ثم قال - تعالى - { وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى } أى : إلى أن يرشدوكم إلى ما تحصلون به مقاصدكم من النصر على الأعداء أو غير ذلك { لاَ يَسْمَعُواْ } أى : لا يسمعوا شيئاً مما تطلبونه منهم ، ولو سمعوا - على سبيل الفرض - ما استجابوا لكم لعجزهم عن فعل أى شىء .
وقوله { وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } بيان لعجزهم عن الإبصار بعد بيان عجزهم عن السمع ، أى : وترى هذه الصنام كأنها تنظر إليك بواسطة تلك العيون الصناعية التي ركبت فيها ولكنها في الواقع لا تبصر لخلوها من الحياة .
وبذلك تكون هذه الآيات الكريمة قد وبخت المشركين وآلهتهم أعظم توبيخ ، وأثبتت بالأدلة المنطقية الحكيمة ، وبوسائل الحس والمشاهدة أن هذه الأصنام لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً ، وأن الذين قالوا في شأنها { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } هم قوم غافلون جاهلون ، قد هبطوا بعقولهم إلى أحط الدركات ، لأنهم يتقربون إلى الله زلفى عن طريق مالا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنهم شيئا ، بل لا يستطيع أن يدفع الأذى عن نفسه .
وفى الوقت نفسه فالآيات دعوة قوية لكل عاقل إلى أن يجعل عبادته وخضوعه لله الواحد القهار .
( وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا ، وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ) . .
وإذا كان هذا التقرير ينطبق على آلهة الوثنية الساذجة في جاهلية العرب القديمة . . فإنه ينطبق كذلك على كل الآلهة المدعاة في الجاهلية الحديثة . .
إن هؤلاء المشركين الجدد يدعون من دون الله أولياء من أصحاب السلطان الظاهر في الأرض ! ولكن هؤلاء الأولياء لا يستطيعون نصرهم ولا أنفسهم ينصرون . حين يجري قدر الله بما يشاء في أمر العباد في الموعد المرسوم .
وإذا كانت آلهة العرب الساذجة لا تسمع ، وعيونها المصنوعة من الخرز أو الجوهر تنظر ولا تبصر ! فإن بعض الآلهة الجديدة كذلك لا تسمع ولا تبصر . . الوطن . والقوم . والإنتاج . والآلة . وحتمية التاريخ ! إلى آخر تلك الآلهة المدعاة في الجاهلية الحديثة ! والذي يبصر منها ويسمع - وهي الآلهة المدعاة من البشر ، التي تعطى خصائص الألوهية فتشرع بأمرها وتحكم - هي كذلك لا تسمع ولا تبصر . . هي من الذين يقول الله فيهم : ( ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس ، لهم قلوب لا يفقهون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها . . أولئك كالأنعام بل هم أضل ، أولئك هم الغافلون ) !
إن صاحب الدعوة إلى الله ، إنما يصادف حالة واحدة من الجاهليات المتعددة . . وإنما ينبغي أن يقول ما أمر الله سبحانه نبيه [ ص ] أن يقول :
( قل : ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون . إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين . والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون . وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ) . . فإنما هم هم . . في كل أرض وفي كل حين ! ! !
عطف على جملة { والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم } [ الأعراف : 197 ] الآية أي قُل للمشركين : وإن تدعوا الذين تدعون من دون الله إلى الهدى لا يسمعوا .
والضمير المرفوع للمشركين ، والضمير المنصوب عائِد إلى الذين تدعون من دونه ، أي الأصنام .
والهدى على هذا الوجه ما فيه رشد ونفع للمدعو . وذكر { إلى الهدى } لتحقيق عدم سماع الأصنام ، وعدم إدراكها ، لأن عدم سماع دعوة ما ينفع لا يكون إلا لعدم الإدراك .
ولهذا خولف بين قوله هنا { لا يسمعوا } وقوله في الآية السابقة { لا يتبعوكم } [ الأعراف : 193 ] لأن الأصنام لا يتأتى منها الاتباع ، إذ لا يتأتى منها المشي الحقيقي ولا المجازي أي الامتثال .
والخطاب في قوله { وتراهم } لمن يصلح أن يخاطب فهو من خطاب غير المعين .
ومعنى ينظرون إليك على التشبيه البليغ ، أي تراهم كأنهم ينظرون إليك ، لأن صور كثير من الأصنام كان على صور الأناسي وقد نحتوا لها أمثال الحدَق الناظرة إلى الواقف أمامها قال في « الكشاف » « لأنهم صوروا أصنامهم بصورة من قلّب حدقته إلى الشيء ينظر إليه » .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {وإن تدعوهم إلى الهدى}، يعني كفار مكة: {لا يسمعوا} الهدى {وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} الهدى...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل للمشركين: وإن تدعوا أيها المشركون آلهتكم "إلى الهدى"، وهو الاستقامة إلى السداد، "لا يَسْمَعُوا "يقول: لا يسمعوا دعاءكم.
"وتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ وهُمْ لا يُبْصِرُونَ" وهذا خطاب من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، يقول: وترى يا محمد آلهتهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون. ولذلك وحد، ولو كان أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بخطاب المشركين لقال: وترونهم ينظرون إليكم.
وقد رُوي عن السديّ...: "وَإنْ تَدْعُوهُمْ إلى الهُدَى لا يَسْمَعوا وَتَرَاهمْ يَنْظرُونَ إلَيكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ" قال: هؤلاء المشركين.
وقد يحتمل قول السديّ هذا أن يكون أراد بقوله: هؤلاء المشركون قول الله: "وَإنْ تَدْعُوهُمْ إلى الهدَى لا يَسْمَعوا".
وقد كان مجاهد يقول...: "وَتَرَاهُمْ يَنْظرُونَ إلَيْكَ وَهمْ لا يُبْصِرُونَ" ما تدعوهم إلى الهدى. وكأن مجاهدا وجه معنى الكلام إلى أن معناه: وترى المشركين ينظرون إليك وهم لا يبصرون. فهو وجه، ولكن الكلام في سياق الخبر عن الاَلهة فهو بوصفها أشبه...
فإن قال قائل: فما معنى قوله: "وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ وَهمْ لا يُبْصِرُونَ"؟ وهل يجوز أن يكون شيء ينظر إلى شيء ولا يراه؟ قيل: إن العرب تقول للشيء إذا قابل شيئا أو حاذاه هو ينظر إلى كذا، ويقال: منزل فلان ينظر إلى منزلي إذا قابله. وحُكي عنها: إذا أتيت موضع كذا وكذا، فنظر إليك الجبل، فخذ يمينا أو شمالاً...
فمعنى الكلام: وترى يا محمد آلهة هؤلاء المشركين من عبدة الأوثان يقابلونك ويحاذونك، وهم لا يبصرونك، لأنه لا أبصار لهم. وقيل: «وتراهم»، ولم يقل: «وتراها»، لأنها صور مصوّرة على صور بني آدم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وأخبر عن جهلهم لأنهم يعبدون من لا يملك دفع ضر ولا جر نفع بقوله تعالى: {وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} [الآية: 198] الهدى. هذا يخرّج على وجهين: أحدهما: يخاطب به المؤمنين بقوله تعالى: {وإن تدعوهم} يعني أهل مكة {إلى الهدى لا يسمعوا} أي لا يجيبوا {وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} أي لا ينتفعون به، أو لشدة تعنّتهم لا يبصرون...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قال الفراء والزجاج: المعنى إن دعوتم هؤلاء الذين تعبدونهم من الأصنام إلى صلاح ومنافع لا يسمعوا دعاءكم، وتراهم فاتحة أعينهم نحوكم على ما صورتموهم عليه من الصور، وهم مع ذلك لا يبصرونكم...
وفي الآية دلالة على أن النظر غير الرؤية، لأنه تعالى أثبت النظر ونفى الرؤية وقوله "وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون "وجه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ولو كان أمره بخطاب المشركين بمعنى قل لهم لقال: وترونهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
شاهدوه بأبصارهم لكنهم حجبوا عن رؤيته ببصائر أسرارهم وقلوبهم فلم يعتد برؤيتهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} يشبهون الناظرين إليك، لأنهم صوّروا أصنامهم بصورة من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليه {وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}: وهم لا يدركون المرئيّ.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {وإن تدعوهم...} قالت فرقة: المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته، والهاء والميم في قوله {تدعوهم} للكفار ووصفهم بأنهم لا يسمعون ولا يبصرون إذ لم يتحصل لهم عن النظر والاستماع فائدة ولا حلوا منه بطائل، قاله السدي ومجاهد.
وقال الطبري: المراد بالضمير المذكور الأصنام، ووصفهم بالنظر كناية عن المحاذاة والمقابلة وما فيها من تخييل النظر كما تقول دار فلان تنظر إلى دار فلان.
