الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَوٰٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (278)

قوله تعالى : { وَذَرُواْ } : فُتِحَتِ العينُ من " ذَرْ " حَمْلاً على " دَعْ " إذ هو بمعناه ، وفُتِحَتْ في " دَعْ " لأنه أمْرٌ من " يَدَعُ " وفُتِحَتْ من " يَدَعُ " وإنْ كان قياسُها الكسرَ لكونِ الفاءِ واواً كيَعِدُ لكونِ لامِهِ حرفَ حلقٍ .

ووزنُ " ذروا " : عَلوا لأنَّ المحذوفَ الفاءُ لا يُستعمل منه ماضٍ إلاَّ في لُغَيَّة ، وكذلك " دَعْ " .

وقرأ الحسن : " ما بَقَا " بقلبِ الكسرةِ فتحةً والياءِ الفاً ، وهي لغةٌ لطيء ولغيرِهِم ، ومنه قولُ علقمة التميمي :

زَهَا الشوقُ حتى ظَلَّ إنسانُ عينِهِ *** يَفِيضُ بمغمورٍ من الدَّمْعِ مُتْأَقِ

وقال الآخر :

وما الدُّنيا بباقاةٍ علينا *** وما حَيٌّ على الدنيا بباقِ

ويَقُولون في الناصيةِ : ناصاةٌ . وقرأ الحسنُ أيضاً : " بَقِيْ " بتسكين الياء ، قال المبرد : " تسكينُ ياءِ المنقوصِ في النصب مِنْ أحسنِ الضرورةِ ، هذا مع أنه مُعربٌ فهو في الفعلِ الماضي أحسنُ " قلت : وإذا كانوا قد حَذَفوها من الماضي صحيحَ الآخرَ فَأَوْلى من حرفِ العلةِ ، قال :

إنما شِعْرِيَ قَيْدٌ *** قد خُلْطَ بجُلْجُلانْ

وقال جرير في تسكينِ الياء :

هو الخليفةُ فارضُوا ما رَضِيْ لكمُ *** ماضي العزيمةِ ما في حُكْمِهِ جَنَفُ

وقال آخر :

لَعَمْرُكَ لا أخشى التَّصَعْلكَ ما بقِي *** على الأرضِ قَيْسِيٌّ يسوق الأباعرا

قوله : { مِنَ الرِّبَا } متعلِّقٌ ببقيَ كقولهم : " بَقِيَتْ منه بقيةٌ " ، والذي يظهر أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من فاعلِ " بقَى " ، أي : الذي بقي حالَ كونِهِ بعضَ الربا ، فهي تبعيضيةٌ .

ونَقَل ابنُ عطية هنا أنَّ العدويَّ - وهو أبو السَّمَّال - قرأ " من الرِّبُو " بتشديدِ الراء مكسورةً ، وضمِّ الباءِ بعدَها واوٌ . قلت : قد قَدَّمْتُ أن أبا السَّمَّال إنما قرأ " الربا " في أولِ الآيةِ بواوٍ بعد فتحةِ الباءِ ، وأنَّ أبا زيدٍ حَكَى عن بعضِهم أنه ضَمَّ الباءَ ، وقدَّمْتُ تخريجَهما على ضعفه .

وقال ابن جني : " شَذَّ هذا الحرفُ في أَمْرين ، أحدُهما : الخروجُ من الكسرِ إلى الضم بناءً لازماً ، والآخر : وقوعُ الواوِ بعدَ الضمةِ في آخرِ الاسمِ ، وهذا شيءٌ لم يأتِ إلا في الفعلِ نحو :/ يَغْزُو وَيَدْعُو ، وأَمَّا " ذو " الطائية بمعنى الذي فشاذةٌ جداً ، ومنهم مَنْ يُغَيِّرُ واوَها إذا فارَقَ الرفعَ ، فيقولُ : " رأيتُ ذا قام " ، ووجهُ القراءةِ أنه لمَّا فَخَّم الألفَ انتحى بها الواوَ التي الألفُ بدلٌ منها ، على حَدِّ قولهم : الصلاةُ والزكاةُ ، وهي بالجملةِ قراءةٌ شاذةٌ " . قلت : غيرُهُ يقيِّدُ العبارَةَ فيقولُ : " ليسَ في الأسماء المُعْرَبَةِ واوٌ قَبْلَهَا ضمةٌ " حتى يُخرجُ عنه " ذو " بمعنى الذي و " هو " من الضمائر ، وابنُ جني لم يَذْكِر القيدَ استثنى " ذو الطائية " ويَرِدُ عليه نحو " هو " ، ويَرِدُ على العبارةِ " ذو " بمعنى صاحب فإنَّها معربةٌ آخرِها واوٌ بعدَ ضمةٍ .

وقد أُجيبَ عنه بأنها تتغيَّر إلى الألفِ والياءِ فلم يُبالَ بها ، وأيضاً فإنَّ ضمةَ الدالِ عارضةٌ ، إذ أصلُها الفتحُ ، وإنما ضُمَّت إتباعاً على ما قَرَّرتُهُ في إعرابِ الأسماءِ الستةِ في كتبِ النحوِ : وقوله : " بناءً لازماً " تحرُّزٌ من وجودِ الخروجِ من كسرٍ إلى ضم بطريقِ العَرَض نحو : الحِبُك فإنه من التداخُل ، ونحوُ : " الرِّدُءْ " موقوفاً عليه ، فالخروجُ من كسرٍ إلى ضَمٍّ في هاتين الكلمتينِ ليس بلازمٍ . وقوله : " مِنْهُم مَنْ يغيِّرُ واوَها " المشهورُ بناؤُهاعلى الواوِ مطلقاً ، وقد تُعْرَب كالتي بمعنى صاحب وأنشدوا :

فإمَّا كِرامٌ مُوسِرُون لَقِيتُهمُ *** فَحَسْبي من ذي عندَهم ما كَفانيا

ويُروى : " مِنْ ذو " على الأصلِ .

قوله : { إِن كُنْتُمْ } شرطٌ وجوابُه محذوفٌ عند الجمهورِ أي : فاتَّقُوا وذَروا ، ومتقدِّمٌ عند جماعةٍ . وقيل : " إنْ " هنا بمعنى إذ ، وهذا مردودٌ مرغوبٌ عنه . وقيل : يُراد بهذا الشرطِ هنا الاستدامةُ .