ثم حكى القرآن ما أمر الله - تعالى - به آدم فقال : { وَيَآءَادَمُ اسكن . . . } .
صدر الكلام بالنداء للتنبيه على الاهتمام بالمأمور به ، وتخصيص الخطاب بآدم - عليه السلام - للإيذان بأصالته بالتلقى وتعاطى المأمور به .
وقوله : { اسكن } من السكنى وهو اللبث والإقامة والاستقرار ، دون السكون الذي هو ضد الحركة .
والزوج . يطلق على الرجل والمرأة . والمراد به هنا حواء ، حيث تقول العرب للمرأة زوج ولا تكاد تقول زوجة .
والجنة : هى كل بستان ذى شجر متكاثف ملتف الأغصان ، يظلل ما تحته ويستره من الجن وهو ستر الشىء عن الحواس .
وجمهور أهل السنة على أن المراد بها هنا دار الثواب التي أعدها الله للمؤمنين يوم القيامة ، لأن هذا هو المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق .
ويرى جمهور علماء المعتزلة أن المراد بها هنا بستان بمكان مرتفع من الأرض ، خلقه الله لاسكان آدم وزوجته . واختلفوا في مكانه ، فقيل انه بفلسطين ، وقيل بغيرها .
وقد ساق ابن القيم في كتابه " حادى الأرواح " أدلة الفريقين دون أن يرجح شيئا منها .
والذى نراه أن الأحوط والأسلم . الكف عن تعيينها وعن القطع به ، وإليه ذهب أبو حنيفة وأبو منصور الماتريدى في التأويلات ، إذ ليس لهذه المسألة تأثير في العقيدة .
وتوجيه الخطاب إليهما في قوله : { فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا } لتعميم التشريف والإيذان بتساويهما في مباشرة المأمور به . أى : كلا من مطاعم الجنة وثمارها أكلا واسعا من أى مكان أردتم .
ثم بين - سبحانه - أنه نهاهم عن الأكل من شجرة معينة فقال : { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين } .
القرب : الدنو والمنهى عنه هو الأكل من ثمار الشجرة . وتعليق النهى على القرب منها القصد منه المبالغة في النهى عن الأكل ، إذى في النهى عن القرب من الشىء نهى عن فعله من باب أولى . وأكد النهى بأن جعل عدم اجتناب الأكل من الشجرة ظلما . فقال : { فَتَكُونَا مِنَ الظالمين } وقد ظلما أنفسهما إذ أكلا منها ، فقد ترتب على أكلهما منها أن أخرجا من الجنة التي كانا يعيشان فيها عيشة راضية .
وقد تكلم العلماء كثيرا عن اسم هذه الشجرة ونوعها فقيل هى التينة ، وقيل هى السنبلة ، وقيل هى الكرمة . . . إلخ إلا أن القرآن لم يذكر نوعها على عادته في عدم التعرض لذكر ما لم يدع المقصود من سياق القصة إلى بيانه .
وقد أحسن ابن جرير في التعبير عن هذا المعنى فقال : " والصواب في ذلك أن يقال : إن الله - تعالى - نهى آدم وزوجه عن الأكل من شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر اشجارها فأكلا منها ، ولا علم عندنا بأى شجرة كانت على التعيين ، لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة ، وقد قيل كانت شجرة البر ، وقيل شجرة العنب ، وذلك علم إذا علم لم ينفع العالم به علمه ، وان جهله جاهل لم يضره جهله به " .
وينتهي هذا المشهد ، ليتلوه مشهد آخر في السياق :
ينظر الله - سبحانه - بعد طرد إبليس من الجنة هذه الطردة - إلى آدم وزوجه . . وهنا فقط نعرف أن له زوجا من جنسه ، لاندري كيف جاءت . فالنص الذي معنا وأمثاله في القرآن الكريم لا تتحدث عن هذا الغيب بشيء . وكل الروايات التي جاءت عن خلقها من ضلعه مشوبة بالإسرائيليات لا نملك أن نعتمد عليها ، والذي يمكن الجزم به هو فحسب أن الله خلق له زوجاً من جنسه ، فصارا زوجين اثنين ؛ والسنة التي نعلمها عن كل خلق الله هي الزوجية : ( ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ) . . فهي سنة جارية وهي قاعدة في كل خلق الله أصيلة . وإذا سرنا مع هذه السنة فإن لنا أن نرجح أن خلق حواء لم يمكث طويلاً بعد خلق آدم ، وأنه تم على نفس الطريقة التي تم بها خلق آدم . .