ومعنى الآية على هذا تبين جمودية الأصنام وصغر شأنها، وذهب... وإنما تكرر القول في هذا وترددت الآيات فيه لأن أمر الأصنام وتعظيمها كان متمكناً من نفوس العرب في ذلك الزمن ومستولياً على عقولها، فأوعب القول في ذلك لطفاً من الله تعالى بهم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وبعد أن نفى قدرتهم على النصر، قفى عليه بنفي قدرتهم على الإرشاد إليه فقال: {وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا}. أي وإن تدعوهم إلى أن يهدوكم إلى ما تنصرون به من أسباب خفية أو جلية لا يسمعوا دعاءكم مطلقا، فكيف يستجيبون لكم؟ على أنهم لو سمعوا لما استجابوا لعجزهم عن الفعل، كفقدهم للسمع، {وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} أي وهم فاقدون لحاسة البصر كفقدهم لحاسة السمع، وتراهم أيها المخاطب ينظرون إليك بما وضع لهم من الأعين الصناعية، والحدق الزجاجية أو الجواهرية، وجعلها موجهة إلى الداخل عليها كأنها تنظر إليه، وهم لا يبصرون بها لأن الإبصار لا يحل بالصناعة، بل هو من خواص الحياة التي استأثر الله سبحانه بها، وإذا كانوا لا يسمعون دعاء ولا نداء من عابدهم ولا من غيره، ولا يبصرون حاله وحال خصمه، فأنى يرجى منهم نصره وشد أزره؟
وفي الآية وجه آخر ذهب إليه بعضهم وهو أن الخطاب فيها للمؤمنين والرسول في مقدمتهم بناء على أن الكلام في الأصنام قد تم فيما قبلها وعاد الكلام في عابديها، أي وإن تدعوا أيها المؤمنون هؤلاء الأغبياء من المشركين، الذين لم يعقلوا هذه الحجج والبراهين، إلى هدى الله وهو التوحيد الإسلام لا يسمعوا دعوتكم سماع فهم واعتبار، وتراهم أيها الرسول ينظرون إليك وهم لا يبصرون ما أوتيت من سمت الجلال والوقار، الذي يميز به صاحب البصيرة بين أولي الجد والعزم، والصدق في القول والفعل، وبين أهل العبث والهزل. ولقد كان بعض ذوي الفطرة السليمة ينظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيعرف من شمائله وسيماه في وجهه، أنه حر صادق، غير مخادع ولا مماذق، فيقول: والله ما هذا الوجه وجه كاذب.
وما زال من المعهود بين الناس أن أصحاب البصيرة والفضيلة من الناس يعرف بعضهم بعضا بذلك من أول العهد، بالتلاقي بما يتوسمون من ملامح الوجه ومعارفه ثم من موضوع الحديث وتأثيره في نفس المتكلم والسامع ثم يكمل ذلك بالمعاشرة. كما يعرفون حال الأشرار والمنافقين بذلك {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول} [محمد: 30]...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإذا كان هذا التقرير ينطبق على آلهة الوثنية الساذجة في جاهلية العرب القديمة.. فإنه ينطبق كذلك على كل الآلهة المدعاة في الجاهلية الحديثة.. إن هؤلاء المشركين الجدد يدعون من دون الله أولياء من أصحاب السلطان الظاهر في الأرض! ولكن هؤلاء الأولياء لا يستطيعون نصرهم ولا أنفسهم ينصرون. حين يجري قدر الله بما يشاء في أمر العباد في الموعد المرسوم. وإذا كانت آلهة العرب الساذجة لا تسمع، وعيونها المصنوعة من الخرز أو الجوهر تنظر ولا تبصر! فإن بعض الآلهة الجديدة كذلك لا تسمع ولا تبصر.. الوطن. والقوم. والإنتاج. والآلة. وحتمية التاريخ! إلى آخر تلك الآلهة المدعاة في الجاهلية الحديثة! والذي يبصر منها ويسمع -وهي الآلهة المدعاة من البشر، التي تعطى خصائص الألوهية فتشرع بأمرها وتحكم- هي كذلك لا تسمع ولا تبصر.. هي من الذين يقول الله فيهم: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس، لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها.. أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون)!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم} [الأعراف: 197] الآية أي قُل للمشركين: وإن تدعوا الذين تدعون من دون الله إلى الهدى لا يسمعوا.
والضمير المرفوع للمشركين، والضمير المنصوب عائِد إلى الذين تدعون من دونه، أي الأصنام.
والهدى على هذا الوجه ما فيه رشد ونفع للمدعو. وذكر {إلى الهدى} لتحقيق عدم سماع الأصنام، وعدم إدراكها، لأن عدم سماع دعوة ما ينفع لا يكون إلا لعدم الإدراك.
ولهذا خولف بين قوله هنا {لا يسمعوا} وقوله في الآية السابقة {لا يتبعوكم} [الأعراف: 193] لأن الأصنام لا يتأتى منها الاتباع، إذ لا يتأتى منها المشي الحقيقي ولا المجازي أي الامتثال.
والخطاب في قوله {وتراهم} لمن يصلح أن يخاطب فهو من خطاب غير المعين.
ومعنى ينظرون إليك على التشبيه البليغ، أي تراهم كأنهم ينظرون إليك، لأن صور كثير من الأصنام كان على صور الأناسي وقد نحتوا لها أمثال الحدَق الناظرة إلى الواقف أمامها...