ثم - بين - سبحانه - مظاهر فضلها فقال : { لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } أى : ليلة القدر أفضل من ألف شهر ، بسبب ما أنزل فيها من قرآن كريم يهدي للتى هى أقوم ، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور ، وبسبب أن العباد فيها أكثر ثواباً ، وأعظم فضلا من العبادة فى أشهر كثيرة ليس فيها ليلة القدر .
والعمل القليل قد يفضل العمل الكثير ، باعتبار الزمان والمكان ، وإخلاص النية ، وحسن الأداء ، ولله - تعالى - أن يخص بعض الأزمنة والأمكنة والأشخاص بفضائل متميزة .
والتحديد بألف شهر يمكن أن يكون مقصودا ، ويمكن أن يراد منه التكثير ، وأن المراد أن أقل عدد تفضله هذه الليلة هو هذا العدد . فيكون المعنى : أن هذه الليلة تفضل الدهر كله .
والليلة التي تتحدث عنها السورة هي الليلة التي جاء ذكرها في سورة الدخان : ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة ، إنا كنا منذرين ، فيها يفرق كل أمر حكيم . أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين . رحمة من ربك إنه هو السميع العليم ) . . والمعروف أنها ليلة من ليالي رمضان ، كما ورد في سورة البقرة : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ) . . أي التي بدأ فيها نزول القرآن على قلب الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ليبلغه إلى الناس . وفي رواية ابن إسحاق أن أول الوحي بمطلع سورة العلق كان في شهر رمضان ، ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يتحنث في غار حراء .
وقد ورد في تعيين هذه الليلة آثار كثيرة . بعضها يعين الليلة السابعة والعشرين من رمضان . وبعضها يعين الليلة الواحدة والعشرين . وبعضها يعينها ليلة من الليالي العشر الأخيرة . وبعضها يطلقها في رمضان كله . فهي ليلة من ليالي رمضان على كل حال في أرجح الآثار .
واسمها : ( ليلة القدر ) . . قد يكون معناه التقدير والتدبير . وقد يكون معناه القيمة والمقام . وكلاهما يتفق مع ذلك الحدث الكوني العظيم . حدث القرآن والوحي والرسالة . . وليس أعظم منه ولا أقوم في أحداث هذا الوجود . وليس أدل منه كذلك على التقدير والتدبير في حياة العبيد .
وهي خير من ألف شهر . والعدد لا يفيد التحديد . في مثل هذه المواضع من القرآن . إنما هو يفيد التكثير . والليلة خير من آلاف الشهور في حياة البشر . فكم من آلاف الشهور وآلاف السنين قد انقضت دون أن تترك في الحياة بعض ما تركته هذه الليلة المباركة السعيدة من آثار وتحولات .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا مسلم - يعني ابن خالد - عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لَبس السلاح في سبيل الله ألف شهر ، قال : فَعَجب المسلمون من ذلك ، قال : فأنزل الله عز وجل : { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } التي لبس ذلك الرجل السلاح في سبيل الله ألف شهر{[30269]} .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا حَكَّام بن سلم ، عن المثنى بن الصباح ، عن مجاهد قال : كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ، ثم يجاهد العدو بالنهار حتى يمسي ، ففعل ذلك ألف شهر ، فأنزل الله هذه الآية : { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } قيام تلك الليلة خير من عمل ذلك الرجل{[30270]} .
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، حدثني مسلمة بن عُلَيّ ، عن علي بن عروة قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أربعة من بني إسرائيل ، عبدوا الله ثمانين عامًا ، لم يَعْصوه طرفة عين : فذكر أيوب ، وزكريا ، وحزْقيل ابن العجوز ، ويوشع بن نون ، قال : فعجب{[30271]} أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ، فأتاه جبريل فقال : يا محمد ، عَجِبَتْ أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة ، لم يَعْصُوه طرفة عين ؛ فقد أنزل الله خيرًا من ذلك . فقرأ عليه : { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } هذا أفضل مما عجبت أنت وأمتك . قال : فَسُرَّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه{[30272]} .