على أية حال يتجه الخطاب إلى آدم وزوجه ، ليعهد إليهما ربهما بأمره في حياتهما ؛ ولتبدأ تربيته لهما وإعدادهما لدورهما الأساسي ، الذي خلق الله له هذا الكائن . وهو دور الخلافة في الأرض - كما صرح بذلك في آية البقرة : ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) . .
( ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ، فكلا من حيث شئتما ، ولا تقربا هذه الشجرة ، فتكونا من الظالمين ) . .
ويسكت القرآن عن تحديد ( هذه الشجرة ) . لأن تحديد جنسها لا يريد شيئاً في حكمة حظرها . مما يرجح أن الحظر في ذاته هو المقصود . . لقد أذن الله لهما بالمتاع الحلال ، ووصاهما بالامتناع عن المحظور . ولا بد من محظور يتعلم منه هذا الجنس أن يقف عند حد ؛ وأن يدرب المركوز في طبعه من الإرادة التي يضبط بها رغباته وشهواته ؛ ويستعلي بها على هذه الرغبات والشهوات ، فيظل حاكماً لها لا محكوماً بها كالحيوان ، فهذه هي خاصية " الانسان " التي يفترق بها عن الحيوان ، ويتحقق بها فيه معنى " الإنسان " .
يذكر تعالى أنه أباح لآدم ، عليه السلام ، ولزوجته [ حواء ]{[11616]} الجنة أن يأكلا منها من جميع ثمارها إلا شجرة واحدة . وقد تقدم الكلام على ذلك في " سورة البقرة " ، فعند ذلك حسدهما الشيطان ، وسعى في المكر والخديعة والوسوسة ليُسلبا{[11617]} ما هما فيه من النعمة واللباس الحسن ، وقال كذبا وافتراء : ما نهاكما ربكما عن أكل{[11618]} الشجرة إلا لتكونا ملكين أي : لئلا تكونا ملكين ، أو خالدين هاهنا ولو أنكما أكلتما منها لحصل لكما ذلكما{[11619]} كقوله : { قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى } [ طه : 120 ] أي : لئلا تكونا ملكين ، كقوله : { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا } [ النساء : 176 ] أي : لئلا تضلوا ، { وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ } [ النحل : 15 ] أي : لئلا تميد بكم .
وكان ابن عباس ويحيى بن أبي كثير يقرآن : { إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ } بكسر اللام . وقرأه الجمهور بفتحها .
إذا أمر الإنسان بشيء هو متلبس به فإنما المقصد بذلك أن يستمر على حاله ويتمادى في هيئته وقوله تعالى لآدم { اسكن } هو من هذا الباب ، وأكد الضمير الذي في قوله { اسكن } بقوله { أنت } وحينئذ جاز العطف عليه وهو ضمير لا يجوز إظهاره ولا يترتب ، والعطف على الضمير الملفوظ به لا يجوز إلا بعد تأكيده كقولك قمت أنت وزيد لأن الضمير بمنزلة حرف من الفعل ، وهذا الضمير الذي في { اسكن } أضعف من الملفوظ به فأحرى أن لا يصح العطف عليه إلا بعد التأكيد .
وقوله : { فكلا } هو من أكل فأصله أكلا فحذفت فاء الفعل لاجتماع المثلين ، واستغني عن الأخرى لما تحرك ما بعدها ، وحسن أيضاً حذف فاء الفعل لأنهم استثقلوا الحركة على حرف علة ، وهذا باب كل فعل أوله همزة ووزنه فعل كأخذ وأمر ونحوه ، وكان القياس أن لا يحذف فاء الفعل ولكن ورد استعمالهم هكذا .
ويقال قرب يقرب ، و { هذه الشجرة } الظاهر أنه أشار إلى شخص شجرة واحدة من نوع وأرادها ويحتمل أن يشير إلى شجرة معينة وهو يريد النوع بجملته ، وعبر باسم الواحدة كما تقول أصاب الناس الدينار والدرهم وأنت تريد النوع .
