التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهٗا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهٗاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ} (15)

وبعد هذا الحديث عن حقيقة هذا الدين ، وعن حسن عاقبة الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ، جاء الحديث عن وجوب الإِحسان إلى الوالدين وعما يترتب عليه هذا الإِحسان من ثواب عظيم ، قال - تعالى - : { وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ . . . كَانُواْ يُوعَدُونَ } .

قال الإِمام ابن كثير : لما ذكر - تعالى - فى الآية الأولى التوحيد له ، وإخلاص العبادة والاستقامة إليه ، عطف ، بالوصية بالوالدين ، كما هو مقرون فى غير ما آية من القرآن ، كقوله : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً } وقال : { أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير } إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة .

وقوله - سبحانه - : { وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً } من الإِيصاء بالشئ بمعنى الأمر به . قال - تعالى - : { وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً } أى : أمرنى بالمحافظة على أدائهما .

وقوله : { إِحْسَاناً } قراءة عاصم وحمزة والكسائى . وقرأ غيرهم من بقية السبعة { حسنا } وعلى القراءتين فانتصابهما على المصدرية . أى : ووصينا الإِنسان وأمرناه بأن يحسن إلى والديه إحسانا أو حسنا ، بأن يقدم إليهما كل ما يؤدى إلى برهما وإكرامهما .

ويصح أن يكون وصينا بمعنى ألزمنا ، فيتعدى لاثنين ، فيكون المفعول الثانى منها ، قوله : { حْسَاناً } أو { حسنا } .

وقوله - سبحانه - : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } تعليل للإِيصاء المذكور ولفظ { كُرْهاً } قرئ بضم الكاف وفتحها ، وهما قراءتان سبعيتان ، قالوا : ومعناهما واحد كالضُّعف - بتشديد الضاد وفتحها أو ضمها - فهما لغتان بمعنى واحد .

وهذا اللفظ منصوب على الحال من الفاعل . أى : حملته أمة ذات كره . ووضعته ذات كره ، أو هو صفة لمصدر مقدر ، أى : حملته حملا ذا كره ، ووضعته كذلك .

ولا شك فى أن الأم تعانى فى أثناء حملها ووضعها لوليدها ، الكثير من المشاق والآلام والمتاعب . . فكان من الوفاء أن يقابل ذلك منها بالإِحسان والإِكرام .

وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - فى آية أخرى : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ } أى : حملته أمة ضعفا على ضعف ، لأن الحمل كلما تزايد وعظم فى بطنها ، ازداد ضعفها . .

وقوله - تعالى - : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } بيان لمدة الحمل والفطام ، والكلام على حذف مضاف . والفصال : مصدر فاصل ، وهو بمعنى الفطام ، وسمى الفطام فصالا ، لأن الطفل ينفصل عن ثدى أمه فى نهاية الرضاع .

أى : ومدة حمل الطفل مع مدة فصاله عن ثدى أمه ، ثلاثون شهرا .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : المراد بيان مدة الرضاع لا الفطام ، فكيف عبر عنه بالفصال . . . لما كان الرضاع يليه الفصال ويلابسه ، لأنه ينتهى به ويتم ، سمى فصالا . . . وفيه فائدة ، وهى الدلالة على الرضاع التام المنتهى بالفصال ووقته . .

وقال الشوكانى : وقد استدل بهذه الآية على أن أقل المل ستة أشهر ، لأن مدة الرضاع سنتان ، أى : مدة الرضاع الكامل ، كما فى قوله - تعالى - : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } فذكر - سبحانه - فى هذه الآية أقل مدة الحمل ، وأكثر مدة الرضاع .

وفى هذه الآية إشارة الى أن حق الأم ، آكد من حق الأب ، لأنها هى التى حملت وليدها بمشقة ووضعته بمشقة ، وأرضعته هذه المدة بتعب ونصب .

.

وقوله - تعالى - : { حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ . . } غاية لمحذوف يفهم من سياق الكلام .

والأشد : قوة الإِنسان واشتعال حرارته ، من الشدة بمعنى القوة والارتفاع . يقال : شد النهار ، إذا ارتفع ، وهو مفرد جاء بصيغة الجمع ، ولا واحد له من لفظه .

والمراد ببلوغ أشده : أن يصل سنه على الراجح - إلى ثلاث وثلاثين سنة .

