ثم تذكر السورة الكريمة حالة رابعة من أهوال يوم القيامة ، هى حالة العرض بعد حالة الجمع فتقول : { وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً } .
أى : وأحضروا جميعا إلى ربك مصفوفين فى صف واحد أو فى صفوف متعددة ، ليقضى فيهم - سبحانه - بقضائه العادل .
قال الآلوسى : أخرج ابن منده فى التوحيد عن معاذ بن جبل ، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله - تعالى - ينادى يوم القيامة ، يا عبادى : أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين . وأحكم الحاكمين ، وأسرع الحاسبين . أحضروا حجتكم ويسروا جوابكم . فإنكم مسئولون محاسبون . يا ملائكتى أقيموا عبادى صفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب " .
وفى الحديث الصحيح : " يجمع الله - تعالى - الأولين والآخرين فى صعيد واحد صفوفا يسمعهم الداعى وينفذهم البصر . . " .
وقوله - سبحانه - : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ . . } مقول لقول محذوف ، وجملة { كما خلقناكم } نعت لمصدر محذوف .
والمعنى : ونقول لمنكرى البعث والحساب بعد عرضهم علينا على سبيل التوبيخ والتأنيب : لقد جئتمونا - أيها المكذبون - مجيئا كائنا كمجيئكم عند خلقنا إياكم أول مرة . أى حفاة عراة لا مال معكم ولا ولد .
وعبر - سبحانه - بالماضى فى قوله : { لقد جئتمونا . . } لتحقق الوقوع وتنزيله منزلة الواقع بالفعل .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } ثم ختم - سبحانه - الآية بالانتقال من توبيخهم هذا إلى توبيخ أشد وأقسى فقال : { بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً } .
أى : بل زعمتم أيها المكذبون بالبعث - أن لن نجعل لكم زمانا أو مكانا نجازيكم فيه على أعمالكم ، وأنكرتم إنكاراً مصحوبا بقسم أننا لا نبعث من يموت .
قال - تعالى - : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ بلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ }
وقوله : { وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا } يحتمل أن يكون المراد : أن جميع الخلائق يقومون بين يدي الله صفًا واحدًا ، كما قال تعالى : { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } [ النبأ : 38 ] ويحتمل أنهم يقومون{[18235]} صفوفًا صفوفا ، كما قال : { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } [ الفجر : 22 ]
وقوله : { لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } هذا تقريع للمنكرين للمعاد ، وتوبيخ لهم على رءوس الأشهاد ؛ ولهذا قال مخاطبا لهم : { بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا } أي : ما كان ظنكم أن هذا واقع بكم ، ولا أن هذا كائن .
وقوله : وَعُرِضُوا عَلى رَبّكَ صَفّا يقول عزّ ذكره : وعُرض الخلق على ربك يا محمد صفا لَقَدْ جِئْتُمُونا كمَا خَلَقْناكُمْ أوّلَ مَرّةٍ يقول عزّ ذكره : يقال لهم إذ عُرضوا على الله : لقد جئتمونا أيها الناس أحياء كهيئتكهم حين خلقناكم أوّل مرّة وحذف يقال من الكلام لمعرفة السامعين بأنه مراد في الكلام .
وقوله : بَلْ زَعَمْتُمْ ألّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدا وهذا الكلام خرج مخرج الخبر عن خطاب الله به الجميع ، والمراد منه الخصوص ، وذلك أنه قد يرد القيامة خلق من الأنبياء والرسل ، والمؤمنين بالله ورسله وبالبعث . ومعلوم أنه لا يُقال يومئذٍ لمن وردها من أهل التصديق بوعد الله في الدنيا ، وأهل اليقين فيها بقيام الساعة ، بل زعمتم أن لن نجعل لكم البعث بعد الممات ، والحشر إلى القيامة موعدا ، وأن ذلك إنما يقال لمن كان في الدنيا مكذّبا بالبعث وقيام الساعة .
{ وعُرضوا على ربك } شبه حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان لا ليعرفهم بل ليأمر فيهم . { صفا } مصطفين لا يحجب أحد أحداً . { لقد جئتمونا } على إضمار القول على وجه يكون حالا أو عاملا في يوم نسير . { كما خلقناكم أول مرة } عراة لا شيء معكم من المال والولد كقوله { ولقد جئتمونا فرادى } أو أحياء كخلقتكم الأولى لقوله : { بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا } وقتا لإنجاز الوعد بالبعث والنشور وأن الأنبياء كذبوكم به ، وبل للخروج من قصة إلى أخرى .