قال القاضي أبو محمد : وعلى الاحتمالين فآدم عليه السلام إنما قصد في وقت معصية فعل ما نهي عنه قاله جمهور المتأولين ، وبذلك أغواه إبليس لعنه الله بقوله : إنك لم ُتنَه إلا لئلا تخلد أو تكون ملكاً ، فيبطل بهذا قول من قال : إن آدم إنما أخطأ متأولاً بأن ظن النهي متعلقاً بشخص شجرة فأكل من النوع فلم يعذر بالخطأ .
قال القاضي أبو محمد : وذلك أن هذا القائل إنما يفرض آدم معتقداً أن النهي إنما تعلق بشجرة معينة فكيف يقال له مع هذا الاعتقاد إنك لم تنه إلا لئلا تخلد ثم يقصد هو طلب الخلود في ارتكاب غير ما نهي عنه ؟ ولا فرق بين أكله ما يعتقد أنه لم ينه عنه وبين أكله سائر المباحات له .
قال القاضي أبو محمد : والهاء الأخيرة في { هذه } بدل من الياء في هذي أبدلت في الوقف ثم ثبتت في الوصل هاء حملاً على الوقف ، وليس في الكلام هاء تأنيث قبلها كسرة إلا «هذه » وقرأ ابن محيصن «هذي الشجرة » على الأصل ، وقوله { فتكونا } نصب في جواب النهي .
قال القاضي أبو محمد : وتعلق الناس بهذه الآية في مسألة الحظر والإباحة ، وذلك أن مسألة الحظر والإباحة تكلم الناس فيها على ضربين فأما الفقهاء فدعاهم إلى الكلام فيها أنه تنزل نوازل لا توجد منصوصة في كتاب الله عز وجل ولا في سنة نبيه ولا في إجماع ، ويعتم وجه استقرائها من أحد هذه الثلاثة وقياسها على ما فيها ، فيرجع الناظر بعد ذلك ينظر على أي جهة يحملها من الإجازة والمنع ، فقال بعضهم إذا نزل مثل هذا فنحمله على الحظر ونأخذ فيه بالشدة ونستبرىء لأنفسنا ، إذ الله عز وجل قد بين لنا في كتابه جميع ما يجب بيانه وأحل ما أراد تحليله ، ولم يترك ذكر هذه النازلة إلا عن قصد فاجترامنا نحن عليها لا تقتضيه الشريعة ، وقال بعضهم بل نحملها على الإباحة لأن الله عز وجل قد أكمل لنا ديننا وحرم علينا ما شاء تحريمه ، ولم يهمل النص على نازلة إلا وقد تركها في جملة المباح ، وبعيد أن يريد في شيء التحريم ولا يذكره لنا ويدعنا في عمى الجهالة به ، فإنما نحملها على الإباحة حتى يطرأ الحظر ، وقال بعضهم بل نحمل ذلك على الوقف أبداً ولا نحكم فيه بحظر ولا إباحة بل نطلب فيه النظر والقياس أبداً ، وذلك أنّا نجد الله عز وجل يقول في كتابه { حرم عليكم } في مواضع ، ويقول { أحل لكم } في مواضع .
فدل ذلك على أن كل نازلة تحتاج إلى شرع وأمر ، إما مخصوصاً بها وإما مشتملاً عليها وعلى غيرها ، ولو كانت الأشياء على الحظر لما قال في شيء حرم عليكم ولو كانت على الإباحة لما قال في شيء أحل لكم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا أبين الأقوال ولم يتعرض الفقهاء في هذه المسألة إلى النظر في تحسين العقل وتقبيحه ، وإنما تمسكوا في أقوالهم هذه بأسباب الشريعة وذهبوا إلى انتزاع مذاهبهم منها ، وأما الضرب الثاني من كلام الناس في الحظر والإباحة فإن المعتزلة ومن قال بقولهم إن العقل يحسن ويقبح نظروا في المسألة من هذه الجهة فقالوا نفرض زمناً لا شرع فيه أو رجلاً نشأ في برية ولم يحسن قط بشرع ولا بأمر ولا بنهي أو نقدر آدم عليه السلام وقت إهباطه إلى الأرض قد ترك وعقله قبل أن يؤمر وينهى كيف كانت الأشياء عليه أو كيف يقتضي العقل في الزمن والرجل المفروضين ؟ ، فقال بعضهم الذي يحسن في العقل أن تكون محظورة كلها حتى يرد الإذن باستباحتها ، وذلك أن استباحتها تعد على ملك الغير ، وإذا قبح ذلك في الشاهد فهو في حق الله أعظم حرمة ، وذهب بعض هذه الفرقة إلى استثناء التنفس والحركة من هذا الحظر وقالوا إن هذه لا يمكن غيرها .