وقوله : { أوزعني } أى : رغبنى ووفقنى ، من قولك : أوزعت فلانا بكذا ، إذا أغريته وحببته فى فعله . أى : هذا الإِنسان بعد أن بقى فى بطن أمه ما بقى ، وبعد أن وضعته وأرضعته وفطمته وتولته برعايتها ، واستمرت حياته " حتى إذا بلغ اشده " أى : حتى إذا بلغ زمن استكمال قوته ، وبلغ أربعين سنة وهى تمام اكتمال العقل والقوة والفتوة .

{ قَالَ } على سبيل الشكر لخالقه { رَبِّ أوزعني . . . } أى : يا رب وقفنى وألهمنى { أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ } بأن وفقتنى ووفقتهما إلى صراطك المستقيم ، وبأن رزقتها العطف علىَّ ، ورزقنى الشكر لها ، ووفقنى - أيضا - { وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ } منى ، وتقبله عندك { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي } أى : واجعل - يا إلهى - الصلاح راسخا فى ذريتى ، وساريها فيها ، لأن صلاح الذرية فيه السعادة الغامرة للآباء .

{ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ } توبة صادقة نصوحا وإنى من المسلمين الذين أخلصوا نفسوهم لطاعتك ، وقلوبهم لمرضاتك .

فأنت ترى ان الآية الكريمة قد اشتملت على أسمى ألوان الدعوات ، التى عن طريق إجابتها تتحق السعادة الدنيوية والأخروية .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى " فى " فى قوله : { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي } ؟ قلت : معناه أن يجعل ذريته موقعا للصلاح ومظنته ، كأنه قال هب : لى الصلاح فى ذريتى ، وأوقعه فيهم .

وفى الآية الكريمة تنبيه للعقلاء ، إلى أن شأنهم - خصوصا عند بلوغ سن الأربعين . أن يكثروا من التضرع إلى الله بالدعاء ، وأن يتزودوا بالعمل الصالح ، فإنها السن التى بعث الله - تعالى - فيها معظم الأنبياء ، والتى فيها يكتمل العقل ، وتستجمع القوة ، ويرسخ فيها خلق الإِنسان الذى تعوده وألفه ورحم الله القائل :

إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن . . . له دون ما يهوى حياء ولا ستر

فدعه ولا تنفس عليه الذى مضى . . . وإن جر أسباب الحاية له العمر

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهٗا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهٗاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ} (15)

15

ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا . .

فهي وصية لجنس الإنسان كله ، قائمة على أساس إنسانيته ، بدون حاجة إلى أية صفة أخرى وراء كونه إنسانا . وهي وصية بالإحسان مطلقة من كل شرط ومن كل قيد . فصفة الوالدية تقتضي هذا الإحسان بذاتها ، بدون حاجة إلى أية صفة أخرى كذلك . وهي وصية صادرة من خالق الإنسان ، وربما كانت خاصة بهذا الجنس أيضا . فما يعرف في عالم الطير أو الحيوان أو الحشرات وما إليها أن صغارها مكلفة برعاية كبارها . والمشاهد الملحوظ هو فقط تكليف فطرة هذه الخلائق أن ترعى كبارها صغارها في بعض الأجناس . فهي وصية ربما كانت خاصة بجنس الإنسان .

وتتكرر في القرآن الكريم وفي حديث الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] الوصية بالإحسان إلى الوالدين . ولا ترد وصية الوالدين بالأولاد إلا نادرة ، ولمناسبة حالات معينة . ذلك أن الفطرة وحدها تتكفل برعاية الوالدين للأولاد ، رعاية تلقائية مندفعة بذاتها لا تحتاج إلى مثير . وبالتضحية النبيلة الكاملة العجيبة التي كثيرا ما تصل إلى حد الموت - فضلا على الألم - بدون تردد ، ودون انتظار عوض ، ودون من ولا رغبة حتى في الشكران ! أما الجيل الناشيء فقلما يتلفت إلى الخلف . قلما يتلفت إلى الجيل المضحي الواهب الفاني . لأنه بدوره مندفع إلى الأمام ، يطلب جيلا ناشئا منه يضحي له بدوره ويرعاه ! وهكذا تمضي الحياة !

