اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ بَل رَّبُّكُمۡ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا۠ عَلَىٰ ذَٰلِكُم مِّنَ ٱلشَّـٰهِدِينَ} (56)

فأجابهم بقوله -عليه السلام-{[28696]}

{ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض } الآية{[28697]} . قوله «بالحَقِّ » متعلق ب «جئت » ، وليس المراد به{[28698]} حقيقة المجيء إذ لم يكن غائباً{[28699]} . و «أَمْ أَنْتَ » «أَمْ » متصلة{[28700]} وإن كان بعدها جملة ، لأنها في حكم المفرد إذ التقدير : أي الأمرين واقع مجيئك بالحق أم لعلك كقوله :

3725- ما أُبَالِي أَنَبَّ بِالحَزْنِ تَيْسٌ *** أَمْ لَحَانِي{[28701]} بِظَهْرٍ غَيْبٍ لَئِيمُ{[28702]}

وقوله{[28703]} :

3726- لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي ، وَإِنْ كُنْتَ دَارِياً *** شُعَيْثُ بنُ سَهْمٍ أَمْ شُعَيْثُ بْنُ مِنْقَرِ{[28704]}

يريد : أي الأمرين واقع ، ولو كانت منقطعة لَقُدِّرَتْ ب ( بل ) والهمزة وليس ذلك مراداً . قوله : «الذي فَطَرَهُنَّ » يجوز أن يكون مرفوع الموضع أو منصوبه على القطع . والضمير المنصوب في «فَطَرَهُنَّ » للسموات والأرض{[28705]} . قال أبو حيان : ولما لم تكن السموت والأرض تبلغ في العدد الكثير منه جاء الضمير ضمير القلة{[28706]} . قال شهاب الدين : إن عنى لم تبلغ كل واحد من السموات والأرض فمسلم ولكنه غير مراد ، بل المراد المجموع ، وإن عنى لم تبلغ المجموع منهما فغير مسلم ، لأنه يبلغ أربع عشرة ، وهو فوق حد جمع الكثرة ، اللهم إلاَّ أنْ نقول{[28707]} : إنَّ الأرض شخص واحد وليست بسبع كالسماء على ما رآه بعضهم ، فيصح له ذلك ، ولكنه غير معول عليه{[28708]} . وقيل : على التماثيل{[28709]} .

قال الزمخشري : وكونه للتماثيل أثبت لتضليلهم وأدخل في الاحتجاج عليهم{[28710]} .

وقال ابن عطية : «فَطَرَهُنَّ » عبارة عنها كأنها تعقل ، وهذا من حيث لها طاعة وانقياد ، وقد وصفت في مواضع بوصف من يعقل . وقال غيره : «فَطَرَهُنَّ » أعاد ضمير من يعقل لما صدر منهن من الأحوال التي تدل على أنهما من قبيل مَنْ يعقل{[28711]} ، فإنَّ الله تعالى أخبر بقوله : { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ }{[28712]} وقوله -عليه السلام-{[28713]} «أطّتِ السماءُ وحقَّ لها أن تَئِطّ{[28714]} »{[28715]} قال شهاب الدين : كأنَّ ابن عطية وذا القائل توهما أنَّ ( هُنَّ ) من الضمائر المختصة بالمؤنثات العاقلات ، وليس كذلك بل هو لفظ مشترك بين العاقلات وغيرها قال تعالى : { مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ }{[28716]} ثم قال تعالى : { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ{[28717]} {[28718]} } .

قوله : { عَلَى ذَلِكُمْ } متعلق بمحذوف{[28719]} أو ب «الشَّاهدِينَ » اتساعاً{[28720]} ، أو على البيان{[28721]} ، وقد تقدم نظيره نحو { لَكُمَا لَمِنَ{[28722]} الناصحين{[28723]} } .

فصل{[28724]}

اعلم أنَّ القوم لمَّا أوهموه أنه كالمازح في ما خاطبهم به أمر أصنامهم أظهر ذلك بالقول أولاً ثم بالفعل ثانياً . أمَّا القول فهو قوله : { قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض } وهذا يدل على أنَّ الخالق الذي خلقها لمنافع العباد هو الذي يحسن أن يعبد لأن القادر على ذلك هو الذي يقدر على الضرر والنفع ، وهذه الطريقة هي نظير قوله : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ{[28725]} وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً }{[28726]} ، ثم قال : { وَأَنَاْ على ذلكم مِّنَ الشاهدين } أي : على أنه لا إله إلا الذي يستحق العبادة إلا هو . وقيل : { مِّنَ الشاهدين } على أنه خالق السموات والأرض .

