التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَوٰٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (278)

ثم ينتقل القرآن إلى أسلوب الخطاب المباشر للمؤمنين فيأمرهم بتقوى الله ، وينهاهم عن التعامل بالربا فيقول : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله } أي اخشوه وصونوا أنفسكم عن الأعمال والأقوال التي تفضي بكم إلى عقابه .

وقوله : { وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا } أي : اتركوا ما بقي في ذمم الذين عاملتموهم بالربا ولا تأخذوا منهم إلا رءوس أموالكم فحسب ، فهذا مقابل لقوله - تعالى - قبل ذلك : { فَلَهُ مَا سَلَفَ } أي ما سلف قبضه من الربا قبل نزول الآية فهو لكم ، وما لم تقبضوه فأنتم مأمورن بتركه .

وقوله : { مِنَ الربا } متعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل { بَقِيَ } أي اتركوا الذي بقي حال كونه بعض الربا ، ومن للتعيض .

أو متعلق ببقى .

و { وَذَرُواْ } فعل أمر - بوزن علوا - مبني على حذف النون والواو فاعل ، وأصله " وذروا " فحذفت فاؤه ، والماضي منه " وذر " .

وقوله : { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } حض لهم على ترك الربا أي إن كنتم مؤمنين حق الإِيمان فامتثلوا أمر الله وذروا ما بقي من الربا مما زاد على رءوس أموالكم .

قال ابن كثير : " نزل هذا السياق في بني عمرو بن عمير بن ثقيف ، وبني المغيرة من بني مخزوم كان بينهم ربا في الجاهلية فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه ، طلبت ثقيف أن تأخهذه منهم فتشاوروا . وقالت بنو المغيرة : لا نؤدي في الإِسلام ، فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية ، فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه . فقالوا نتوب إلى الله ونذر ما بقى من الربا فتركوه كلهم . وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لكل ما استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار "

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَوٰٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (278)

275

وفي ظل هذا الرخاء الآمن الذي يعد الله به الجماعة المسلمة ، التي تنبذ الربا من حياتها ، فتنبذ الكفر والإثم ، وتقيم هذه الحياة على الإيمان والعمل الصالح والعبادة والزكاة . . في ظل هذا الرخاء الأمن يهتف بالذين آمنوا الهتاف الأخير ليحولوا حياتهم عن النظام الربوي الدنس المقيت ؛ وإلا فهي الحرب المعلنة من الله ورسوله ، بلا هوادة ولا إمهال ولا تأخير :

( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ، وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين . فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله . وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون )

إن النص يعلق إيمان الذين آمنوا على ترك ما بقي من الربا . فهم ليسوا بمؤمنين إلا أن يتقوا الله ويذروا ما بقي من الربا . ليسوا بمؤمنين ولو اعلنوا أنهم مؤمنون . فإنه لا إيمان بغير طاعة وانقياد واتباع لما أمر الله به . والنص القرآني لا يدعهم في شبهة من الأمر . ولا يدع إنسانا يتستر وراء كلمة الإيمان ، بينما هو لا يطيع ولا يرتضي ما شرع الله ، ولا ينفذه في حياته ، ولا يحكمه في معاملاته . فالذين يفرقون في الدين بين الاعتقاد والمعاملات ليسوا بمؤمنين . مهما ادعوا الإيمان وأعلنوا بلسانهم أو حتى بشعائر العبادة الأخرى أنهم مؤمنون !

( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا . . إن كنتم مؤمنين ) . .

لقد ترك لهم ما سلف من الربا - لم يقرر استرداده منهم ، ولا مصادرة أموالهم كلها أو جزء منها بسبب أن الربا كان داخلا فيها . . إذ لا تحريم بغير نص . . ولا حكم بغير تشريع . . والتشريع ينفذ وينشىء آثاره بعد صدوره . . فأما الذي سلف فأمره إلى الله لا إلى أحكام القانون . وبذلك تجنب الإسلام أحداث هزة اقتصادية واجتماعية ضخمة لو جعل لتشريعه أثرا رجعيا . وهو المبدأ الذي أخذ به التشريع الحديث حديثا ! ذلك أن التشريع الإسلامي موضوع ليواجه حياة البشر الواقعية ، ويسيرها ، ويطهرها ، ويطلقها تنمو وترتفع معا . . وفي الوقت ذاته علق اعتبارهم مؤمنين على قبولهم لهذا التشريع وإنفاذه في حياتهم منذ نزوله وعلمهم به . واستجاش في قلوبهم - مع هذا - شعور التقوى لله . وهو الشعور الذي ينوط به الإسلام تنفيذ شرائعه ، ويجعله الضمان الكامن في ذات الأنفس ، فوق الضمانات المكفولة بالتشريع ذاته . فيكون له من ضمانات التنفيذ ما ليس للشرائع الوضعية التي لا تستند إلا للرقابة الخارجية ! وما أيسر الاحتيال على الرقابة الخارجية ، حين لا يقوم من الضمير حارس له من تقوى الله سلطان .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَوٰٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (278)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 278 )