قال القاضي أبو محمد : ويمكن أن يقدر الاضطرار إليها إباحة لها ، وقال بعضهم : بل يحسن في العقل أن تكون مباحة إذ التحكم في ملك الغير بوجه لا ضرر عليه فيه كالاستظلال بالجدران ونحوه مباح ، فإذا كان هذا في الشاهد جائزاً فهو في عظم قدر الله تعالى ووجوده أجوز ، إذ لا ضرر في تصرفنا نحن في ملكه ، ويتعلق بحقه شيء من ذلك ، وقال أهل الحق والسنة في هذا النحو من النظر ، بل الأمر في نفسه على الوقف ولا يوجب العقل تحسيناً ولا تقبيحاً بمجرده ُيدان به ، ولا يتجه حكم الحسن والقبيح إلا بالشرع ، وقال بعضهم : والعقل لم يخل قط من شرع ، فلا معنى للخوض في هذه المسألة ولا لفرض ما لا يقع ، وذهبوا إلى الاحتجاج بأن آدم عليه السلام قد توجهت عليه الأوامر والنواهي في الجنة ، بقوله تعالى له حين جرى الروح في جسده فعطس : قل الحمد لله يا آدم ، وبقوله : اسكن وكل ولا تقرب ونحو هذا ، وقال القاضي ابن الباقلاني في التقريب والإرشاد : إن الفقهاء الذين قالوا بالحظر والإباحة لم يقصدوا الكون مع المعتزلة في غوايتهم ، ولكنهم رأوا لهم كلاماً ملفقاً مموهاً فاستحسنوه دون أن يشعروا بما يؤول إليه من الفساد في القول بتحسين العقل وتقبيحه .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا الكلام حمل على فقهاء الشرع واستقصار لهم ، والصواب أن لا يظن بهم هذا الخلل وإنما التمسوا على نوازلهم تعليق حكم الحظر والإباحة من الشرع وهم مع ذلك لا يحمل عليهم أنهم يدفعون الحق في أن العقل لا يحسن ولا يقبح دون الشرع ، وقد تقدم في سورة البقرة ذكر الاختلاف في الشجرة وتعيينها .
الواو من قوله : { ويا آدم } عاطفة على جملة : { أخرج منها مذءوماً مدحوراً } [ الأعراف : 18 ] الآية ، فهذه الواوُ من المحكي لا من الحكاية ، فالنّداء والأمرُ من جملة المقول المحكي يقال : أي قال الله لإبليس اخرج منها وقال لآدم { ويا آدم اسكن } ، وهذا من عطف المتكلِّم بعض كلامه على بعض ، إذا كان لبعض كلامه اتّصال وتناسب مع بعضه الآخر ، ولم يكن أحدُ الكلامين موجّهاً إلى الذي وجّه إليه الكلام الآخَر ، مع اتّحاد مقام الكلام ، كما يفعل المتكلّم مع متعدِّدين في مجلس واحد فيُقبل على كل مخاطب منهم بكلام يخصه ومنه قول النبيّء صلى الله عليه وسلم في قضيّة الرّجل والأنصاري الذي كان ابنُ الرّجل عسيفاً عليه : « والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله عزّ وجلّ أما الغنم والجارية فرَدٌ عليك وعلى ابنك جلدُ مائة وتغريب عام ، واغْدُ يا أنَيْسُ على زوجة هذا فإن اعترفت فارْجُمْها » ومن أسلوب هذه الآية ما في قوله تعالى : { قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعْرِض عن هذا واستغفري لذنبك } [ يوسف : 28 ، 29 ] حكاية لكلام العزيز ، أي العزيز عطفَ خطابّ امرأته على خطابه ليوسف .
