التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَٱسۡتَفۡتِهِمۡ أَلِرَبِّكَ ٱلۡبَنَاتُ وَلَهُمُ ٱلۡبَنُونَ} (149)

قوله تعالى : { فاستفتهم . . . } معطوف على قوله تعالى فى أوائل السورة : { فاستفتهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ . . . } عطف جملة على جملة . والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والاستفتاء : الاستخبار والاستفهام وطلب الفتيا من المفتى .

أى : أسأل - أيها الرسول - هؤلاء المشركين سؤال تقريع وتأنيب : { أَلِرَبِّكَ البنات وَلَهُمُ البنون } أى : أسأله بأى وجه من وجوه القسمة جعلوا لربك البنات وجعلوا لأنفسهم البنين ؟ إن قسمتهم هذه لهى قسمة جائرة وفاسدة عند كل عاقل ، لأنه لا يليق فى أى عقل أن يجعلوا لله - تعالى - الجنس الأدنى وهو جنس الإِناث ، بينما يجعلون لأنفسهم الجنس الأعلى .

وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى . تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى } قال صاحب الكشاف : { فاستفتهم } معطوف على مثله فى أول السورة ، وإن تباعدت بينهما المسافة ، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم باستفتاء قريش عن وجه إنكارهم البعث أولا . ثم ساق الكلام موصولا بعضه ببعض ، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى التى قسموها ، حيث جعلوا لله الإِناث ولأنفسهم الذكور ، فى قولهم الملائكة بنات الله ، مع كراهتهم الشديدة لهن . ولقد ارتكبوا فى ذلك ثلاثة أنواع من الكفر :

أحدها : التجسيم ، لأن الولادة مختصة بالأجسام .

والثانى : تفضيل أنفسهم على ربهم ، حيث جعلوا أوضع الجنسين له ، وأرفعهما لهم .

والثالث : أنهم استهانوا بأكرم خلق الله ، وأقربهم إليه ، حيث أنثوهم . ولو قيل لأقلهم وأدناهم : فيك أنوثة ، أو شكلك شكل النساء ، للبس لقائله جلد النمور ، ولا نقلبت حماليقه - أى : أجفان عينيه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَٱسۡتَفۡتِهِمۡ أَلِرَبِّكَ ٱلۡبَنَاتُ وَلَهُمُ ٱلۡبَنُونَ} (149)

149

فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون ? أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون ? ألا إنهم من إفكهم ليقولون : ولد الله . وإنهم لكاذبون . أصطفى البنات على البنين ? مالكم كيف تحكمون ? أفلا تذكرون ? أم لكم سلطان مبين ? فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين . .

إنه يحاصر أسطورتهم في كل مساربها ؛ ويحاجهم بمنطقهم ومنطق بيئتهم التي يعيشون فيها . وهم كانوا يؤثرون البنين على البنات ؛ ويعدون ولادة الأنثى محنة ، ويعدون الأنثى مخلوقاً أقل رتبة من الذكر . ثم هم الذين يدعون أن الملائكة إناث . وأنهم بنات الله !

فهو هنا يستطرد معهم وفق منطقهم ، ويأخذهم به ليروا مدى تهافت الأسطورة وسخفها حتى بمقاييسهم الشائعة :

( فاستفتهم . . ألربك البنات ولهم البنون )?

أإذا كان الإناث أقل رتبة كما يدعون ؛ جعلوا لربهم البنات واستأثروا هم بالبنين ? ! أو اختار الله البنات وترك لهم البنين ? ! إن هذا أو ذاك لا يستقيم ! فاسألهم عن هذا الزعم المتهافت السقيم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَٱسۡتَفۡتِهِمۡ أَلِرَبِّكَ ٱلۡبَنَاتُ وَلَهُمُ ٱلۡبَنُونَ} (149)

تفريع على ما تقدم من الإِنكار على المشركين وإِبطال دعاويهم ، وضرب الأمثال لهم بنظرائهم من الأمم ففرع عليه أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بإبطال ما نسبه المشركون إلى الله من الولد . فضمير الغيبة من قوله : { فاستفتهم } عائد على غير مذكور يُعلَم من المقام . مثل نظيره السابق في قوله : { فاستفتهم أهم أشد خلقاً أمن خلقنا } [ الصافات : 11 ] . والمراد : التهكم عليهم بصورة الاستفتاء إذ يقولون : ولد الله ، على أنهم قسموا قسمة ضِيزَى حيث جعلوا لله البنات وهم يرغبون في الأبناء الذكور ويكرهون الإِناث ، فجعلوا لله ما يكرهون . وقد جاءوا في مقالهم هذا بثلاثة أنواع من الكفر :

أحدها : أنهم أثبتوا التجسيم لله لأن الولادة من أحوال الأجسام .

الثاني : إيثار أنفسهم بالأفضل وجعلهم لله الأقل . قال تعالى : { وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمان مثلاً ظل وجهه مسوداً وهو كظيم } [ الزخرف : 17 ] .

الثالث : أنهم جعلوا للملائكة المقربين وصف الأنوثة وهم يتعيرون بأبي الإِناث ، ولذلك كرر الله تعالى هذه الأنواع من كفرهم في كتابة غير مرة .

فجملة { ألِرَبك البنَاتُ } بيان لجملة { فاستفتهم } . وضمير { لربك } مخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم وهو حكاية للاستفتاء بالمعنى لأنه إذا استفتاهم يقول : ألربكم البنات ، وكذلك ضمير { ولهم } محكي بالمعنى لأنه إنما يقول لهم : ولكم البنون . وهذا التصرف يقع في حكاية القول ونحوه مما فيه معنى القول مثل الاستفتاء .