اعلم أنه تعالى لمَّا بيَّن في الآية المتقدمة أنَّ من انتهى عن الربا ، فله ما سلف ؛ فقد يظنُّ أنه لا فرق بين المقبوض منه ، وبين الباقي في ذمَّة الغريم ، فبين في هذه الآية الكريمة بقوله : { وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } أي : الذي لم يقبض فالزيادة حرامٌ ، وليس لهم أن يأخذوا إلاَّ رؤوس أموالهم ، فقال : { اتَّقُواْ اللهَ } والاتقاء إنما يكون باتقاء ما نهى عنه ، { وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } يعني : إن كنتم قد قبضتم منه شيئاً ، فيعفو عنه ، وإن لم تقبضوه أو لم تقبضوا بعضه ، فالذي لم يقبض حرامٌ قبضه ، وهذه الآية دليلٌ على أحكام الكفَّار إذا أسلموا ؛ لأن ما مضى في زمن الكفر ، فإنه لا ينقض ، ولا يفسخ ، وما لم يوجد منه شيء في حال الكفر ، فحكمه حكم الإسلام ، فإذا تناكحوا على ما يجوز عندهم ، ولا يجوز في الإسلام فمعفوٌّ عنه ، وإن وقع على مهرٍ حرامٍ ، وقبضته المرأة ، فقد مضى ، وليس لها شيءٌ ، وإن لم تقبضه فلها مهر مثلها دون المسمى .
قوله تعالى : { وَذَرُواْ } : فتحت العين من " ذَرْ " حملاً على " دَعْ " ، إذ هو بمعناه ، وفتحت في " دَعْ " ؛ لأنه أمرٌ من " يَدَعُ " ، وفتحت من " يَدَعُ " ، وإن كان قياسها الكسر ؛ لكون الفاء واواً ؛ [ كيَعِدُ ] لكون لامه حرف حلقٍ .
ووزن " ذَرُوا " : علوا ؛ لأنَّ المحذوف الفاء لا يستعمل منه ماضٍ إلاَّ في لغيَّة ، وكذلك " دَعْ " .
وقرأ الحسن{[4732]} : " مَا بَقَى " بقلب الكسر فتحةً ، والياء ألفاً ، وهي لغةٌ لطَيِّئٍ ، ولغيرهم ؛ ومنه قول علقمة : [ الطويل ]
زَهَا الشَّوْقُ حَتَّى ظَلَّ إِنْسَانُ عَيْنِهِ *** يَفِيضُ بِمَغْمُورٍ مِنَ الدَّمْعِ مُتْأَقِ{[4733]}
وَمَا الدُّنْيَا بِبَاقَاةٍ عَلَيْنَا *** وَمَا حَيٌّ عَلَى الدُّنْيَا بِبَاقِ{[4734]}
ويقولون في الناصية : ناصاةٌ . وقرأ الحسن{[4735]} أيضاً : " بَقِيْ " بتسكين الياء ، قال المبرد : " تسكين ياء المنقوص في النصب من أحسن الضرورة ، هذا مع أنَّه معربٌ ، فهو في الفعل الماضي أحسنُ " قال شهاب الدين : وإذا كانوا قد حذفوها من الماضي صحيح الآخر ، فأولى من حرف العلة ، قال : [ مجزوء الرمل ]
إِنَّمَا شِعْرِيَ قَيْدٌ *** قَدْ خُلِطْ بِجُلْجُلانِ{[4736]}
وقال جرير في تسكين الياء : [ البسيط ]
هُوَ الخَلِيفَةُ فَارْضُوا مَا رَضِيْ لَكُمُ *** مَاضِي العَزِيمَةِ مَا فِي حُكْمِهِ جَنَفُ{[4737]}
لَعَمْرُكَ لاَ أَخْشَى التَّصَعْلُكَ مَا بَقِيْ *** عَلَى الأَرْضِ قَيْسِيٌّ يَسُوقُ الأَبَاعِرَا{[4738]}
قوله : { مِنَ الرِّبَا } متعلِّقٌ ببقي ، كقولهم : " بَقِيَتْ منه بقيةٌ " ، والذي يظهر أنه متعلقٌ بمحذوفٍ ؛ على أنه حال من فاعل " بقَى " ، أي : الذي بقي حال كونه بعض الربا ، فهي تبعيضيةٌ .