والإسلام يجعل الأسرة هي اللبنة الأولى في بنائه ؛ والمحضن الذي تدرج فيه الفراخ الخضر وتكبر ؛ وتتلقى رصيدها من الحب والتعاون والتكافل والبناء . والطفل الذي يحرم من محضن الأسرة ينشأ شاذا غير طبيعي في كثير من جوانب حياته - مهما توفرت له وسائل الراحة والتربية في غير محيط الأسرة - وأول ما يفقده في أي محضن آخر غير محضن الأسرة ، هو شعور الحب . فقد ثبت أن الطفل بفطرته يحب أن يستأثر وحده بأمه فترة العامين الأولين من حياته . ولا يطيق أن يشاركه فيها أحد . وفي المحاضن الصناعية لا يمكن أن يتوفر هذا . إذ تقوم الحاضنة بحضانة عدة أطفال ، يتحاقدون فيما بينهم ، على الأم الصناعية المشتركة ، وتبذر في قلوبهم بذرة الحقد فلا تنمو بذرة الحب أبدا . كذلك يحتاج الطفل إلى سلطة واحدة ثابتة تشرف عليه فترة من حياته كي يتحقق له ثبات الشخصية . وهذا ما لا يتيسر إلا في محضن الأسرة الطبيعي . فأما في المحاضن الصناعية فلا تتوفر السلطة الشخصية الثابتة لتغير الحاضنات بالمناوبة على الأطفال . فتنشأ شخصياتهم مخلخلة ، ويحرمون ثبات الشخصية . . والتجارب في المحاضن تكشف في كل يوم عن حكمة أصيلة في جعل الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع السليم ، الذي يستهدف الإسلام إنشاءه على أساس الفطرة السليم .

ويصور القرآن هنا تلك التضحية النبيلة الكريمة الواهبة التي تتقدم بها الأمومة ، والتي لا يجزيها أبدا إحسان من الأولاد مهما أحسنوا القيام بوصية الله في الوالدين :

( حملته أمه كرها ، ووضعته كرها ، وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) . .

وتركيب الألفاظ وجرسها يكاد يجسم العناء والجهد والضنى والكلال : ( حملته أمه كرها . ووضعته كرها ) . . لكأنها آهة مجهد مكروب ينوء بعبء ويتنفس بجهد ، ويلهث بالأنفاس ! إنها صورة الحمل وبخاصة في أواخر أيامه ، وصورة الوضع وطلقه وآلامه !

ويتقدم علم الأجنة فإذا به يكشف لنا في عملية الحمل عن جسامة التضحية ونبلها في صورة حسية مؤثرة . .

إن البويضة بمجرد تلقيحها بالخلية المنوية تسعى للالتصاق بجدار الرحم . وهي مزودة بخاصية أكالة . تمزق جدار الرحم الذي تلتصق به وتأكله ؛ فيتوارد دم الأم إلى موضعها ، حيث تسبح هذه البويضة الملقحة دائما في بركة من دم الأم الغني بكل ما في جسمها من خلاصات ؛ وتمتصه لتحيا به وتنمو . وهي دائمة الأكلان لجدار الرحم . دائمة الامتصاص لمادة الحياة . والأم المسكينة تأكل وتشرب وتهضم وتمتص ، لتصب هذا كله دما نقيا غنيا لهذه البويضة الشرهة النهمة الأكول ! وفي فترة تكوين عظام الجنين يشتد امتصاصه للجير من دم الأم فتفتقر إلى الجير . ذلك أنها تعطي محلول عظامها في الدم ليقوم به هيكل هذا الصغير ! وهذا كله قليل من كثير !

ثم الوضع ، وهو عملية شاقة ، ممزقة ، ولكن آلامها الهائلة كلها لا تقف في وجه الفطرة ولا تنسي الأم حلاوة الثمرة . ثمرة التلبية للفطرة ، ومنح الحياة نبتة جديدة تعيش ، وتمتد . . بينما هي تذوي وتموت !

ثم الرضاع والرعاية . حيث تعطي الأم عصارة لحمها وعظمها في اللبن ، وعصارة قلبها وأعصابها في الرعاية . وهي مع هذا وذلك فرحة سعيدة رحيمة ودود . لا تمل أبدا ولا تكره تعب هذا الوليد . وأكبر ما تتطلع إليه من جزاء أن تراه يسلم وينمو . فهذا هو جزاؤها الحبيب الوحيد !

فأنى يبلغ الإنسان في جزاء هذه التضحية ، مهما يفعل . وهو لا يفعل إلا القليل الزهيد ?

وصدق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقد جاءه رجل كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها ، فسأل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] هل أديت حقها ? فأجابه : " لا ، ولا بزفرة واحدة " .

