ثم فصل - سبحانه - بديع صنعه فى خلق السموات فقال : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ . . . } أى : ففرغ من خلقهن وتسويتهن على أبدع صورة وأحكم صنع فى مقدار يومين .
والضمير فى قوله { فَقَضَاهُنَّ } إما راجع إلى السماء على المعنى لأنها سبع سموات ، وإما مبهم يفسره ما بعده وهو سبع سموات .
وقوله : { وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا } أى : وأوحى فى كل منها ما أراده وما أمر به ، وخلق فيها ما اقتضته حكمته من الملائكة ومن خلق لا يعلمه إلا هو - سبحانه - .
وقوله : { وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً } أى : وزينا السماء الدنيا أى القريبة منكم - بكواكب مضيئة ، وحفظناها عظيما من الاختلال والاضطراب والسقوط { ذلك } الذى ذكرناه لكم من خلق السموات والأرض ، وخلق ما فيهما .
{ تَقْدِيرُ العزيز العليم } أى : تقدير الله - القاهر - لكل شئ . والعليم بما ظهر وبما بطن فى هذا الكون .
وقد أخذ العلماء من هذه الآيات الكريمة أن خلق الأرض وما عليها من جبال ومن أقوات للعباد قد تم فى أربعة أيام ، وأن خلق السموات كان فى يومين فيكون مجموع الأيام التى خلق الله - تعالى - فيها السموات والأرض وما بينهما ستة أيام .
وقد جاء ذلك فى آيات متعددة ، منها قوله - تعالى - : { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } وقوله - سبحانه - { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ . . . } كما أخذ العلماء منها - أيضا - : أن خلق الأرض متقدم على خلق السموات بدليل قوله - تعالى - بعد حديثه عن خلق الأرض ، ثم استوى إلى السماء وهى دخان .
وبدليل قوله - تعالى - فى آية أخرى : { هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } وعلى هذا الرأى سار جمهور العلماء ، وردوا على من قال بأن خلق السموات متقدم على خلق الأرض ، لأن الله - تعالى يقول فى سورة النازعات : { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا . رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا . وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا . والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } أى : بسطها .
ردوا عليهم بما روى عن ابن عباس من أنه سئل عن الجمع بين الآيات التى معنا ، وبين آيات سورة النازعات فقال : إنه - تعالى - خلق الأرض أولا غير مدحورة ثم خلق السماء ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، وجعل فيها الرواسى والأنهار وغيرهما .
أى : أن أصل خلق الأرض كان قبل خلق السماء ، ودحوها بجبالها وأشجارها كان بعد خلق السماء ، وردوا عليهم - أيضا - بأن لفظ " بعد " فى قوله - تعالى - { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } بمعنى مع أى : والأرض مع ذلك بسطها ومهدها لسكنى أهلها فيها .
وردوا عليهم - أيضا - بأنه - تعاىل - لما خلق الأرض غير مدحوة ، وهى أهل لكل ما فيها كان كل ما فيها كأنه قد خلق بالفعل لوجود أصله فيها .
قال بعض العلماء : والدليل من القرآن على أن وجود الأصل يمكن به إطلاق الخلق على الفرع ، - وإن لم يكن موجودا بالفعل - قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ . . . } فقوله : { خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُم } أى : بخلقنا وتصويرنا لأبيكم آدم الذى هو أصلكم .
كما أخذ منها العلماء أن وجود هذا الكون ، بتلك الصورة البديعة ، المتمثلة فى هذه الأرض وما أقلت . وفى هذه السموات وما أظلت . . من أكبر الأدلة التى تحمل العقلاء على إخلاص العبادة لله الواحد القهار .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فقضاهن سبع سماوات}: فخلق السماوات السبع {في يومين}...
{وأوحى}: وأمر {في كل سماء أمرها} الذي أراده.
{وزينا السماء الدنيا}: لأنها أدنى السماوات من الأرض، {بمصابيح} يعني الكواكب.
{وحفظا} بالكواكب، يعني ما يرمي الشياطين بالشهاب؛ لئلا يستمعوا إلى السماء.
{ذلك} الذي ذكر من صنعه في هذه الآية، {تقدير العزيز} في ملكه، {العليم} بخلقه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ففرغ من خلقهن سبع سموات في يومين...
وقوله:"وأوْحَى فِي كُلّ سَماءٍ أمْرَها" يقول: وألقى في كل سماء من السموات السبع ما أراد من الخلق...
وقوله: "وَزَيّنا السّماءَ الدّنْيا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظا "يقول تعالى ذكره: وزيّنا السماء الدنيا إليكم أيها الناس بالكواكب وهي المصابيح...