ونقل ابن عطية هنا أنَّ العدويَّ - وهو أبو السَّمَّال - قرأ{[4739]} " مِنَ الرِّبُو " بتشديد الراء مكسورة ، وضمِّ الباء بعدها واوٌ . قال شهاب الدين : قد تقدم أنَّ أبا السَّمَّال إنما قرأ " الرِّبَا " في أول الآية الكريمة بواوٍ بعد فتحة الباء ، وأنَّ أبا زيدٍ حكى عن بعضهم : أنه ضمَّ الباء ، وقدَّمت تخريجهما على ضعفه .
وقال ابن جنِّي{[4740]} : " شَذَّ هَذَا الحَرْفُ في أمرين :
أحدهما : الخروج من الكسر إلى الضم بناءً لازماً .
والآخر : وقوع الواو بعد الضمة في آخر الاسم ، وهذا شيء لم يأت إلاَّ في الفعل ؛ نحو : يغزو ويدعو ، وأمَّا " ذو " الطائية بمعنى الذي فشاذةٌ جداً ، ومنهم من يغيِّر واوها ، إذا فارق الرفع ، فيقول : " رأيتُ ذَا قَامَ " .
ووجه القراءة أنه لمَّا فخَّم الألف انتحى بها الواو التي الألف بدل منها ، على حدِّ قولهم : الصَّلاة والزكاة ، وهي بالجملة قراءة شاذةٌ " . قال شهاب الدين : غيره يقيِّد هذه العبارة ، فيقول : " ليس في الأسماء المعربة واو قبلها ضمة " حتى يخرج عنه " ذُو " بمعنى الذي ، و " هو " من الضمائر ، وابن جنِّي لم يذكر القيد استثناء " ذو الطائية " ويرد عليه نحو " هو " ، ويرد على العبارة " ذُو " بمعنى صاحب ؛ فإنَّها معربةٌ في آخرها واوٌ بعد ضمةٍ .
وقد أجيب عنه بأنها تتغيَّر إلى الألف والياء فلم يبال بها ، وأيضاً فإنَّ ضمة الدَّال عارضةٌ ، إذ أصلها الفتح ، وإنما ضمَّت ؛ إتباعاً على ما تقرر في إعراب الأسماء الستة في كتب النحو .
وقله : " بناءً لازماً " تحرُّزٌ من وجود الخروج من كسرٍ إلى ضمٍّ ، بطريق العرض ؛ نحو : الحِبُك ؛ فإنه من التداخل ، ونحو : الرِّدُءْ " موقوفاً عليه ، فالخروج من كسرٍ إلى ضمٍّ في هاتين الكلمتين ، ليس بلازمٍ .
وقوله : " مِنْهُمْ مَنْ يغيِّرُ واوَها " المشهور بناؤها على الواو مطلقاً ، وقد تعرب ؛ كالتي بمعنى صاحب ؛ وأنشدوا : [ الطويل ]
فَإِمَّا كِرَامٌ مُوسِرُونَ لَقِيتُهُمْ *** فَحَسْبِيَ مِنْ ذِي عِنْدَهُمْ مَا كَفَانِيَا{[4741]}
ويروى : " مِنْ ذُو " على الأصل .
قوله : { إِن كُنْتُمْ } شرطٌ ، وجوابه محذوفٌ عند الجمهور ، أي : فاتَّقوا ، وذروا ، ومتقدِّم عند جماعةٍ ، وقيل : " إِنْ " هنا بمعنى إذ ؛ وهذا مردودٌ .
فإن قيل : كيف قال { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ } ثم قال { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } فالجواب من وجوهٍ :
الأول : أن هذا كما يقال إن كنت أخي فأكرمني ، معناه : إِنَّ من كان أخاً ، أكرم أخاه .
