وقد رد عليهم إبراهيم - عليه السلام - ردا حاسما يدل على قوة يقينه فقال : " بل ربكم رب السموات والأرض الذى فطرهن . . " .
أى : قال لهم إبراهيم بلغة الواثق بأنه على الحق : أنا لست هازلا فيما أقوله لكم ، وإنما أنا جاد كل الجد فى إخباركم أن الله - تعالى - وحده هو ربكم ورب آبائكم ، ورب السموات والأرض ، فهو الذى خلقهن وأنشأهن بما فيهن من مخلوقات بقدرته التى لا يعجزها شىء .
وقوله : { وَأَنَاْ على ذلكم مِّنَ الشاهدين } تذييل المقصود به تأكيد ما أخبرهم به ، وما دعاهم غليه . أى : وأنا على أن الله - تعالى - هو ربكم ورب كل شىء من الشاهدين ، الذين يثقون فى صدق ما يقولون ثقة الشاهد على شىء لا يشك فى صحته .
فأما إبراهيم فهو مستيقن واثق عارف بربه ، متمثل له في خاطره وفكره ، يقولها كلمة المؤمن المطمئن لإيمانه :
( قال : بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن ، وأنا على ذلكم من الشاهدين ) .
فهو رب واحد . رب الناس ورب السماوات والأرض . ربوبيته ناشئة عن كونه الخالق . فهما صفتان لا تنفكان : ( بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن ) . . فهذه هي العقيدة المستقيمة الناصعة ، لا كما يعتقد المشركون أن الآلهة أرباب ، في الوقت الذي يقرون أنها لا تخلق ، وأن الخالق هو الله . ثم هم يعبدون تلك الآلهة التي لا تخلق شيئا وهم يعلمون !
إنه واثق وثوق الذي يشهد على واقع لا شك فيه : ( وأنا على ذلكم من الشاهدين ) . . وإبراهيم - عليه السلام - لم يشهد خلق السماوات والأرض ، ولم يشهد خلق نفسه ولا قومه . . ولكن الأمر من الوضوح والثبوت إلى حد أن يشهد المؤمنون عليه واثقين . . إن كل ما في الكون لينطق بوحدة الخالق المدبر . وإن كل ما في كيان الإنسان ليهتف به إلى الإقرار بوحدانية الخالق المدبر ، وبوحدة الناموس الذي يدبر الكون ويصرفه .
{ قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ } أي : ربكم الذي لا إله غيره ، هو الذي خلق السموات [ والأرض ]{[19669]} وما حوت من المخلوقات الذي ابتدأ خلقهن ، وهو الخالق لجميع الأشياء { وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } أي : وأنا أشهد أنه لا إله غيره ، ولا رب سواه .
قوله تعالى : { وأنا على ذلكم من الشاهدين } إعلام لهم بأنه مُرسل من الله لإقامة دين التوحيد لأن رسول كلّ أمة شهيد عليها كما قال تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } [ النساء : 41 ] ، ولم يكن يومئذ في قومه من يشهد ببطلان إلهية أصنامهم ، فتعين أن المقصود من الشاهدين أنه بعض الذين شهدوا بتوحيد الله بالإلهية في مختلف الأزمان أو الأقطار .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال} إبراهيم: {بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن} يعني: الذي خلقهن. {وأنا على ذلكم} يعني: على ما أقول لكم {من الشاهدين} بأن ربكم الذي خلق السماوات والأرض.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال إبراهيم لهم: بل جئتكم بالحقّ لا اللعب، ربكم ربّ السموات والأرض الذي خلقهنّ، وأنا على ذلكم من أن ربكم هو ربّ السموات والأرض الذي فطرهنّ دون التماثيل التي أنتم لها عاكفون، ودون كلّ أحد سواه شاهد من الشاهدين، يقول: فإياه فاعبدوا، لا هذه التماثيل التي هي خلقه التي لا تضرّ ولا تنفع.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي ربكم رب السماوات والأرض الذي يعرف بالدلالات والبراهين وآثار الصنعة في غيره...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
و "فطرهن "معناه ابتدأهن، والفطر شق الشيء من أمر ظهر منه... ومنه تفطر الشجر بالورق، فكأن السماء تشق عن شيء فظهرت بخلقها.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
فأحالَهم على النظر والاستدلال والتعرُّف من حيث أدلة القول؛ لأنَّ إثباتَ الصانع لا يُعْرَفُ بالمعجزات، وإنما المعجزاتُ علم بصدق الأنبياء عليهم السلام، وذلك فرع لمعرفة الصانع.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(وأنا على ذلكم من الشاهدين) أي: على أنه الإله الذي لا يستحق العبادة غيره، وأن الأصنام ليست بآلهة.