وقيل : إنِّي قادر على إثبات ما ذكرته بالحجة ، وإني لست مثلكم أقول{[28727]} ما لا أقدر على إثباته بالحجة ، ولم تزيدوا على أنكم وجدتم عليه آباءكم . وقيل : المراد منه المبالغة في التأكيد والتحقيق ، كقول الرجل إذا بالغ في مدح آخر أو ذمه : أشهد أنه كريم أو ذميم .


[28696]:في ب: فأجابهم عليه الصلاة والسلام بقوله.
[28697]:انظر الفخر الرازي 22/181.
[28698]:في ب: أنه. وهو تحريف.
[28699]:انظر البحر المحيط 6/320.
[28700]:أم المتصلة هي التي يتقدم عليها همزة التسوية نحو {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم} [المنافقون: 6] أو يتقدم عليها همزة يطلب بها وبـ (أم) التعيين نحو أزيد في الدار أو عمرو؟ انظر المغني 1/41.
[28701]:في النسختين: حقاني. وهو تحريف.
[28702]:البيت من بحر الخفيف قاله حسان بن ثابت، وهو في شرح الديوان (434) والكتاب 3/181 والمقتضب 3/298، أمالي ابن الشجري 2/334، المقاصد النحوية 4/135، الخزانة 11/155.
[28703]:وقوله: سقط من ب.
[28704]:البيت من بحر الطويل نسبه سيبويه إلى الأسود بن يعفر ونسبه المبرد في الكامل إلى اللعين المنقري، وهو في الكتاب 3/175، المقتضب 3/294، الكامل 2/793 3/1095، المحتسب 1/50، المغني 1/42، المقاصد النحوية 4/138، شرح التصريح 2/143، الهمع 2/132، شرح شواهد المغني 1/138، الأشموني 3/101، 104، الخزانة 11/128، الدرر 2/175. شعيث: حي من تميم، ثم من بني منقر، فجعلهم أدعياء، وشك في كونهم منهم أو من بني سهم. وسهم: حي من قيس. والشاهد فيه وقوع (أم) المتصلة بين جملتين اسميتين. واستشهد به سيبويه على حذف همزة الاستفهام ضرورة لدلالة (أم) عليها.
[28705]:انظر الكشاف 3/14، البحر المحيط 6/321.
[28706]:البحر المحيط 6/321.
[28707]:في ب: يقال.
[28708]:الدر المصون 5/52.
[28709]:انظر الكشاف 3/14، البحر المحيط 6/321.
[28710]:الكشاف 3/14.
[28711]:تفسير ابن عطية 10/161.
[28712]:من قوله تعالى: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} [فصلت: 11].
[28713]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[28714]:أخرجه الترمذي (زهد) 4/556، ابن ماجه (زهد) 2/1402 أحمد 5/173، وانظر النهاية في غريب الحديث 1/54، الفائق 1/49. الأطيط: الحنين والصوت أي: أن كثرة ما فيها من الملائكة قد أثقلها حتى أطت.
[28715]:انظر البحر المحيط 6/321.
[28716]:من قوله تعالى: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم} [التوبة: 36].
[28717]:أخرجه الترمذي (زهد) 4/556، ابن ماجه (زهد) 2/1402 أحمد 5/173، وانظر النهاية في غريب الحديث 1/54، الفائق 1/49. الأطيط: الحنين والصوت أي: أن كثرة ما فيها من الملائكة قد أثقلها حتى أطت.
[28718]:الدر المصون 5/52.
[28719]:انظر البيان 2/162، والتبيان 2/920، البحر المحيط 6/320.
[28720]:أي: لاتساعهم في الظرف والمجرور. البحر المحيط 6/321.
[28721]:انظر البحر المحيط: 6/321.
[28722]:في ب: من. وهو تحريف.
[28723]:من قوله تعالى: {وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين} [الأعراف: 21].
[28724]:هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/181-182.
[28725]:في الأصل: وما لا. وهو تحريف.
[28726]:[مريم: 42].
[28727]:في ب: أقوى. وهو تحريف.