ثم أثنى - سبحانه - على ذاته ، بما يستحقه من إجلال وتعظيم وتقديس فقال : { الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } .
والأيام جمع يوم ، واليوم فى اللغة : مطلق الوقت ، أى : فى ستة أوقات لا يعلم مقدارها إلا الله - تعالى - .
وهو - سبحانه - قادر على أن يخلق السماوات والأرض وما بينهما فى لمحة أو لحظة ، ولكنه - عز وجل - خلقهن فى تلك الأوقات ، لكى يعلم عباده التأنى والتثبت فى الأمور .
قال القرطبى : قوله - تعالى - : { سِتَّةِ أَيَّامٍ } قال الحسن : من أيام الدنيا . وقال ابن عباس : إن اليوم من الأيام الستة ، التى خلق الله فيها السماوات والأرض ، مقداره ألف سنة من سنى الدنيا .
وقال بعض العلماء ما ملخصه : وليست هذه الأيام من أيام هذه الأرض التى نعرفها ، إذ أيام هذه الأرض ، مقياس زمنى ناشئ من دورة هذه الأرض حول نفسها أمام الشمس مرة ، تؤلف ليلاً ونهاراً على هذه الأرض . . وهو مقياس يصلح لنا نحن أبناء هذه الأرض الصغيرة الضئيلة . أما حقيقة هذه الأيام الستة المذكورة فى القرآن ، فعلمها عند الله . ولا سبيل لنا إلى تحديها وتعيين مقدارها ، فهى من ايام الله التى يقول عنها : { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } وقوله - سبحانه - : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } إشارة إلى استعلائه وهيمنته على شئون خلقه .
وقال بعض العلماء : وعرش الله - تعالى - مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم . . وقد ذكر فى إحدى وعشرين آية . وذكر الاستواء على العرش فى سبع آيات .
أما الاستواء على العرش ، فذهب سلف الأمة ، إلى أنه صفة الله - تعالى - بلا كيف ولا انحصار ولا تشبيه ولا تمثيل ، لاستحالة اتصافه - سبحانه - بصفات المحدثين ، ولوجوب تنزيهه عما لا يليق به : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير } وأنه يجب الإِيمان بها كما وردت ، وتفويض العلم بحقيقتها إليه - تعالى - .
قال الإِمام مالك : الكيف غير مقعول ، والاستهواء غير مجهول ، والإِيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .
وقال محمد بن الحسن : اتفق الفقهاء جميعاً على الإِيمان بالصفات ، من غير تفسير ولا تشبيه .
وقال الإِمام الرازى : إن هذا المذهب هو الذى نقول به ونختاره ونعتمد عليه . .
وقوله - سبحانه - : { مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } أى : ليس لكم - أيها الناس - إذا تجاوزتم حدوده - عز وجل - { مِن وَلِيٍّ } أى : من ناصر ينصركم إذا أراد عقابكم ، { وَلاَ شَفِيعٍ } يشفع لكم عنده لكى يعفو عنكم ، أفلا تعقلون هذه المعانى الواضحة ، وتسمعون هذه المواعظ البليغة ، التى من شأنها أن تحملكم على التذكر والاعتبار والطاعة التامة لله رب العالمين .
فالآية الكريمة جمعت فى توجيهاتها الحكيمة ، بين مظاهر قدرة الله - تعالى - ، وبين الترهيب من معصية ومخالفة أمره ، وبين الحض على التذكر والاعتبار .
هؤلاء القوم الذين نزل الله الكتاب لينذرهم به رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] كانوا يشركون مع الله آلهة أخرى . فهنا يبدأ ببيان صفة الله التي يعرفون بها حق ألوهيته سبحانه ، ويميزون بها بين من يستحق هذا الوصف العظيم : ( الله )ومن لا يستحقونه ولا يجوز أن يقرنوا إلى مقام الله رب العالمين :
( الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع . أفلا تتذكرون ? يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ، ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون . ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم . الذي أحسن كل شيء خلقه ، وبدأ خلق الإنسان من طين . ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين . ثم سواه ونفخ فيه من روحه ، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة . قليلا ما تشكرون ) . .
ذلك هو الله ، وهذه هي آثار ألوهيته ودلائلها . هذه هي في صفحة الكون المنظور . وفي ضمير الغيب المترامي وراء إدراك البشر المحدود . وفي نشأة الإنسان وأطواره التي يعرفها الناس ، والتي يطلعهم عليها الله في كتابه الحق المبين .
( الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ) . .
والسماوات والأرض وما بينهما هي هذه الخلائق الهائلة التي نعلم عنها القليل ونجهل عنها الكثير . . هي هذا الملكوت الطويل العريض الضخم المترامي الأطراف ، الذي يقف الإنسان أمامه مبهورا مدهوشا متحيرا في الصنعة المتقنة الجميلة المنسقة الدقيقة التنظيم . . هي هذا الخلق الذي يجمع إلى العظمة الباهرة ، الجمال الأخاذ . الجمال الحقيقي الكامل ، الذي لا يرى فيه البصر ، ولا الحس ، ولا القلب ، موضعا للنقص ؛ ولا يمل المتأمل التطلع إليه مهما طالت وقفته ؛ ولا يذهب التكرار والألفة بجاذبيته . المتجددة العجيبة . ثم هي هذه الخلائق المنوعة ، المتعددة الأنواع والأجناس والأحجام والأشكال والخواص والمظاهر والاستعدادات والوظائف ، الخاضعة كلها لناموس واحد ، المتناسقة كلها في نشاط واحد ، المتجهة كلها إلى مصدر واحد تتلقى منه التوجيه والتدبير ، وتتجه إليه بالطاعة والاستسلام .