فليست الواو في قوله : { ويا آدم اسكن } بعاطفة على أفعال القَوْل التي قبلها حتّى يَكون تقدير الكلام : وقُلنا يا آدم اسكن ، لأنّ ذلك يفيت النّكت التي ذكرناها ، وذلك في حضرة واحدة كان فيها آدم والملائكة وإبليس حضوراً .
وفي توجيه الخطاب لآدم بهذه الفضيلة بحضور إبليس بعد طرده زيادة إهانة ، لأنّ إعطاء النّعم لمرضي عليه في حين عقاب من استأهل العقاب زيادة حسرة على المعاقَب ، وإظهاراً للتّفاوت بين مستحقّ الإنعام ومستحقّ العقوبة فلا يفيد الكلام من المعاني ما أفاده العطف على المقول المحكي ، ولأنّه لو أريد ذلك لأعيد فعل القول . ثمّ إن كان آدم خُلق في الجنّة ، فكان مستقراً بها من قبل ، فالأمر في قوله : { اسكن } إنّما هو أمر تقرير : أي أبق في الحنّة ، وإن كان آدم قد خُلق خارج الجنّة فالأمر للإذن تكريماً له ، وأيّاً مّا كان ففي هذا الأمر ، بمسمع من إبليس ، مقمعة لإبليس ، لأنّه إن كان إبليس مستْقراً في الجنّة من قبل فالقمع ظاهر إذ أطرده الله وأسكن الذي تكبَّر هو عن السّجود إليه في المكان المشرّف الذي كان له قبل تكبّره ، وإن لم يكن إبليس ساكناً في الجنّة قبلُ فإكرام الذي احتقره وترفع عليه قمع له ، فقد دلّ موقع هذا الكلام ، في هذه السّورة ، على معنى عظيم من قمع إبليس ، زائد على ما في آية سورة البقرة ، وإن كانتا متماثلتين في اللّفظ ، ولكن هذا المعنى البديع استفيد من الموقع وهذا من بدائع إعجاز القرآن .
ووجد إيثار هذه الآية بهذه الخصوصية إنّ هذا الكلام مسوق إلى المشركين الذين اتخذوا الشّيطان ولياً من دون الله ، فأمّا ما في سورة البقرة فإنّه لموعظة بني إسرائيل ، وهم ممّن يحذر الشّيطان ولا يتّبع خطواته .
والنّداء للإقبال على آدم والتّنويهِ بذكره في ذلك الملا . والإتيانُ بالضّمير المنفصل بعد الأمر ، لقصد زيادة التّنكيل بإبليس لأن ذكر ضميره في مقام العطف يذكر غيره بأنّه ليس مثله ، إذ الضّمير وإن كان من قبيل اللقب وليس له مفهومُ مخالفةٍ فإنّه قد يفيد الاحتراز عن غير صاحب الضّمير بالقرينة على طريقة التعريض ولا يمنع من هذا الاعتبار في الضمير كون إظهاره لأجل تحسينِ أو تصحيح العطف على الضّمير المرفوع المستتر ، لأن تصحيحَ أو تحسين العطف يحصل بكلّ فاصل بين الفعل الرافع للمستتر وبين المعطوف ، لا خصوص الضّمير ، كأن يقال : ويا آدم اسكن الجنّةَ وزوجُك ، فما اختير الفصل بالضّمير المنفصل إلاّ لما يفيد من التّعريض بغيره . وهذه نكتة فاتني العلم بها في آية سورة البقرة فضُمّها إليها أيضاً .
والكلام على قوله : { اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين } يعلم ممّا مضى من الكلام على نظيره من سورة البقرة .
سوى أن الذي وقع في سورة البقرة ( 35 ) { وكلا } بالواو وهنا بالفاء ، والعطف بالواو أعم ، فالآية هنا أفادت أنّ الله تعالى أذن آدم بأن يتمتّع بثمار الجنّة عقب أمره بسكنى الجنّة . وتلك منّة عاجلة تؤذن بتمام الإكرام ، ولما كان ذلك حاصلاً في تلك الحضرة ، وكان فيه زيادة تنغيص لإبليس ، الذي تكبّر وفضل نفسه عليه ، كان الحال مقتضياً إعلام السّامعين به في المقام الذي حُكي فيه الغضب على إبليس وطردُه ، وأما آية البقرة فإنّما أفادت السّامعين أنّ الله امتن على آدم بمنّة سكنى الجنّة والتّمتّع بثمارها ، لأنّ المقام هنالك لتذكير بني إسرائيل بفضل آدم وبذنبه وتوبته ، والتّحذير من كيد الشّيطان ذلك الكيد الذي هم واقعون في شيء منه عظيم .