ويخلص من هذه الوقفة أمام الوصية بالوالدين ، واستجاشة الضمائر بصورة التضحية النبيلة ممثلة في الأم ، إلى مرحلة النضج والرشد ، مع استقامة الفطرة ، واهتداء القلب :

( حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال : رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي ، وأن أعمل صالحا ترضاه ، وأصلح لي في ذريتي ، إني تبت إليك ، وإني من المسلمين ) . .

وبلوغ الأشد يتراوح بين الثلاثين والأربعين . والأربعون هي غاية النضج والرشد ، وفيها تكتمل جميع القوى والطاقات ، ويتهيأ الإنسان للتدبر والتفكر في اكتمال وهدوء . وفي هذه السن تتجه الفطرة المستقيمة السليمة إلى ما وراء الحياة وما بعد الحياة . وتتدبر المصير والمآل .

ويصور القرآن هنا خوالج النفس المستقيمة ، وهي في مفرق الطريق ، بين شطر من العمر ولى ، وشطر يكاد آخره يتبدى . وهي تتوجه إلى الله :

( رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي ) . .

دعوة القلب الشاعر بنعمة ربه ، المستعظم المستكثر لهذه النعمة التي تغمره وتغمر والديه قبله فهي قديمة العهد به ، المستقل المستصغر لجهده في شكرها . يدعو ربه أن يعينه بأن يجمعه كله : ( أوزعني ) . . لينهض بواجب الشكر ؛ فلا يفرق طاقته ولا اهتمامه في مشاغل أخرى غير هذا الواجب الضخم الكبير .

( وأن أعمل صالحا ترضاه ) . .

وهذه أخرى . فهو يطلب العون للتوفيق إلى عمل صالح ، يبلغ من كماله وإحسانه أن يرضاه ربه . فرضى ربه هو الغاية التي يتطلع إليها . وهو وحده الرجاء الذي يأمل فيه .

( وأصلح لي في ذريتي ) . .

وهذه ثالثة . وهي رغبة القلب المؤمن في أن يتصل عمله الصالح في ذريته . وأن يؤنس قلبه شعوره بأن في عقبه من يعبد الله ويطلب رضاه . والذرية الصالحة أمل العبد الصالح . وهي آثر عنده من الكنوز والذخائر . وأروح لقلبه من كل زينة الحياة . والدعاء يمتد من الوالدين إلى الذرية ليصل الأجيال المتعاقبة في طاعة الله .

وشفاعته إلى ربه . شفاعته التي يتقدم بها بين يدي هذا الدعاء الخالص لله ، هي التوبة والإسلام :

( إني تبت إليك وإني من المسلمين ) . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهٗا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهٗاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ} (15)

وقوله تعالى : { ووصينا الإنسان بوالديه } يريد النوع ، أي هكذا مضت شرائعي وكتبي لأنبيائي ، فهي وصية من الله في عباده .

وقرأ جمهور القراء : «حُسْناً » بضم الحاء وسكون السين ، ونصبه على تقدير وصيناه ليفعل أمراً ذا حسن ، فكأن الفعل تسلط عليه مفعولاً ثانياً . وقرأ علي بن أبي طالب وأبو عبد الرحمن وعيسى : «حَسَناً » بفتح الحاء والسين ، وهذا كالأول ومحتمل كونهما مصدرين كالبُخل والبَخل{[10302]} ، ومحتمل ، أن يكون هذا الثاني اسماً لا مصدراً ، أي ألزمناه بهما فعلاً حسناً{[10303]} . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «إحساناً » ، ونصب هذا على المصدر الصريح والمفعول الثاني في المجرور ، والباء متعلقة ب { وصينا } أو بقوله : «إحساناً »{[10304]} .

وبر الوالدين واجب بهذه الآية وغيرها ، وعقوقهما كبيرة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : كل شيء بينه وبين الله حجاب إلا شهادة أن لا إله إلا الله ودعوة الوالدين{[10305]} .

قال القاضي أبو محمد : : ولن يدعوا إلا إذا ظلمهما الولد ، فهذا الحديث في عموم قوله عليه السلام : «اتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب »{[10306]} .

ثم عدد تعالى على الأبناء منن الأمهات وذكر الأم في هذه الآيات في أربع مراتب ، والأب في واحدة ، جمعهما الذكر في قوله : { بوالديه } ، ثم ذكر الحمل للأم ثم الوضع لها ثم الرضاع الذي عبر عنه بالفصال ، فهذا يناسب ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جعل للأم ثلاثة أرباع البر ، والربع للأب ، وذلك إذ قال له رجل : يا رسول الله من أبر ؟ «قال : أمك ، قال ثم من ؟ قال : ثم أمك ، قال ثم من ؟ قال : ثم أمك ، قال ثم من ؟ قال : أباك »{[10307]} .