والله . . هو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما . . فهو الحقيق - سبحانه - بهذا الوصف العظيم . .
( خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ) . .
وليست هي قطعا من أيام هذه الأرض التي نعرفها . فأيام هذه الأرض مقياس زمني ناشى ء من دورة هذه الأرض حول نفسها أمام الشمس مرة ، تؤلف ليلا ونهارا على هذه الأرض الصغيرة الضئيلة ، التي لا تزيد على أن تكون هباءة منثورة في فضاء الكون الرحيب ! وقد وجد هذا المقياس الزمني بعد وجود الأرض والشمس . وهو مقياس يصلح لنا نحن أبناء هذه الأرض الصغيرة الضئيلة !
أما حقيقة هذه الأيام الستة المذكورة في القرآن فعلمها عند الله ؛ ولا سبيل لنا إلى تحديدها وتعيين مقدارها . فهي من أيام الله التي يقول عنها : ( وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ) . .
تلك الأيام الستة قد تكون ستة أطوار مرت بها السماوات والأرض وما بينهما حتى انتهت إلى ما هي عليه . أو ستة مراحل في النشأة والتكوين . أو ستة أدهار لا يعلم ما بين أحدها والآخر إلا الله . . وهي على أية حال شيء آخر غير الأيام الأرضية التي تعارف عليها أبناء الفناء . فلنأخذها كما هي غيبا من غيب الله لا سبيل إلى معرفته على وجه التحديد . إنما يقصد التعبير إلى تقرير التدبير والتقدير في الخلق ، وفق حكمة الله وعلمه . وإحسانه لكل شيء خلقه في الزمن والمراحل والأطوار المقدرة لهذا الخلق العظيم .
والاستواء على العرش رمز لاستعلائه على الخلق كله . أما العرش ذاته فلا سبيل إلى قول شيء عنه ، ولا بد من الوقوف عند لفظه . وليس كذلك الاستواء . فظاهر أنه كناية عن الاستعلاء . ولفظ . . ثم ، لا يمكن قطعا أن يكون للترتيب الزمني ، لأن الله سبحانه - لا تتغير عليه الأحوال . ولا يكون في حال أو وضع - سبحانه - ثم يكون في حال أو وضع تال . إنما هو الترتيب المعنوي . فالاستعلاء درجة فوق الخلق ، يعبر عنها هذا التعبير .
وفي ظلال الاستعلاء المطلق يلمس قلوبهم بالحقيقة التي تمسهم :
( ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع ) . .
وأين ? ومن ? وهو سبحانه المسيطر على العرش والسماوات والأرض وما بينهما ? وهو خالق السماوات والأرض وما بينهما ? فأين هو الولي من دونه ? وأين هو الشفيع الخارج على سلطانه ?
وتذكر هذه الحقيقة يرد القلب إلى الإقرار بالله ، والإتجاه إليه وحده دون سواه .
لما كان الركن الأعظم من أركان هدى الكتاب هو إثبات الوحدانية للإله وإبطال الشرك عُقب الثناء على الكتاب بإثبات هذا الركن .
وجيء باسم الجلالة مبتدأ لإحضاره في الأذهان بالاسم المختص به قطعاً لدابر عقيدة الشريك في الإلهية ، وخَبَرُ المبتدأ جملة { ما لكم من دونه من وليّ ولا شفيع } ، ويكون قوله : { الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما صفة لاسم الجلالة .
وجيء باسم الموصول للإيماء إلى وجه بناء الخبر وأنه الانفراد بالربوبية لجميع الخلائق في السماوات والأرض وما بينهما ، ومن أولئك المشركون المعنيون بالخبر ، والخطاب موجه إلى المشركين على طريقة الالتفات .
والوليّ : مشتق من الولاء ، بمعنى : العهد والحلف والقرابة . ومن لوازم حقيقة الولاء النصر والدفاع عن المولَى . وأُريد بالولي : المشارك في الربوبية .
والشفيع : الوسيط في قضاء الحوائج من دفع ضرّ أو جلب نفع . والمشركون زعموا أن الأصنام آلهة شركاء لله في الإلهية ثم قالوا : { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] وقالوا : { ما نعبدهم إلا لِيُقَرِّبونا إلى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] .
و { مِن } في قوله { من دونه } ابتدائية في محل الحال من ضمير { لكم } ، و ( دون ) بمعنى غَير ، و { مِن } في قوله { من ولي } زائدة لتأكيد النفي ، أي : لا وليّ لكم ولا شفيع لكم غير الله فلا ولاية للأصنام ولا شفاعة لها إبطالاً لما زعموه لأصنامهم من الوصفين إبطالاً راجعاً إلى إبطال الإلهية عنها . وليس المراد أنهم لا نصير لهم ولا شفيع إلا الله لأن الله لا ينصرهم على نفسه ولا يشفع لهم عند نفسه ، قال الله تعالى : { ذلك بأن الله مولَى الذين ءامنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم } [ محمد : 11 ] وقال : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } [ البقرة : 255 ] .
وتقدم تفسير نظيره { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } وبيان تأويل { ثم استوى على العرش } في سورة الأعراف ( 54 ) .
وفُرّع على هذا الدليل إنكارٌ على عدم تدبرهم في ذلك وإهمالهم النظر بقوله : { أفلا تتذكرون } فهو استفهام إنكاري . والتذكر : مشتق من الذُكر الذي هو بضم الذال وهو التفكر والنظر بالعقل .