وقوله { صفاً } إفراد نزل منزلة الجمع ، أي صفوفاً ، وفي الحديث الصحيح يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفاً يسمعهم الداعي وينفدهم البصر ، الحديث{[7819]} بطوله ، وفي حديث آخر «أهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون صفاً ، أنتم منها ثمانون صفاً »{[7820]} ، وقوله تعالى : { لقد جئتمونا } إلى آخر الآية مقاولة للكفار المنكرين{[7821]} للبعث ، ومضمنها التقريع والتوبيخ ، والمؤمنون المعتقدون في الدنيا أنهم يبعثون يوم القيامة ، لا تكون لهم هذه المخاطبة بوجه وفي الكلام حذف ويقتضيه القول ويحسنه الإيجاز تقديره : يقال للكفرة منهم ، { كما خلقناكم أول مرة } يفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلاً { كما بدأنا أول خلق نعيده }{[7822]} [ الأنبياء : 104 ] .
عَرض الشيء : إحضاره ليُرى حاله وما يحتاجه . ومنه عرض الجيش على الأمير ليرى حالهم وعدتهم . وفي الحديث « عُرضت عليّ لأمم » وهو هنا مستعار لإحضارهم حيث يعلمون أنهم سيتلقون ما يأمر الله به في شأنهم .
والصف : جماعة يقفون واحداً حذو واحد بحيث يبدو جميعهم لا يحجب أحد منهم أحداً . وأصله مصدر ( صفهم ) إذا أوقفهم ، أطلق على المصفوف . وانتصب { صفاً } على الحال من واو { عُرضوا } . وتلك الحالة إيذان بأنهم أحضروا بحالة الجناة الذين لا يخفى منهم أحد إيقاعاً للرعب في قولبهم .
وجملة { وعرضوا على ربك } معطوفة على جملة { وحشرناهم } ، فهي في موضع الحال من الضمير المنصوب في { حشرناهم } ، أي حشرناهم وقد عرضوا تنبيهاً على سرعة عرضهم في حين حشرهم .
وعدل عن الإضمار إلى التعريف بالإضافة في قوله : { على ربك } دون أن يقال ( علينا ) لتضمن الإضافة تنويهاً بشأن المضاف إليه بأن في هذا العرض وما فيه من التهديد نصيباً من الانتصار للمخاطب إذ كذبوه حين أخبرهم وأنذرهم بالبعث .
وجملة { لقد جئتمونا } مقولٌ لقول محذوف دل عليه أن الجملة خطاب للمعروضين فتعين تقدير القول ، وهذه الجملة في محل الحال . والتقدير : قائلين لهم لقد جئتمونا . وذلك بإسماعهم هذا الكلام من جانب الله تعالى وهم يعلمون أنه من جانب الله تعالى . والخطاب في قوله : { لقد جئتمونا } موجه إلى معاد ضمير { عُرضوا } .
والخبر في قوله : { لقد جئتمونا } مستعمل في التهديد والتغليظ والتنديم على إنكارهم البعث . والمجيء : مجاز في الحضور ، شبهوا حين موتهم بالغائبين وشبهت حياتهم بعد الموت بمجيء الغائب .
وقوله : { كما خلقناكم أول مرة } واقع موقع المفعول المطلق المفيد للمشابهة ، أي جئتمونا مجيئاً كخلقكم أول مرة . فالخلق الثاني أشبه الخلق الأول ، أي فهذا خلق ثانٍ . و ( ما ) مصدرية ، أي كخلقنا إياكم المرة الأولى ، قال تعالى : { أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد } [ ق : 15 ] . والمقصود التعريض بخطئهم في إنكارهم البعث .
والإضراب في قوله : { بل زعمتم ألن نجعل لكم موعداً } انتقال من التهديد وما معه من التعريض بالتغليط إلى التصريح بالتغليط في قالب الإنكار ؛ فالخبر مستعمل في التغليط مجازاً وليس مستعملاً في إفادة مدلوله الأصلي .
والزعم : الاعتقاد المخطىء ، أو الخبر المعرَّض للكذب . والموعد أصله : وقت الوعد بشيء أو مكان الوعد . وهو هنا الزمن الموعود به الحياة بعد الموت .
والمعنى : أنكم اعتقدتم باطلاً أن لا يكون لكم موعد للبعث بعدا لموت أبداً .