وقوله : { كرهاً } معناه في ثاني استمرار الحمل حين تتوقع حوادثه ، ويحتمل أن يريد في وقت الحمل ، إذ لا تدبير لها في حمله ولا تركه ، وقال مجاهد والحسن وقتادة : المعنى حملته مشقة ووضعته مشقة .

وقرأ أكثر القراء : «كُرهاً » بضم الكاف . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة والأعرج : «كَرهاً » بفتح الكاف ، وقرأ بهما معاً مجاهد وأبو رجاء وعيسى . قال أبو علي وغيره : هما بمعنى ، الضم الاسم ، والفتح المصدر . وقالت فرقة : الكره بالضم : المشقة ، والكره بالفتح هو الغلبة والقهر ، وضعفوا على هذا قراءة الفتح . قال بعضهم : لو كان «كَرهاً » لرمت به عن نفسها ، إذ الكره القهر والغلبة ، والقول الذي قدمناه أصوب .

وقرأ جمهور الناس : «وفصاله » وذلك أنها مفاعلة من اثنين ، كأنه فاصل أمه وفاصلته . وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري : «وفصله » ، كأن الأم هي التي فصلته .

وقوله : { ثلاثون شهراً } يقتضي أن مدة الحمل والرضاع هذه المدة ، لأن في القول حذف مضاف تقديره : ومدة حمله وفصاله ، وهذا لا يكون إلا بأن يكون أحد الطرفين ناقصاً ، وذلك إما بأن تلد المرأة لستة أشهر وترضع عامين ، وإما بأن تلد لتسعة على العرف وترضع عامين غير ربع العام ، فإن زادت مدة الحمل نقصت مدة الرضاع ، وبالعكس فيترتب من هذا أن أقل مدة الحمل ستة أشهر .

وأقل ما يرضع الطفل عام وتسعة أشهر ، وإكمال العامين هو لمن أراد أن يتم الرضاعة ، وهذا في أمر الحمل هو مذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجماعة من الصحابة ومذهب مالك رحمه الله .

واختلف الناس في الأشد : فقال الشعبي وزيد بن أسلم : البلوغ إذا كتبت عليه السيئات وله الحسنات . وقال ابن إسحاق : ثمانية عشر عاماً ، وقيل عشرون عاماً ، وقال ابن عباس وقتادة : ثلاثة وثلاثون عاماً ، وقال الجمهور من النظار : ثلاثة وثلاثون . وقال هلال بن يساف وغيره : أربعون ، وأقوى الأقوال ستة وثلاثون ، ومن قال بالأربعين قال في الآية إنه أكد وفسر الأشد بقوله : { وبلغ أربعين سنة } .

قال القاضي أبو محمد : وإنما ذكر تعالى الأربعين ، لأنها حد للإنسان في فلاحه ونجابته ، وفي الحديث : «إن الشيطان يجر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب فيقول : بأبي وجه لا يفلح »{[10308]} وقال أيمن بن خريم الأسدي : [ الطويل ]

إذا المرء وفّى الأربعين ولم يكنْ . . . له دون ما يأتي حياء ولا ستر

فدعه ولا تنفس عليه الذي ارتأى . . . وإن جر أسباب الحياة له العمر{[10309]}

وفي مصحف ابن مسعود : «حتى إذا استوى أشده وبلغ أربعين سنة »{[10310]} وقوله : { أوزعني } معناه : ادفعني عن الموانع وازجرني عن القواطع لأجل أن أشكر نعمتك{[10311]} ، ويحتمل أن يكون { أوزعني } بمعنى اجعل حظي ونصيبي ، وهذا من التوزيع والقوم الأوزاع ، ومن قوله توزعوا المال ، ف «أن » على هذا مفعول صريح . وقال ابن عباس { نعمتك } في التوحيد . و : { صالحاً ترضاه } الصلوات . والإصلاح في الذرية كونهم أهل طاعة وخيرية ، وهذه الآية معناها أن هكذا ينبغي للإنسان أن يفعل ، وهذه وصية الله للإنسان في كل الشرائع .