الثاني : أنَّ معناه إن كنتم مؤمنين قبله ، أي : معترفين بتحريم الرِّبا .
الثالث : إن كنتم تريدون استدامة حكم الإيمان .
الرابع : يا أيُّها الذين آمنوا ، بلسانهم ، ذروا ما بقي من الرِّبا إن كنتم مؤمنين بقلوبكم .
الخامس : ما تقدم أنَّ " إن " بمعنى " إذْ " .
الأولى : أن أهل مكة كانوا يرابون ، فلما أسلموا عند فتح مكة ، أمرهم الله تعالى بهذه الآية ، أن يأخذوا رؤوس أموالهم دون الزيادة{[4742]} .
الثانية : قال مقاتلٌ : نزلت في أربعة إخوةٍ من ثقيف : مسعودٍ ، وعبد [ ياليل ] ، وحبيبٍ ، وربيعة ، وهم بنو عمرو بن عمير بن عوف الثقفي ، كانوا يداينون بني المغيرة بن عبد الله بن عمير بن مخزومٍ وكانوا يرابون . فلما ظهر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على الطائف ، أسلم هؤلاء الإخوة ، فطلبوا رباهم من بني المغيرة . فقال بنو المغيرة : والله ما نعطي الرِّبا في الإسلام ، وقد وضعه الله تعالى عن المؤمنين ، فاختصموا إلى عتَّاب بن أسيد ، فكتب عتَّابٌ - وكان عامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقصة الفريقين ، وكان ذلك مالاً عظيماً ؛ فنزلت الآية{[4743]} .
الثالثة : قال عطاء ، وعكرمة : نزلت في العباس بن عبد المطَّلب ، وعثمان بن عفَّان - رضي الله عنهما - وكانا قد أسلفا في التمر ، فلما حضر الجذاذ ، قال لهما صاحب التمر : إن أنتما أخذتما حقكما ، لا يبقى لي ما يكفي عيالي ! فهل لكما أن تأخذا النصف ، وتؤخِّرا النّصف ؛ وأضعف لكما ؟ ففعلا ، فلما جاء الأجل ، طلبا الزيادة ، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنهاهما فأنزل الله هذه الآية ؛ فسمعا وأطاعا وأخذا رؤوس أموالهما{[4744]} .
الرابعة : قال السُّدِّيُّ : نزلت في العباس ، وخالد بن الوليد ، وكانا شريكين في الجاهلية ، يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عميرٍ ، وناسٍ من ثقيف ، فجاء الإسلام ولهما أموالٌ عظيمةٌ في الربا ؛ فأنزل الله هذه الآية{[4745]} . فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في " حجةِ الوَدَاعِ " في خطبته يوم عرفة " أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِي مَوْضُوعٌ ، ودِمَاءُ الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ ، وإنَّ أَوَّلَ دَم أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابنِ رَبِيعَةَ بن الحَارِثِ ، كان مُسْتَرْضعاً في بني سعدٍ ؛ فقَتَلَه هُذيْلٌ ، وَرِبَا الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ ، وأَوَلُّ رِباً أَضَعُ رِبَا العباسِ بنِ عَبْد المطلبِ ؛ فإنه مَوْضُوعٌ كُلُّه{[4746]} " .
القاضي{[4747]} قوله : { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } يدلُّ على أنَّ الإيمان لا يتكامل إذا أصرَّ الإنسان على الكبائر ، ولا يصير الإنسان مؤمناً على الإطلاق ، إلاَّ إذا اجتنب كل الكبائر .
والجواب : لمَّا دلَّت الدلائل الكثيرة المذكورة في قوله تعالى : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } [ البقرة :3 ] على أنَّ العمل خارج عن مسمَّى الإيمان ، كانت هذه الآية محمولةً على كمال الإِيمان وشرائعه ، فكان التقدير : إن كنتم عاملين بمقتضى شرائع الإيمان ، وهذا وإن كان تركاً للظاهر لكنا ذهبنا إليه ؛ لتلك الدلائل .