وقال سفيان الثوري : بَلَغني عن مجاهد : ليلةُ القدر خير من ألف شهر . قال : عَمَلها وصيامها وقيامها خير من ألف شهر . رواه ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا ابن أبي زائدة ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ليلة القدر خير من ألف شهر ، ليس في تلك الشهور ليلة القدر . وهكذا قال قتادة بن دعامة ، والشافعي ، وغير واحد .
وقال عمرو بن قيس الملائي : عمل فيها خير من عمل ألف شهر .
وهذا القول بأنها أفضل من عبادة ألف شهر - وليس فيها ليلة القدر - هو اختيارُ ابن جرير . وهو الصواب لا ما عداه ، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم : " رِباطُ ليلة في سبيل الله خَيْر من ألف ليلة فيما سواه من المنازل " . رواه أحمد{[30273]} وكما جاء في قاصد الجمعة بهيئة حسنة ، ونية صالحة : " أنه يُكتَبُ له عمل سنة ، أجر صيامها وقيامها " إلى غير ذلك من المعاني المشابهة لذلك .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا أيوب ، عن أبي قِلابَة ، عن أبي هُريرة قال : لما حضر رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قد جاءكم شهر رمضان ، شهر مبارك ، افترض الله عليكم صيامه ، تفتح فيه أبواب الجنة ، وتغلق فيه أبواب الجحيم ، وتغل فيه الشياطين ، فيه ليلة خير من ألف شهر ، من حُرم خَيرَها فقد حُرم " . ورواه النسائي ، من حديث أيوب ، به{[30274]} .
ولما كانت ليلة القدر تعدل عبادتها عبادة ألف شهر ، ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تَقَدَّم من ذنبه " {[30275]} .
ثم أخبر أنها أفضل لمن عمل فيها عملاً { من ألف شهر } ، وهي ثمانون سنة وثلاثة أعوام وثلث عام . وروي عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أنه قال حين عوتب في تسليمه الأمر لمعاوية : إن الله تعالى أرى نبيه في المنام بني أمية ينزون على منبره نزو القردة ، فاهتم لذلك فأعطاه الله ليلة القدر ، وهي خير من مدة ملك بني أمية ، وأعلمه أنهم يملكون الناس هذا القدر من الزمان .
قال القاضي أبو محمد : ثم كشف الغيب أن كان من سنة الجماعة إلى قتل مروان الجعدي هذا القدر من الزمان بعينه ، مع أن القول يعارضه أنه قد ملك بنو أمية في غرب الأرض مدة غير هذه ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه{[11924]} »
بيان أولُ لشيءٍ من الإِبهام الذي في قوله : { وما أدراك ما ليلة القدر } [ القدر : 2 ] مثلُ البيان في قوله : { وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام } [ البلد : 12 ، 14 ] الآية . فلذلك فصلت الجملة لأنها استئناف بياني ، أو لأنها كعطف البيان .
وتفضيلها بالخَيْر على ألف شهر . إنما هو بتضعيف فضل ما يحصل فيها من الأعمال الصالحة واستجابة الدعاء ووفرة ثواب الصدقات والبركة للأمة فيها ، لأن تفاضل الأيام لا يكون بمقادير أزمنتها ولا بما يحدث فيها من حَر أو برد ، أو مطر ، ولا بطولها أو بقصرها ، فإن تلك الأحوال غير معتدّ بها عند الله تعالى ولكن الله يعبأ بما يحصل من الصلاح للناس أفراداً وجماعات وما يعين على الحق والخير ونشر الدين . وقد قال في فضل الناس : { إن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم } [ الحجرات : 13 ] فكذلك فضل الأزمان إنما يقاس بما يحصل فيها لأنها ظروف للأعمال وليست لها صفات ذاتية يمكن أن تتفاضل بها كتفاضل الناس ففضلها بما أعدّه الله لها من التفضيل كتفضيل ثلث الليل الأخير للقربات وعدد الألف يظهر أنه مستعمل في وفرة التكثير كقوله : « واحد كألف » وعليه جاء قوله تعالى : { يود أحدهم لو يعمر ألف سنة } [ البقرة : 96 ] وإنما جعل تمييز عدد الكثرة هنا بالشهر للرعي على الفاصلة التي هي بحرف الراء . وفي « الموطإ » : « قال مالك إنه سمع من يثق به من أهل العلم يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمارَ أمته أن لا يبلغُوا من العمَل مثلَ ما بلغ غيرهم في طول العُمر فأعطاه الله { ليلة القدر خير من ألف شهر } اه .