على أنّ آية البقرة ( 35 ) لم تخل عن ذكر ما فيه تكرمة له وهو قوله : { رغداً } لأنه مدح للمُمْتن به أو دعاء لآدم ، فحصل من مجموع الآيتين عدة مكارم لآدم ، وقد وزعت على عادة القرآن في توزيع أغراض القصص على مواقعها ، ليحصل تجديد الفائدة ، تنشيطاً للسّامع ، وتفنّناً في أساليب الحكاية ، لأنّ الغرض الأهمّ من القصص في القرآن إنّما هو العبرة والموعظة والتأسي .
وقوله : { ولا تقربا هذه الشجرة } أشدّ في التّحذير من أن يُنهى عن الأكل منها ، لأنّ النّهي عن قربانها سد لذريعة الأكل منها وقد تقدّم نظيره في سورة البقرة .
والنّهي عن قربان شجرة خاصة من شجر الجنّة : يحتمل أن يكون نهي ابتلاء . جعل الله شجرة مستثناة من شجر الجنّة من الإذن بالأكل منها تهيئة للتكليف بمقاومة الشّهوة لامتثال النّهي .
فلذلك جعل النّهي عن تناولها محفوفة بالأشجار المأذون فيها ليلتفت إليها ذهنهما بتركها ، وهذا هو الظّاهر ليتكّون مختلف القوى العقليّة في عقل النّوع بتأسيسها في أصل النّوع ، فتنتقل بعده إلى نسله ، وذلك من اللّطف الإلهي في تكوين النّوع ومن مظاهر حقيقة الربوبيّة والمربوبيّة ، حتى تحصل جميع القوى بالتدريج فلا يشقّ وضعها دفعة على قابليّة العقل ، وقد دلّت الآيات على أن آدم لمّا ظهر منه خاطر المخالفة أكل من الشّجرة المنهي عنها ، فأعقبه الأكلُ حدوث خاطر الشّعور بما فيه من نقايصَ أدركها بالفطرة ، فمعناه أنّه زالت منه البساطة والسّذاجة . ويحتمل أن يكون ذلك لِخصوصيّة في طبع تلك الشّجرة أن تثير في النّفس علم الخير والشرّ كما جاء في التّوراة أنّ الله نهاه عن أكل شجرة معرفة الخير والشرّ ، وهذا عندي بعيد ، وإنّما حكى الله لنا هيئة تطوّر العقل البشري في خلقة أصل النّوع البشري نظيرَ صنعه في قوله : { وعلّم آدم الأسماء كلّها } [ البقرة : 31 ] .
والإشارة إلى شجرة مشاهدة وقد رويت روايات ضعيفة في تعيين نوعها وذلك ممّا تقدّم في سورة البقرة .
وانتصب : { فتكونا } على جواب النّهي ، والكون من الظّالمين متسبّب على القرب المنهي عنه ، لا على النّهي ، وذلك هو الأصل في النّصب في جواب النّهي كجواب النّفي ، أن يعتبر التّسبّب على الفعل المنفي أو المنهي ، بخلاف الجزم في جواب النّهي فإنّه إنّما يجزم المسبَّب على إنشاء النّهي لا على الفعل المنهي ، والفرق بينهما : أنّ النّصب على اعتبار التسبب ، والتسبب ينشأ عن الفعل لا عن الإخبار والإنشاء بخلاف الجزم فإنه على اعتبار الجواب ، تشبيهاً بالشّرط ، فاعتبر فيه معنى إنشاء النّهي تشبيهاً للإنشاء بالاشتراط .
والمراد ب { الظّالمين } الذين يحقّ عليهم وصف الظلم : إما لظلمهم أنفسهم وإلقائها في العواقب السيّئة ، وإمّا لاعتدائهم على حقّ غيرهم فإنّ العصيان ظلم لحقّ الربّ الواجب طاعته .