتم أعلم بديانتهم أم الله ولا شك أنهم لن يستطيعوا أن يقولوا نحن أعلم ، وإنما سيقولون الله أعلم ، فإذا لزمهم هذا القول : قلنا لهم إذا فدعواكم لا أساس لها من الصحة وبذلك تكون الجملة الكريمة قد قطعت حجتهم بأجمع بيان وأحكمه .
وقوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله } معناه لا أحد أشد ظلماً ممن يكتم شهادة ثبتت عنده عن الله ، تخبر بأن هؤلاء الأنبياء كانوا على الإِسلام ولم يكونوا هوداً أو نصارى .
قال فضيلة أستاذنا السيد محمد الخضر حسين - رحمه الله - ما ملخصه : ولما أنزل قوله تعالى : { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث . . . } إلى آخر الآية الكريمة ، كان من أهل الكتاب من آمن به وأخبر بما في كتبهم من ذكره بصفته وعلاماته ، وكان منهم من لا ينكر أن يكون قد ذكر في الكتابين . ولكنه يكابر ويقول : المقصود نبي لم يأت بعد وقد تصدى لجمع هذه البشائر من كتابي التوراة والإِنجيل طائفة من أهل البحث والعلم في القديم والحديث ، وبينوا وجه انطباقها على حال النبي صلى الله عليه وسلم بحيث لا تأخذ الناظر الطالب للحق ريبة في أنه الرسول الذي بشرت الأنبياء بمبعثه وعموم رسالته ، ومن هذه البشائر ما جاء في سفر التثنية من التوراة ( أقيم لهم من وسط إخواتهم مثلك ، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به ) .
والنبي المماثل لموسى - عليه السلام - في الرسالة والشريعة المستأنفة هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم وإخوة بني إسرائيل هم العرب ، لأنهما يجتمعان في إبراهيم - عليه السلام - وقوله : " وأجعل كلامي في فمه ، يوافق حال النبي صلى الله عليه وسلم من الأمية وعدم تعاطي الكتابة " .
ثم ختمت الآية بالوعيد الشديد لهم على مزاعمهم الباطلة ، فقال تعالى : { وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } .
الغفلة : السهو والنسيان ، والمراد أنه - سبحانه - محيط بأعمال هؤلاء الذين كتموا الحق ، لا تخفى عليه منها خافية وسيحاسبهم عليها حسابا عسيراً ، ويعاقبهم على مزاعمهم الباطلة عقاباً أليماً ، فالجملة الكريمة تهديد ووعيد لأهل الكتاب .
ثم أنكر تعالى عليهم ، في دعواهم أن إبراهيم ومن ذكر بعده من الأنبياء والأسباط كانوا على ملتهم ، إما اليهودية وإما النصرانية {[2861]} فقال : { قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ } يعني : بل الله أعلم ، وقد أخبر أنهم لم يكونوا هودا ولا نصارى ، كما قال تعالى : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } الآية والتي بعدها [ آل عمران : 67 ، 68 ] .
وقوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ } قال الحسن البصري : كانوا يقرؤون في كتاب الله الذي أتاهم : إن الدين [ عند الله ]{[2862]} الإسلامُ ، وإن محمدا رسول الله ، وإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا برآء من اليهودية والنصرانية ، فشهِد الله بذلك ، وأقروا به على أنفسهم لله ، فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك .
وقوله : { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ فيه ]{[2863]} تهديد ووعيد شديد ، أي : [ أن ]{[2864]} علمه محيط بعملكم ، وسيجزيكم عليه .
{ أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى } أم منقطعة والهمزة للإنكار . وعلى قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص بالتاء يحتمل أن تكون معادلة للهمزة في { أتحاجوننا } ، بمعنى أي الأمرين تأتون المحاجة ، أو ادعاء اليهودية ، أو النصرانية على الأنبياء . { قل أأنتم أعلم أم الله } وقد نفي الأمرين عن إبراهيم بقوله : { ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا } واحتج عليه بقوله : { وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده } . وهؤلاء المعطوفون عليه أتباعه في الدين وفاقا . { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } يعني شهادة الله لإبراهيم بالحنيفية والبراءة عن اليهودية والنصرانية ، والمعنى لا أحد أظلم من أهل الكتاب ، لأنهم كتموا هذه الشهادة . أو منا لو كتمنا هذه الشهادة ، وفيه تعريض بكتمانهم شهادة الله لمحمد عليه الصلاة والسلام بالنبوة في كتبهم وغيرها ، ومن للابتداء كما في قوله تعالى : { براءة من الله ورسوله } . { وما الله بغافل عما تعملون } وعيد لهم وقرئ بالياء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.