ثم بين - سبحانه - الأسباب التي صرفتهم عن الحق فقال : { ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } .
واسم الإشارة { ذلك } يعود إلى المذكور من توليهم وإعراضهم عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وعن سماعهم للحق الذى جاء به .
والمس : اتصال أحد الشيئين بالآخر على وجه الإحساس والإصابة ، والمراد من النار : نار الآخرة .
والمراد من المعدودات : المحصورات القليلات يقال شيء معدود : أى قليل وشيء غير معدود أى كثير .
فهم يزعمون أن النار لن تمسهم إلا مدة يسيرة قد تكون سبعة أيام ، وقد تكون أربعين يوما ، وبعدها يخرجون إلى الجنة .
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : إن اليهود كانوا يقولون إن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة ، وإنما نعذب بكل ألف سنة يوما في النار ، وإنما هي سبعة آيام . وفي رواية عنه أنه قال في قوله - تعالى - { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } ذلك أعداء الله اليهود ، قالوا : لن يدخلنا الله النار إلى تحلة القسم ، الأيام التي أصبنا فيها العجل أربعين يوما ، فإذا انقضت عنا تلك الأيام انقطع عنا العذاب والقسم .
أى ذلك التولى والإعراض عن الحق الذى صدر عن كثير من أحبار اليهود وعوامهم سببه أنهم سهلوا على أنفسهم أمر العقاب ، وتوهموا أنهم لن يعذبواعذابا طويلا ، بل النار ستمسهم أياما قليلة ثم بعد ذلك يخرجون منها ، لأنهم أبناء الله واحباؤه ، ولأن آباءهم سيشفعون لهم في زعمهم .
ثم قال - تعالى - { وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } .
وقوله { وَغَرَّهُمْ } من الغرور وهو كل ما يغر الإنسان ويخدعه من مال أو جاه أو شهوة أو غير ذلك من الأشياء التي تغر الإنسان وتخدعه وتجعله غافلا عن اتباع الحق .
والمعنى : أنهم سهلوا على أنفسهم الخطوب ، ولم يبالوا بالمعاصي والذنوب ، وأنهم طمعوا في غير مطمع ، وأصاب موضع المغرة والغفلة منهم في دينهم كا كانوا يفترونه من أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات . والغرور أكبر شىء يبعد الإنسان عن حسن الاستعداد لما يجب عليه نحو دينه ودنياه .
ثم قال : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ } أي : إنما حملهم وجَرّأهم على مخالفة الحق افتراؤهم على الله فيما ادعوه لأنفسهم أنهم إنما يعذبون في النار سبعة أيام ، عن كل ألف سنة في الدنيا يوما . وقد تقدم تفسير ذلك في سورة البقرة . ثم قال : { وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [ أي غرهم في دينهم ]{[4923]} أي : ثَبَّتهم على دينهم الباطل ما خدعوا به أنفسهم من زعمهم أن النار لا تمسهم بذنوبهم إلا أياما معدودات ، وهم الذين افتروا هذا من تلقاء أنفسهم وافتعلوه ، ولم ينزل الله به سلطانا .
{ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مّعْدُودَاتٍ وَغَرّهُمْ فِي دِينِهِمْ مّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }
يعني جل ثناؤه بقوله : { بأنّهُمْ قالُوا } بأن هؤلاء الذين دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم بالحقّ فيما نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما أبوا الإجابة في حكم التوراة ، وما فيها من الحقّ من أجل قولهم : { لَنْ تَمَسّنا النّارُ إلاّ أيّاما مَعْدُودَاتٍ } وهي أربعون يوما ، وهنّ الأيام التي عبدوا فيها العجل ، ثم يخرجنا منها ربنا . اغترارا منهم بما كانوا يفترون ، يعني بما كانوا يختلقون من الأكاذيب والأباطيل في ادّعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأن الله قد وعد أباهم يعقوب أن لا يدخل أحدا من ولده النار إلا تَحِلّة القسم . فأكذبهم الله على ذلك كله من أقوالهم ، وأخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أنهم هم أهل النار ، هم فيها خالدون ، دون المؤمنين بالله ورسله وما جاءوا به من عنده .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { ذَلِكَ بأنّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسّنا النّارُ إلاّ أيّاما مَعْدُودَاتٍ } قالوا : لن تمسنا النار إلا تحلة القسم التي نصبنا فيها العجل ، ثم ينقطع القسم والعذاب عنا . قال الله عزّ وجلّ : { وَغَرّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ } أي قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { ذَلِكَ بأنّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسّنَا النّارُ إلاّ أيّاما مَعْدُودَاتٍ } . . . الاَية ، قال : قالوا : لن نعذّب في النار إلا أربعين يوما . قال : يعني اليهود . قال : وقال قتادة مثله ، وقال : هي الأيام التي نصبوا فيها العجل . يقول الله عزّ وجلّ : { وَغَرّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ } حين قالوا : { نَحْنُ أبْناءُ اللّهِ وَأحِبّاؤُه } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد : قوله : { وَغَرّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ } قال : غرّهم قولهم : { لَنْ تَمَسّنا النّارُ إلاّ أيّاما مَعْدُودَاتٍ } .
قوله : { ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار } الإشارة إلى تولّيهم وإعراضهم ، والباء للسببية : أي إنّهم فعلوا ما فعلوا بسبب زعمهم أنّهم في أمان من العذاب إلاّ أياماً قليلة ، فانعدَم اكتراثهم باتّباع الحق ؛ لأنّ اعتقادهم النجاة من عذاب الله على كل حالٍ جَرّأهم على ارتكاب مثل هذا الإعراض . وهذا الاعتقاد مع بطلانه مؤذن أيضاً بسفالة همّتهم الدينية ، فكانوا لا ينافسون في تزكية الأنفس . وعبر عن الاعتقاد بالقول دلالة على أنّ هذا الاعتقاد لا دليل عليه وأنّه قول مفتري مدلّس ، وهذه العقيدة عقيدة اليهود ، كما تقدم في البقرة .
وقوله : { وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون } أي ما تقوّلوه على الدِّين وأدخلوه فيه ، فلذلك أتي بفي الدالة على الظرفية المجازية . ومن جملة ما كانوا يفترونه قولهم : { لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة } [ البقرة : 80 ] ، وكانوا أيضاً يزعمون أنّ الله وعد يعقوب ألاّ يعذّب أبناءه .
وقد أخبر الله تعالى عن مفاسد هذا الغرور والافتراء بإيقاعها في الضلال الدائم ، لأنّ المخالفة إذا لم تكن عن غرور فالإقلاع عنها مرجوٌ ، أما المغرور فلا يترقّب منه إقلاع . وقد ابتلي المسلمون بغرور كثير في تفاريع دينهم وافتراءات من الموضوعات عادت على مقاصد الدين وقواعد الشريعة بالإبطال ، وتفصيل ذلك في غير هذا المجال .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.