وإظهار لفظ { لَيْلَةُ القدر } في مقام الإِضمار للاهتمام ، وقد تكرر هذا اللفظ ثلاث مرات والمرات الثلاث ينتهي عندها التكرير غالباً كقوله تعالى : { وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب } [ آل عمران : 78 ] .
لا أرى الموتَ يسبق الموتَ شيءٌ *** نَغَّص الموتُ ذا الغنى والفقيرا
ومما ينبغي التنبه له ما وقع في « جامع الترمذي » بسنده إلى القاسم بن الفضل الحُدَّاني عن يوسف بن سَعد قال : « قام رجل إلى الحسن بن علي بعدما بايع معاوية فقال : سَّوَدتَ وجوهَ المؤمنين ، أوْ يا مُسوِّد وجوهِ المؤمنين فقال : لا تؤنبني رَحمك الله فإن النبي صلى الله عليه وسلم أري بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت : { إنا أعطيناك الكوثر } [ الكوثر : 1 ] يا محمّد يعني نهراً في الجنة ، ونزلت : { إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر } [ القدر : 1 3 ] يملكها بنو أمية يا محمدُ قال القاسم : فعددناها فإذا هي ألف شهر لا يَزيدُ يومٌ ولا ينقص » .
قال أبو عيسى الترمذي ، هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه . وقد قيل عن القاسم بن الفضل عن يوسف بن مازِن نعرفه والقاسم بن الفضل ثقة ويُوسف بن سَعْد رجل مجهول اه .
قال ابن كثير في « تفسيره » ورواه ابن جرير من طريق القاسم بن الفضل عن عيسى بن مازن كذا قال ، وعيسى بن مازن غير معروف ، وهذا يقتضي اضطراباً في هذا الحديث ، أي لاضطرابهم في الذي يروي عنه القاسم بن الفضل ، وعلى كل احتمال فهو مجهول .
وأقول : وأيضاً ليس في سنده ما يفيد أن يوسف بن سعد سمع ذلك من الحسن رضي الله عنه . وفي « تفسير الطبري » عن عيسى بن مازن أنه قال : قلت للحسن : يا مسود وجوه المؤمنين إلى آخر الحديث . وعيسى بن مازن غير معروف أصلاً فإذا فرضنا توثيق يوسف بن سعد فليس في روايته ما يقتضي أنه سمعه بل يجوز أن يكون أراد ذكر قصة تُروى عن الحسن .
واتفق حذاق العلماء على أنه حديث منكر صرح بذلك ابن كثير وذكره عن شيخه المزي ، وأقول : هو مختل المعنى وسمات الوضع لائحة عليه وهو من وضع أهل النحَل المخالفةِ للجماعة فالاحتجاجُ به لا يليق أن يصدر مثله عن الحسن مع فرط علمه وفطنته ، وأيَّة ملازمة بين ما زعموه من رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين دفع الحسن التأنيب عن نفسه ، ولا شك أن هذا الخبر من وضع دُعاة العباسيين على أنه مخالف للواقع لأن المدة التي بين تسليم الحسن الخلافة إلى معاوية وبين بيعة السفاح وهو أول خلفاء العباسية ألف شهر واثنان وتسعون شهراً أو أكثر بشهر أو بشهرين فما نُسب إلى القاسم الحُدَّاني من قوله : فعددناها فوجدناها الخ كذب لا محالة . والحاصل أن هذا الخبر الذي أخرجه الترمذي منكر كما قاله المِزِّي .
قال ابن عرفة وفي قوله : { ليلة القدر خير من ألف شهر } المحسن المسمّى تَشابه الأطراف وهو إعادة لفظ القافية في الجملة التي تليها كقوله تعالى : { كمشكاة فيها مصباح المصباحُ في زجاجة الزجاجةُ كأنها كوكب دري } [ النور : 35 ] اه . يريد بالقافية ما يشمل القرينة في الأسجاع والفواصلَ في الآي ، ومثاله في الشعر قول ليلى الأخيلية :
إذا نزل الحجاج أرضاً مريضة *** تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها *** غلامٌ إذا هز القناة سقاها الخ