وقال الطبري : وذُكر أن هذه الآية من أولها نزلت في شأن أبي بكر الصديق ، ثم هي تتناول من بعده ، وكان رضي الله عنه قد أسلم أبواه ، فلذلك قال : { وعلى والدي } ، وفي هذا القول اعتراض بأن هذه الآية نزلت بمكة لا خلاف في ذلك ، وأبو قحافة أسلم عام الفتح فإنما يتجه هذا التأويل على أن أبا بكر كان يطمع بإيمان أبويه ويرى مخايل ذلك فيهما ، فكانت هذه نعمة عليهما أن ليسا ممن عسى{[10312]} في الكفر ولج وحتم عليه ثم ظهر إيمانهما بعد ، والقول بأنها عامة في نوع الإنسان لم يقصد بها أبو بكر ولا غيره أصح{[10313]} ، وباقي الآية بين إلى قوله : { من المسلمين } .


[10302]:مثل: الشُّغل والشَّغل، ذكر ذلك أبو الفتح في المحتسب.
[10303]:قال ابن جني: فهو اسم صفة لا مصدر، ونصبه(وصيناه به)؛ لأنه يفيد مفاد: ألزمناه الحسن في أبويه، وإن شئت قلت: هو منصوب بفعل غير هذا، لا بنفس هذا، فيكون منصوبا بنفس ألزمناه، لا بنفس وصيناه؛ لأنه في معناه.
[10304]:يرفض أبو حيان في البحر ذلك ويقول:"لا يصح أن يتعلق بـ[إحسانا]؛ لأنه مصدر بحرف مصدري والفعل؛ فلا يتقدم معموله عليه، ولأن"أحسن" لا يتعدى بالباء، إنما يتعدى باللام؛ تقول: أحسنت لزيد، ولا تقول: أحسنت بزيد على معنى أن الإحسان يصل إليه".
[10305]:وروى أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:(ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده)، أما الحديث بهذا اللفظ الذي ذكره المؤلف فقد رواه ابن النجار عن أنس رضي الله عنه، وقد ذكره الإمام السيوطي في الجامع الصغير، ورمز له بأنه ضعيف.
[10306]:أخرجه البخاري في الجهاد والزكاة والمظالم والمغازي، ومسلم في الإيمان، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي في الزكاة، ومالك في موطئه في دعوة المظلوم، وأحمد في مسنده(1-322،3-153)، ولفظه كما جاء في البخاري في كتاب المظالم، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال:(اتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب).
[10307]:رواه البخاري ومسلم، واللفظ فيهما:(من أحق الناس بحسن صحابتي؟).
[10308]:لم أقف على هذا الحديث، ولم يذكره من المفسرين في هذا الموقع غير ابن عطية إلا صاحب البحر المحيط.
[10309]:أيمن بن خريم بن فاتك الأسدي، له ترجمة في الأغاني، والإصابة، وتهذيب ابن عساكر، ومعنى "وفّى الأربعين": أكملها، و"ما يأتي": ما يفعل من الأشياء، يفعل ما يريد دون خجل أو تستر من الناس، ولا تنفس عليه، أي لا تحسده على ما ارتضى لنفسه من الأمور مهما طال عمره.
[10310]:قال الفراء:"والمعنى فيه كالمعنى في قراءتنا؛ لأنه جائز في العربية أن تقول: لما وُلد لك وأدركت مدرك الرجال عققت وفعلت، والإدراك قبل الولادة".
[10311]:من ذلك قول النابغة الذبياني: على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألما أصح والشيب وازع؟ وقول الآخر: ولما تلاقينا جرت من جفوننا دموع وزعنا غربها بالأصابع فإن المعنى فيهما الكف والدفع، ولكن الطبري يرى أن المعنى: أغرني بشكر نعمتك التي أنعمت عليّ في تعريفك إياي توحيدك وهدايتك لي للاقرار بذلك، وأصله من "وزعت الرجل على كذا، إذا دفعته عليه"، وقال القرطبي: أوزعني: ألهمني.
[10312]:عسى هنا بمعنى كبِر، جاء في اللسان:"عسا الشيخ يعسو….:كبِر، مثل عتا، ويقال للشيخ إذا ولى وكبر: عتا يعتو عتيا، وعسا يعسو مثله".
[10313]:في الآية ثلاثة أقوال: الأول أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد ذكر ذلك الواحدي في "أسباب النزول" من رواية عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما بدون سند، وقال السيوطي في "الدر المنثور":"أخرج ابن عساكر من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنهما...، والثاني أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، والثالث أنها عامة، وهذا ما رجحه المؤلف رحمه الله.