ثم حرضهم - سبحانه - على التوبة النصوح ، وحثهم على بذل الصدقات فقال : { أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات . . . } .
أى : ألم يعلم هؤلاء التائبون من ذنوبهم ، أن الله - تعالى - وحده ، هو الذي يقبل التوبة الصادقة من عباده المخلصين ، وأنه - سبحانه - هو الذي " يأخذ الصدقات " .
أى : يتقبلها من أصحابها قبول من يأخذ شيئا ليؤدى بدله : فالتعبير بالأخذ للترغيب في بذل الصدقات ، ودفعها للفقراء . والاستفهام للتقرير والتحضيض على تجديد التوبة وبذل الصدقة .
وقوله : { وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم } تذييل قصد به تقرير ما قبله وتأكيده .
أى : وأن الله وحده هو الذي يقل توبة المرة بعد الأخرى ، وأنه هو الواسع الرحمة بهم ، الكثير المغفرة لهم :
قال ابن كثير : قوله : { أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات } هذا تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كل منهما يحط الذنوب ويمحقها ، وأخبر - تعالى - أن كل من تاب إليه تاب عليه ، ومن تصدق بصدقة من كسب حلال فإن الله يتقبلها بيمينه ، فيربيها لصاحبها حتى تصير الثمرة مثل أحد ، كل جاء بذلك الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
فعن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربى أحدكم مهره ، حتى إن اللقمة لتكون مثل أحد " وتصديق ذلك في كتاب الله قوله : { أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات } . وقوله : { يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات } وعن عبد الله بن مسعود قال : إن الصدقة تقع في يد الله - تعالى - قبل أن تقع في يد السائل ، ثم قرأ هذه الآية . { أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات . . . } .
وتقريراً لهذه الحقيقة يقول تعالى في الآية التالية :
( ألم يعلموا أن اللّه هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ، وأن اللّه هو التواب الرحيم ? ) .
وهو استفهام تقريري يفيد : فليعلموا أن اللّه هو يقبل التوبة ؛ واللّه هو يأخذ الصدقة ، واللّه هو يتوب ويرحم عباده . . وليس شيء من هذا لأحد غيره سبحانه . . " وأن نبي اللّه حين أبي أن يطلق من ربط نفسه بالسواري من المتخلفين عن الغزو معه ؛ وحين ترك قبول صدقتهم بعد أن أطلق اللّه عنهم حين أذن له في ذلك ، إنما فعل ذلك من أجل أن ذلك لم يكن إليه - [ ص ] - وأن ذلك إلى اللّه تعالى ذكره دون محمد . وان محمداً إنما يفعل ما يفعل من ترك وإطلاق وأخذ صدقة وغير ذلك من أفعاله بأمر اللّه " . . كما يقول ابن جرير . .
{ ألم يعلموا } الضمير إما للمتوب عليهم والمراد أن يمكن في قلوبهم قبول توبتهم والاعتداد بصدقاتهم ، أو لغيرهم والمراد به التحضيض عليهما . { أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } إذا صحت وتعديته ب { عن } لتضمنه معنى التجاوز . { ويأخذ الصدقات } يقبلها قبول من يأخذ شيئا ليؤدي بدله . { وأن الله هو التواب الرحيم } وأن من شأنه قبول توبة التائبين والتفضل عليهم .
قرأ جمهور الناس «ألم يعلموا » على ذكر الغائب ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن بخلاف عنه «ألم تعلموا » على معنى قل لهم يا محمد «ألم تعلموا » ، وكذلك هي في مصحف أبي بن كعب بالتاء من فوق ، والضمير في { يعلموا } قال ابن زيد : يراد به الذين لم يتوبوا من المتخلفين ، وذلك أنهم لما ِتيب على بعضهم قال الغير ما هذه الخاصة التي خص بها هؤلاء ؟ فنزلت هذه الآية ، ويحتمل أن يكون الضمير في { يعلموا } يراد به الذين تابوا وربطوا أنفسهم ، وقوله هو تأكيد لانفراد الله بهذه الأمور وتحقيق لذلك ، لأنه لو قال إن الله يقبل التوبة لاحتمل ، ذلك أن يكون قبوله رسوله قبولاً منه فبينت الآية أن ذلك مما لا يصل إليه نبي ولا ملك ، وقوله { ويأخذ الصدقات } معناه يأمر بها ويشرعها كما تقول أخذ السلطان من الناس كذا إذا حملهم على أدائه .
وقال الزجّاج : معناه ويقبل الصدقات ، وقد وردت أحاديث في أخذ الله صدقة عبيده ، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه عبد الله بن أبي قتادة المحاربي عن ابن مسعود عنه : «إن العبد إذا تصدق بصدقة وقعت في يد الله قبل أن تقع في يد السائل »{[5878]} ، ومنها قوله الذي رواه أبو هريرة : «إن الصدقة تكون قدر اللقمة يأخذها الله بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل »{[5879]} ، ونحو هذا من الأحاديث التي هي عبارة عن القبول والتحفي بصدقة العبد ، فقد يحتمل أن تخرج لفظة { ويأخذ } على هذا ، ويتعلق بهذه الآية القول في قبول التوبة ، وتلخيص ذلك أن قبول التوبة من الكفر يقطع به عن الله عز وجل إجماعاً ، وهذه نازلة هذه الآية ، وهذه الفرقة التائبة من النفاق تائبة من كفر ، وأما قبول التوبة من المعاصي فيقطع بأن الله تعالى يقبل من طائفة من الأمة توبتهم ، واختلف هل تقبل توبة الجميع ، وأما إذا عين إنسان تائب فيرجى قبول توبته ولا يقطع بها على الله ، وأما إذا فرضنا تائباً غير معين صحيح التوبة فهل يقطع على الله بقبول توبته أم لا ، فاختلف فقالت فرقة فيها الفقهاء والمحدثون - وهو كان مذهب أبي رضي الله عنه{[5880]} - يقطع على الله بقبول توبته لأنه تعالى أخبر بذلك عن نفسه ، وعلى هذا يلزم أن تقبل توبة جميع التائبين ، وذهب أبو المعالي وغيره من الأئمة إلى أن ذلك لا يقطع به على الله تعالى بل يقوى فيه الرجاء ، ومن حجتهم أن الإنسان إذا قال في الجملة إني لا أغفر لمن ظلمني ثم جاء من قد سبه وآذاه فله تعقب حقه ، وبالغفران لقوم يصدق وعده ولا يلزمه الغفران لكل ظالم .
قال القاضي أبو محمد : ونحو هذا من القول ، والقول الأول أرجح والله الموفق للصواب ، وقوله تعالى { عن عباده } هي بمعنى «من » وكثيراً ما يتوصل في موضع واحد بهذه وهذه ، تقول لا صدقة إلا عن غنى ومن غنى ، وفعل فلان ذلك من أشره وبطره وعن أشره وبطره{[5881]} ، وقوله تعالى { ألم يعلموا } تقرير ، والمعنى حق لهم أن يعلموا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.