وبعد أن بين القرآن ما أحله الله وما حرمه . عقب على ذلك بأن بين أن أجل الناس في هذه الدنيا محدود ، وأنهم إن آجلا أو عاجلا سوف يقفون أمام ربهم للحساب فقال : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ . . . . } .
أى : لكل أمة من الأمم ولكل جيل من الأجيال مدة من العمر محدودة في علم الله ، فإذا ما انتهت هذه المدة انقطعت حياتهم وفارقوا هذه الدنيا بدون أى تقديم أو تأخير .
وليس المراد بالساعة هنا ما اصطلح عليه الناس من كونها ستين دقيقة ، وإنما المراد بها الوقت الذي هو في غاية القلة .
ولأن هذه القضية التي تبدو فرعية ، لها كل هذه الأهمية في ميزان الله وفي حساب الإسلام ، لارتباطها أولا بقضية التوحيد والشرك ؛ ولارتباطها ثانياً بصلاح فطرة الإنسان وخلقه ومجتمعه وحياته ، أو بفساد هذا كله . . فإن السياق يعقب عليها بإيقاع قوي مؤثر ؛ يوقع به عادة في مواقف العقيدة الكبيرة . . إنه يعقب بتنبيه بني آدم ، إلى أن بقاءهم في هذه الأرض محدود مرسوم ؛ وأنه إذا جاء الأجل فلا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون :
( ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) .
إنها حقيقة أساسية من حقائق هذه العقيدة ، يوقع بها السياق على أوتار القلوب الغافلة - غير الذاكرة ولا الشاكرة - لتستيقظ ، فلا يغرها امتداد الحياة !
والأجل المضروب إما أجل كل جيل من الناس بالموت المعروف الذي يقطع الحياة . وإما أجل كل أمة من الأمم بمعنى الأمد المقدر لقوتها في الأرض واستخلافها . . وسواء هذا الأجل أو ذاك فإنه مرسوم لا يتقدمون عنه ولا يستأخرون .
اعتراض بين جملة : { يا بني آدم خذوا زينتكم } [ الأعراف : 31 ] وبين جملة : { يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم } [ الأعراف : 35 ] لمّا نعى الله على المشركين ضلالهم وتمرّدهم . بعد أن دعاهم إلى الإيمان ، وإعراضَهم عنه ، بالمجادلة والتّوبيخ وإظهارِ نقائصهم بالحجّة البيّنة ، وكان حالهم حال من لا يقلع عمّا هم فيه ، أعقَب ذلك بإنذارهم ووعيدهم إقامةً للحجّة عليهم وإعذاراً لهم قبل حلول العذاب بهم .
وهذه الجملة تؤكّد الغرض من جملة : { وكم من قرية أهلكناها } [ الأعراف : 4 ] وتحتمل معنيين :
أحدهما : أن يكون المقصود بهذا الخبر المشركين ، بأن أقبل الله على خطابهم أو أمر نبيئه بأن يخاطبهم ، لأنّ هذا الخطاب خطاب وعيد وإنذار .
والمعنى الثّاني : أن يكون المقصود بالخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيكون وعداً له بالنّصر على مكذّبيه ، وإعلاماً له بأنّ سنّته سنّةُ غيره من الرّسل بطريقة جعل سنّة أمّته كسنّة غيرها من الأمم .
وذكْرُ عموم الأمم في هذا الوعيد ، مع أنّ المقصود هم المشركون من العرب الذين لم يؤمنوا ، إنّما هو مبالغة في الإنذار والوعيد بتقريب حصوله كما حصل لغيرهم من الأمم على طريقة الاستشهاد بشواهد التّاريخ في قياس الحاضر على الماضي فيكون الوعيد خبراً معضوداً بالدّليل والحجّة ، كما قال تعالى في آيات كثيرة منها : { قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } [ آل عمران : 137 ] أي : ما أنتم إلاّ أمة من الأمم المكذّبين ولكلّ أمّة أجل فأنتم لكم أجل سيحين حينه .
وذِكر الأجل هنا ، دون أن يقول لكلّ أمّة عذاب أو استئصال ، إيقاظاً لعقولهم من أن يغرّهم الإمهال فيحسبوا أنّ الله غيرُ مؤاخذهم على تكذيبهم ، كما قالوا : { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } [ الأنفال : 32 ] ، وطمأنةً للرسول عليه الصّلاة والسلام بأنّ تأخير العذاب عنهم إنّما هو جري على عادة الله تعالى في إمهال الظّالمين على حدّ قوله : { حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذّبوا جاءهم نصرنا } [ يوسف : 110 ] وقوله { لا يغرنَّك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل } [ آل عمران : 196 ، 197 ] .
ومعنى : { لكل أمة أجل } لكلّ أمّة مكذّبة إمهال فحذف وصف أمّة أي : مكذّبة .
وجعل لذلك الزّمان نهاية وهي الوقت المضروب لانقضاء الإمهال ، فالأجل يطلق على مدّة الإمهال ، ويُطلق على الوقت المحدّد به انتهاء الإمهال ، ولا شكّ أنّه وُضع لأحد الأمرين ثمّ استعمل في الآخرة على تأويل منتهى المدّة أو تأخير المنتهى وشاع الاستعمالان . فعلى الأوّل يقال قَضى الأجلَ أي المدّة كما قال تعالى : { أيَّما الأجلين قضيت } [ القصص : 28 ] وعلى الثّاني يقال : « دنا أجل فلان » وقوله تعالى : { وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } [ الأنعام : 128 ] والواقع في هذه الآية يصحّ للاستعمالين بأن يكون المراد بالأجل الأوّل المدّة ، وبالثّاني الوقت المحدّد لفعلٍ مَّا .