وقوله: "ذلكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ" يقول تعالى ذكره: هذا الذي وصفت لكم من خلقي السماء والأرض وما فيهما، وتزييني السماء الدنيا بزينة الكواكب، على ما بينت تقدير العزيز في نقمته من أعدائه، العليم بسرائر عباده وعلانيتهم، وتدبيرهم على ما فيه صلاحهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... الأعجوبة في خلق السماوات ورفعها أعظم وأكبر من خلق الأرض، وقد ذكر في خلق السماوات من الوقت مثل وقت الذي ذكر في الأرض وهو يومان؛ ليُعلم أن الوقت الذي ذكر في ذلك؛ ليس لما يتعذّر عليه ذلك، ويصعب بدون ذلك الوقت، ولكن لحكمة جعلها في ذلك، لم يطلع الخلق على ذلك.
{وَحِفْظًا} يحتمل وجهين:.. الثاني: حفظناها على ما هي حتى لا تسقط على الخلق كقوله: {إن الله يُمسك السماوات والأرض أن تزولا} [فاطر: 41]
يحتمل قوله: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أي تقدير من له العز الذاتي والعلم الأزليّ لا أنه قدّر ذلك وصنع ليستفيد بذلك العزّ والعلم؛ إذ هو عزيز بذاته وعليم بذاته.
{فقضاهن سبع سموات في يومين} وقضاء الشيء إنما هو إتمامه والفراغ منه، والضمير في قوله: {فقضاهن} يجوز أن يرجع إلى السماء على المعنى كما قال: {طائعين}، ويجوز أن يكون ضميرا مبهما مفسرا بسبع سموات.
{وأوحي في كل سماء أمرها} أي وكان قد خص كل سماء بالأمر المضاف إليها كقوله {وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا} والمعنى فكان قد جاءها، هذا ما نقله الواحدي وهو عندي ضعيف لأن تقدير الكلام ثم كان قد استوى إلى السماء وكان قد أوحى، وهذا جمع بين الضدين لأن كلمة ثم تقتضي التأخير وكلمة كان تقتضي التقديم فالجمع بينهما تفيد التناقض، والمختار عند أي يقال خلق السموات مقدم على خلق الأرض، بقي أن يقال كيف تأويل هذه الآية؟
فنقول: الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد، والدليل عليه قوله {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال كن فيكون} فلو كان الخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين لكان تقدير الآية أوجده من تراب ثم قال له كن فيكون وهذا محال؛ لأنه يلزم أنه تعالى قد قال للشيء الذي وجد كن ثم إنه يكون وهذا محال، فثبت أن الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد، بل هو عبارة عن التقدير، والتقدير حق الله تعالى هو حكمه بأنه سيوجده وقضاؤه بذلك، وإذا ثبت هذا فنقول قوله: {خلق الأرض في يومين} معناه أنه قضى بحدوثه في يومين، وقضاء الله بأنه سيحدث كذا في مدة كذا، لا يقتضي حدوث ذلك الشيء في الحال، فقضاء الله تعالى بحدوث الأرض في يومين قد تقدم على إحداث السماء، ولا يلزم منه تقدم إحداث الأرض على إحداث السماء، وحينئذ يزول السؤال، فهذا ما وصلت إليه في هذا الموضع المشكل.
{فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين}.
واعلم أن ظاهر هذا الكلام يقتضي أن الله تعالى أمر السماء والأرض بالإتيان فأطاعا وامتثلا وعند هذا حصل في الآية قولان:
القول الأول: أن تجري هذه الآية على ظاهرها فنقول: إن الله تعالى أمرهما بالإتيان فأطاعاه قال القائلون بهذا القول وهذا غير مستبعد، ألا ترى أنه تعالى أمر الجبال أن تنطق مع داود عليه السلام فقال: {يا جبال أوبي معه والطير}، ويتأكد هذا الاحتمال بوجوه:
الأول: أن الأصل حمل اللفظ على ظاهره إلا إذا منع منه مانع، وهاهنا لا مانع، فوجب إجراؤه على ظاهره.
الثاني: أنه تعالى أخبر عنهما، فقال: {قالتا أتينا طائعين} وهذا الجمع جمع ما يعقل ويعلم.
الثالث: قوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها} وهذا يدل على كونها عارفة بالله، مخصوصة بتوجيه تكاليف الله عليها.
القول الثاني: {قال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها} ليس المراد منه توجيه الأمر والتكليف على السموات والأرض بل المراد منه أنه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه ووجدتا كما أرادهما، واعلم أن هذا عدول عن الظاهر، وإنما جاز العدول عن الظاهر إذ قام دليل على أنه لا يمكن إجراؤه على ظاهره وقد بينا أن قوله {ائتيا طوعا أو كرها} إنما حصل قبل وجودهما، وإذا كان الأمر كذلك امتنع حمل قوله {ائتيا طوعا أو كرها} على الأمر والتكليف، فوجب حمله على ما ذكرنا.