سبب هذه الآية أنه كان الربا بين الناس كثيراً في ذلك الوقت ، وكان بين قريش وثقيف ربا ، فكان لهؤلاء على هؤلاء . فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال في خطبته في اليوم الثاني من الفتح : «ألا كل ربا في الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب » ، فبدأ صلى الله عليه وسلم بعمه وأخص الناس به ، وهذه من سنن العدل للإمام أن يفيض العدل على نفسه وخاصته ، فيستفيض حينئذ في الناس ، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واستعمل على مكة عتاب بن أسيد( {[2726]} ) ، فلما استنزل أهل الطائف بعد ذلك إلى الإسلام اشترطوا شروطاً ، منها ما أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنها ما لم يعطه ، وكان في شروطهم أن كل ربا لهم على الناس فإنهم يأخذونه ، وكل ربا عليهم فهو موضوع ، فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرر لهم هذه ثم ردها الله بهذه الآية ، كما رد صلحه لكفار قريش في رد النساء إليهم عام الحديبية .

وذكر النقاش رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يكتب في أسفل الكتاب لثقيف لكم ما للمسليمن وعليكم ما عليهم ، فلما جاءت آجال رباهم بعثوا إلى مكة للاقتضاء ، وكانت الديون لبني غيرة( {[2727]} ) وهم بنو عمرو بن عمير من ثقيف ، وكانت لهم على بني المغيرة المخزوميين فقال بنو المغيرة : لا نعطي شيئاً فإن الربا قد وضع ، ورفعوا أمرهم إلى عتاب بن أسيد بمكة ، فكتب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية ، وكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب فعلمت بها ثقيف فكفت ، هذا سبب الآية على اختصار مجموع مما روى ابن إسحاق وابن جريج والسدي وغيرهم .

فمعنى الآية ، اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بترككم ما بقي لكم من ربا وصفحكم عنه . وقوله :

{ إن كنتم مؤمنين } شرط محض في ثقيف على بابه ، لأنه كان في أول دخولهم في الإسلام وإذا قدرنا الآية فيمن تقرر إيمانه فهو شرط مجازي على جهة المبالغة( {[2728]} ) ، كما تقول لمن تريد إقامة نفسه( {[2729]} ) : إن كنت رجلاً فافعل كذا ، وحكى النقاش عن مقاتل بن سليمان أنه قال : { إن } في هذه الآية بمعنى إذ .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا مردود لا يعرف في اللغة ، وقال ابن فورك : يحتمل أنه يريد { يا أيها الذين آمنوا } بمن قبل محمد من الأنبياء ، { ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين } بمحمد ، إذ لا ينفع الأول إلا بهذا وهذا مردود بما روي في سبب الآية( {[2730]} ) ،


[2726]:- هو ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، أسلم هو وأخوه خالد بن أسيد يوم فتح مكة، وقد استعمله صلى الله عليه وسلم عليها عند خروجه إلى المدينة، وقبض صلى الله عليه وسلم وعتاب بن أسيد عامله على مكة، انظر طبقات ابن سعد. وعتاب – بالتشديد كما ضبطه في "الإصابة" وأسيد كأمير.
[2727]:- بنو غِيرَة: حي من العرب، وهي كعنبة بالغين.
[2728]:- حاصله أنه إن كان شرطا فيمن هو حديث عهد بالإسلام كثقيف فهو شرط حقيقي، وإن كان فيمن طال عهده في الإسلام فهو شرط مجازي على جهة المبالغة، أو بأن يكون المعنى: وإن صح إيمانكم، يعني أن دليل صحة الإيمان وثباته امتثال ما أُمرتم به – قال ذلك الزمخشري، عقب عليه أبو (ح) بأن فيه دسيسة اعتزال – راجع البحر المحيط 2-337.
[2729]:- أي إثارة نفسه وتهيجها.
[2730]:- أي لأنه ليس فيهم من كان مؤمنا قبل الإسلام بنبي من الأنبياء، وفي الآية إشارة إلى أن الإيمان الكامل لا يجتمع مع ممارسة الربا.