والمراد بالأمّة هنا الجماعة التي اشتركت في عقيدة الإشراك أو في تكذيب الرّسل ، كما يدلّ عليه السّياق من قوله تعالى : { وأن تشركوا بالله } [ الأعراف : 33 ] إلخ وليس المراد بالأمّة ، الجماعةَ التي يجمعها نسب أو لغة إذ لا يتصوّر انقراضها عن بكرة أبيها ، ولم يقع في التّاريخ انقراض إحداها ، وإنّما وقع في بعض الأمم أن انقرض غالب رجالها بحوادث عظيمة مثل ( طَسْمٍ ) و ( جَدِيس ) و ( عَدْوَان ) فتندمج بقاياها في أمم أخرى مجاورة لها فلا يقال لأمّة إنّ لها أجلا تنقرض فيه ، إلاّ بمعنى جماعة يجمعها أنّها مُرسل إليها رسول فكذّبته ، وكذلك كان ما صْدَق هذه الآية ، فإنّ العرب لمّا أرسل محمّد صلى الله عليه وسلم ابتدأ دعوته فيهم ولهم ، فآمن به من آمن ، وتَلاحق المؤمنون أفواجاً ، وكذّب به أهل مكّة وتبعهم مَن حولهم ، وأمهل الله العربَ بحكمته وبرحمة نبيّه صلى الله عليه وسلم إذ قال : « لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده » فلطف الله بهم إذ جعلهم مختلطين مؤمنهم ومشركهم ، ثمّ هاجر المؤمنون فبقيت مكّة دار شرك وتمحّض مَنْ عَلِم الله أنّهم لا يؤمنون فأرسل الله عليهم عبادَهُ المؤمنين فاستأصلوهم فوْجاً بعد فوح ، في يوم بدر وما بعده من أيّام الإسلام ، إلى أن تَم استئصال أهل الشّرك بقتل بقيّة من قتل منهم في غزوة الفتح ، مثل عبد الله بن خَطَل ومن قُتل معه ، فلمّا فتحت مكّة دان العرب للإسلام وانقرض أهل الشّرك ، ولم تقم للشّرك قائمة بعد ذلك ، وأظهر الله عنايته بالأمّة العربيّة إذ كانت من أوّلِ دعوة الرّسول غير متمحّضة للشّرك ، بل كان فيها مسلمون من أوّل يوم الدّعوة ، وما زالوا يتزايدون .
وليس المراد في الآية ، بأجل الأمّة ، أجلَ أفرادها ، وهو مدّة حياة كلّ واحد منها ، لأنّه لا علاقة له بالسّياق ، ولأنّ إسناده إلى الأمّة يعيّن أنّه أجل مجموعها لا أفرادها ، ولو أريد آجال الأفراد لقال لكلّ أحد أو لكلّ حَيّ أجل .
و { إذا } ظرف زمان للمستقبل في الغالب ، وتتضمّن معنى الشّرط غالباً ، لأنّ معاني الظّروف قريبَة من معاني الشّرط لما فيها من التّعليق ، وقد استُغني بفاء تفريع عامل الظرّف هنا عن الإتيان بالفاء في جواب ( إذا ) لظهور معنى الرّبط والتّعليق بمجموع الظّرفية والتّفريع ، والمفرعُ هو : { جاء أجلهم } وإنّما قدم الظّرف على عامله للاهتمام به ليتأكدّ بذلك التّقديممِ معنى التّعليق . والمجيء مجاز في الحلول المقدَّر له كقولهم جاء الشّتاء .
وإفراد الأجل في قوله : { إذا جاء أجلهم } مراعى فيه الجنس ، الصّادق بالكثير ، بقرينة إضافته إلى ضمير الجمع .
وأُظهر لفظ أجل في قوله : { إذا جاء أجلهم } ولم يُكتف بضميره لزيادة تقرير الحكم عليه ، ولتكون هذه الجملة مستقلّة بنفسها غير متوقّفة عن سماع غيرها لأنّها بحيث تَجْري مَجرى المثل ، وإرسالُ الكلام الصّالح لأن يكون مَثلا طريق مِن طُرق البلاغة .
و { يستأخرون } : و { يستقدمون } بمعنى : يتأخّرون ويتقدّمون ، فالسّين والتّاء فيهما للتّأكيد مثل استجاب .
والمعنى : إنّهم لا يتجاوزونه بتأخير ولا يتعجّلونه بتقديم . والمقصود أنّهم لا يؤخّرون عنه ، فَعَطْفُ { ولا يستقدمون } لبيان أن ما علمه الله وقدّره على وفق علمه لا يَقْدِر أحد على تغييره وصَرفه ، فكان قوله : { ولا يستقدمون } لا تعلّق له بغرض التّهديد . وقريب من هذا قول أبي الشيص :
وقف الهوى بي حيثُ أنتِ فليس لي *** مُتَأخَّرٌ عَنْهُ وَلاَ مُتَقَدَّم
وكلّ ذلك مبني على تمثيل حالة الذي لا يستطيع التّخلّص من وعيد أو نحوه بهيئة من احتُبس بمكان لا يستطيع تجاوزه إلى الأمام ولا إلى الوراء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.