غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ خَيۡرٞ مِّنۡ أَلۡفِ شَهۡرٖ} (3)

1

الخامسة : معنى كونها خيراً من ألف شهر أن العبادة فيها خير من ألف شهر ليس فيها هذه الليلة ، وذلك لما فيها من الخيرات والبركاتج وتقدير الأرزاق والمنافع الدينية والدنيوية . وقال مجاهد : كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ، ثم يجاهد حتى يمسي ، فعل ذلك ألف شهر ، فتعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من ذلك ، فأنزل الله تعالى السورة ، فأعطوا ليلة هي خير من مدة ذلك الغازي ، ويؤيده ما روي عن مالك بن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمار الناس فاستقصر أعمار أمته ، وخاف أن لا يبلغوا من الأعمال مثل ما بلغه سائر الأمم ، فأعطاه الله ليلة هي خير من ألف شهر لسائر الأمم . وقيل : إن الرجل فيما مضى ما كان يستحق اسم العابد حتى يعبد الله ألف شهر . وذكر القاسم بن فضل عن عيسى بن مازن قال : قلت للحسن بن علي رضي الله عنه : يا مسود وجوه المؤمنين عمدت إلى هذا الرجل فبايعته - يعني معاوية - فقال : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري في منامه بني أمية يطؤون منبره واحداً بعد واحد - وفي رواية : ينزون على منبره نزو القردة - فشق ذلك عليه ، فأنزل الله تعالى { إنا أنزلناه } إلى قوله { خير من ألف شهر } يعني ملك بني أمية " . قال القاسم : فحسبنا ملك بني أمية فإذا هو ألف شهر لا يزيد ولا ينقص ، وزيف بأن أيامهم كانت مذمومة ، فكيف تذكر في مقام التعظيم ؟ وأجيب بأنها كانت أياماً عظيمة بحسب السعادات الدنيوية ، فلا يمتنع أن يقول الله تعالى : أعطيتك ليلة هي في السعادات الدينية أفضل من تلك الأيام في بابها .

السادسة : في الآية بشارة عظيمة للمطيعين ، وتهديد بليغ للعاصين . أما الأول فلأنه تعالى ذكر أن هذه الليلة خير من ألف شهر ، ولم يبين قدر الخيرية ، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم : " مبارزة علي مع عمرو بن عبد ودّ أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة " ، وكأنه قال : هذا لك بذلك ، والباقي عليّ ، أعطيتك به ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . فمن أحيا ليلة القدر فكأنه عبد الله نيفاً وثمانين سنة ، ومن أحياها كل سنة فكأنه رزق أعماراً كثيرة ، ومن أحيا ليالي الشهر لينالها بيقين فكأنه أحيا ليلة القدر ثلاثين قدراً . يروى أنه يجاء يوم القيامة بالإسرائيلي الذي عبد الله أربعمائة سنة ، ويجاء برجل من هذه الأمة وقد عبد الله أربعين سنة ، فيكون ثوابه أكثر . فيقول الإسرائيلي : أنت العدل ، وأرى ثوابه أكثر ، فيقول : لأنكم تخافون العقوبة المعجلة فعبدتموني ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم كانوا آمنين لقوله : { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } [ الأنفال :33 ] ثم إنهم كانوا يعبدونني فلهذا السبب كانت عباداتهم أفضل ، وأما التهديد فلأن الظالم لا يخلصه من المظلوم أحد ، وإن أحيا مائة ليلة من القدر ، وكذا من عنده مظلمة لأحد وإن كانت بتطفيف حبة . السابعة : إنه صح عن رسول الله قوله : " أجرك على قدر نصبك " ، ومن المعلوم أن الطاعة في ألف شهر أشق من الطاعة في ليلة واحدة ، فما التوفيق بين الحديث والآية ؟ والجواب أن الفعل الواحد قد يختلف حاله في الحسن والقبح بسبب اختلاف الاعتبارات الشرعية أو العقلية . فصلاة الجماعة أقل من صلاة الفرد بكذا درجة ؛ لأجل شرف الاجتماع . ولو قلت لمن يرجم : إنما يرجم لأنه زانٍ فهو قول حسن ، ولو قلته للنصراني فقذف يوجب التعزير ، ولو قلته للمحصن فهو موجب للحد ، ولو قلته في حق عائشة كان كفراً وبهتاناً عظيماً ، وذلك لأنه طعن في حق عائشة التي كانت رجلاً في العلم لقوله : " خذوا ثلثي دينكم من هذه الحميراء " ، وطعن في صفوان - وهو رجل بدري - وطعن في كافة المؤمنين ؛ لأنها أم المؤمنين ، وللولد حق المطالبة بقذف الأم وإن كافراً ، بل طعن في النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أشرف المخلوقات ، بل طعن في حكمة الله ؛ إذا لا يجوز أن يتركه حتى يتزوج بامرأة زانية ، فتبين أن الأفعال تختلف آثارها في الثواب والعقاب باختلاف الجهات ، وبحسب الأزمنة والأمكنة ، وذلك من فضل الله وعنايته بمخلوقاته على حسب مشيئته وإرادته .

/خ5