{وزينا السماء الدنيا بمصابيح} وهي النيرات التي خلقها في السموات، وخص كل واحد بضوء معين وسر معين وطبيعة معينة لا يعرفها إلا الله.
{ذلك تقدير العزيز العليم} والعزيز إشارة إلى كمال القدرة، والعليم إشارة إلى كمال العلم، وما أحسن هذه الخاتمة، لأن تلك الأعمال لا تمكن إلا بقدرة كاملة وعلم محيط.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(فقضاهن سبع سماوات في يومين).. (وأوحى في كل سماء أمرها)..
واليومان قد يكونان هما اللذان تكونت فيهما النجوم من السدم. أو تم فيهما التكوين كما يعلمه الله. والوحي بالأمر في كل سماء يشير إلى إطلاق النواميس العاملة فيها، على هدى من الله وتوجيه؛ أما ما هي السماء المقصودة فلا نملك تحديداً. فقد تكون درجة البعد سماء. وقد تكون المجرة الواحدة سماء. وقد تكون المجرات التي على أبعاد متفاوتة سماوات.. وقد يكون غير ذلك. مما تحتمله لفظه سماء وهو كثير.
(وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً)..
والسماء الدنيا هي كذلك ليس لها مدلول واحد محدد. فقد تكون هي أقرب المجرات إلينا وهي المعروفة بسكة التبان والتي يبلغ قطرها مائة ألف مليون سنة ضوئية! وقد يكون غيرها مما ينطبق عليه لفظ سماء. وفيه النجوم والكواكب المنيرة لنا كالمصابيح.
(وحفظاً).. من الشياطين.. كما يدل على هذا ما ورد في المواضع الأخرى من القرآن.. ولا نملك أن نقول عن الشياطين شيئاً مفصلاً. أكثر من الإشارات السريعة في القرآن. فحسبنا هذا..
وهل يقدر هذا كله؟ ويمسك الوجود كله، ويدبر الوجود كله.. إلا العزيز القوي القادر؟ وإلا العليم الخبير بالموارد والمصادر؟
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سماوات فِي يَوْمَيْنِ}.
القضاء: الإِيجاد الإِبداعي لأن فيه معنى الإِتمام والحكم، فهو يقتضي الابتكار والإِسراع.
وضَمير {فقضاهن} عائد إلى السماوات على اعتبار تأنيث لفظها، وهذا تفنن.
وانتصب {سَبْعَ سموات} على أنه حال من ضمير « قضاهن» أو عطف بيان له، وجُوّز أن يكون مفعولاً ثانياً ل « قضاهن» لتضمين « قضاهن» معنى صيرهن، وهذا كقوله في سورة البقرة (29) {فسواهن سبع سماوات}.
{وأوحى} عطف على {فقضاهن، والوحي: الكلام الخفي، ويطلق الوحي على حصول المعرفة في نفس من يراد حصولها عنده دون قولٍ، ثم يتوسع فيه فيطلق على إلهام الله تعالى المخلوقات لما تتطلبه مما فيه صلاحها كقوله: {وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً} [النحل: 68] أي جَبَلها على إدراك ذلك وتطلّبه، ويطلق على تسخير الله تعالى بعض مخلوقاته لقبول أثر قدرته كقوله: {إذا زلزلت الأرض زلزالها} [الزلزلة: 1] إلى قوله: {بأن ربك أوحى لها} [الزلزلة: 5].
والوحي في السماء يقع على جميع هذه المعاني من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازاته، فهو أوحى في السماوات بتقادير نُظُم جاذبيتها، وتقادير سير كواكبها، وأوحى فيها بخلق الملائكة فيها، وأوحى إلى الملائكة بما يتلقونه من الأمر بما يعملون، قال تعالى: {وهم بأمره يعملون} [الأنبياء: 27].
ووقع الالتفات من طريق الغيبة إلى طريق التكلم في قوله: {وَزَيَّنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بمصابيح} تجديداً لنشاط السامعين لطول استعمال طريق الغيبة ابتداءً من قوله: {بالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَينِ} [فصلت: 9] مع إظهار العناية بتخصيص هذا الصنع الذي ينفع الناس ديناً ودُنيا وهو خلق النجوم الدقيقة والشهب بتخصيصه بالذكر من بين عموم {وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أمْرَهَا}، فما السماء الدنيا إلا من جملة السماوات، وما النجوم والشُّهُب إلا من جملة أمرها.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(أتينا طائعين) تشير إلى أنّ المواد التي تتشكل منها السماء والأرض من ناحية التكوين والخلقة، كانت مستسلمة تماماً لإرادة الله وأمره، فتقبلت شكلها المطلوب ولم تعترض أمام هذا الأمر الإلهي مطلقاً.