اعلم أن القوم لما أوهموا أنه يمازح بما خاطبهم به في أصنامهم، أظهر عليه السلام ما يعلمون به أنه مجد في إظهار الحق الذي هو التوحيد، وذلك بالقول أولا وبالفعل ثانيا، أما الطريقة القولية فهي قوله: {بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن} وهذه الدلالة تدل على أن الخالق الذي خلقهما لمنافع العباد هو الذي يحسن أن يعبد؛ لأن من يقدر على ذلك يقدر على أن يضر وينفع في الدار الآخرة بالعقاب والثواب. فيرجع حاصل هذه الطريقة إلى الطريقة التي ذكرها لأبيه في قوله: {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا}...
أما قوله: {وأنا على ذلكم من الشاهدين} ففيه وجهان:
الأول: أن المقصود منه المبالغة في التأكيد والتحقيق كقول الرجل إذا بالغ في مدح أحد أو ذمه أشهد أنه كريم أو ذميم.
والثاني: أنه عليه السلام عنى بقوله: {وأنا على ذلكم من الشاهدين} ادعاء أنه قادر على إثبات ما ذكره بالحجة...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
والإشارة بقوله: {ذلكم} إلى ربوبيته تعالى ووصفه بالاختراع لهذا العالم و {من} للتبعيض أي الذين يشهدون بالربوبية كثيرون، وأنا بعض منهم، أي ما قلته أمر مفروغ منه عليه شهود كثيرون، فهو مقال مصحح بالشهود.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قال} بانياً على ما تقديره: ليس كلامي لعباً، بل هو جد، وهذه التماثيل ليست أرباباً {بل ربكم} الذي يستحق منكم اختصاصه بالعبادة {رب السماوات والأرض} أي مدبرهن القائم بمصالحهن {الذي فطرهن} أي أوجدهما وشق بهما ظلمة العدم، وأنتم وتماثيلكم مما فيهما من مصنوعاته أنتم تشهدون بذلك إذا رجعتم إلى عقولكم مجردة عن الهوى. {وأنا على ذلكم} الأمر البين من أنه ربكم وحده فلا تجوز عبادة غيره {من الشاهدين} أي الذين يقدرون على إقامة الدليل على ما يشهدون به لأنهم لم يشهدوا إلا على ما هو عندهم مثل الشمس، لا كما فعلتم أنتم حين اضطركم السؤال إلى الضلال.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ْ} فجمع لهم بين الدليل العقلي، والدليل السمعي. أما الدليل العقلي، فإنه قد علم كل أحد حتى هؤلاء الذين جادلهم إبراهيم، أن الله وحده، الخالق لجميع المخلوقات، من بني آدم، والملائكة، والجن، والبهائم، والسماوات، والأرض، المدبر لهن، بجميع أنواع التدبير، فيكون كل مخلوق مفطورا مدبرا متصرفا فيه، ودخل في ذلك، جميع ما عبد من دون الله. أفيليق عند من له أدنى مسكة من عقل وتمييز، أن يعبد مخلوقا متصرفا فيه، لا يملك نفعا، ولا ضرا، ولا موتا، ولا حياة، ولا نشورا، ويدع عبادة الخالق الرازق المدبر؟
أما الدليل السمعي: فهو المنقول عن الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإن ما جاءوا به معصوم لا يغلط ولا يخبر بغير الحق، ومن أنواع هذا القسم شهادة أحد من الرسل على ذلك،فلهذا قال إبراهيم: {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ ْ} أي: أن الله وحده المعبود وأن عبادة ما سواه باطل {مِنَ الشَّاهِدِينَ ْ} وأي شهادة بعد شهادة الله أعلى من شهادة الرسل؟ خصوصا أولي العزم منهم خصوصا خليل الرحمن.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنه واثق وثوق الذي يشهد على واقع لا شك فيه: (وأنا على ذلكم من الشاهدين).. وإبراهيم -عليه السلام- لم يشهد خلق السماوات والأرض، ولم يشهد خلق نفسه ولا قومه.. ولكن الأمر من الوضوح والثبوت إلى حد أن يشهد المؤمنون عليه واثقين.. إن كل ما في الكون لينطق بوحدة الخالق المدبر. وإن كل ما في كيان الإنسان ليهتف به إلى الإقرار بوحدانية الخالق المدبر، وبوحدة الناموس الذي يدبر الكون ويصرفه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{وأنا على ذلكم من الشاهدين} إعلام لهم بأنه مُرسل من الله لإقامة دين التوحيد؛ لأن رسول كلّ أمة شهيد عليها كما قال تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} [النساء: 41]، ولم يكن يومئذ في قومه من يشهد ببطلان إلهية أصنامهم، فتعين أن المقصود من الشاهدين أنه بعض الذين شهدوا بتوحيد الله بالإلهية في مختلف الأزمان أو الأقطار.