إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ خَيۡرٞ مِّنۡ أَلۡفِ شَهۡرٖ} (3)

قولُه تعالَى : { لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ منْ أَلْفِ شَهْرٍ } فإنهُ بيانٌ إجماليٌّ لشأنها إثرَ تشويقهِ عليهِ السلامُ إلى درايتها ، فإنَّ ذلكَ معربٌ عنِ الوعدِ بإدرائها ، وقدْ مرَّ بيانُ كيفيةِ إعرابِ الجملتينِ ، وفي إظهارِ ليلةِ القدرِ في الموضعينِ منْ تأكيدِ التفخيمِ مَا لا يخفى . والمرادُ بإنزالِه فيها إمَّا إنزالُ كُلِّه إلى السماءِ الدُّنيا كَما رُوي أنَّه أُنزل جملةً واحدةً في ليلةِ القدرِ من اللوحِ المحفوظِ إلى السماءِ الدُّنيا ، وأملاهُ جبريلُ عليهِ السلامُ على السَّفرةِ ، ثُمَّ كانَ ينزلهُ على النبيِّ عليهِ السَّلامُ نجوماً في ثلاثِ وعشرينَ سنةً ، وإمَّا ابتداءُ إنزالِه فيها كما نُقلَ عن الشَّعبيِّ . وقيلَ : المَعْنى أنزلناهُ في شأنِ ليلةِ القدرِ وفضلِها كَما في قولِ عمرَ رضي الله عنهُ : خشيتُ أن ينزلَ فيَّ قرآن ، وقولِ عائشةَ رضيَ الله عنها : لأنَا أحقرُ في نفسي منْ أن ينزلَ فيَّ قرآن ، فالأنسبُ أن يجعلَ الضميرُ حينئذٍ للسورةِ التي هيَ جزءٌ من القرآنِ ، لا للكُلِّ .

واختلفوا في وقتها ، فأكثرهم على أنها في شهرِ رمضانَ في العشرِ الأواخرِ في أوتارِها ، وأكثرُ الأقوالِ أنها السابعةُ منها ، ولعلَّ السرِّ في إخفائها تعريضُ منْ يريدُها للثوابِ الكثير بإحياءِ الليالي الكثيرةِ رجاءً لموافقتها .

وتسميتُها بذلكَ إمَّا لتقدير الأمورِ وقضائها فيها لقولِه تعالى : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } [ سورة الدخان ، الآية 4 ] أو لخطرها وشرفها على سائرِ الليالي .

وتخصيصُ الألفِ بالذكرِ إمَّا للتكثيرِ ، أوْ لمَا رُوي أنه عليهِ السَّلامُ ذكرَ رجلاً من بني إسرائيلَ لبسَ السلاحَ في سبيلِ الله ألفَ شهرٍ ، فعجبَ المؤمنونَ منه ، وتقاصرتْ إليهم أعمالهم ، فأعطوا ليلةً هيَ خير منْ مدةِ ذلكَ الغازي ، وقيلَ : إنَّ الرجلَ فيما مَضَى مَا كانَ يقالُ لَهُ عابدٌ حَتَّى يعبدَ الله تعالى ألفَ شهرٍ ، فأعطوا ليلةً إنْ أحيوْها كانُوا أحقَّ بأن يُسمَّوا عابدينَ من أولئكَ العبادِ ، وقيلَ : أُري النبيُّ عليهِ السَّلامُ أعمارَ الأممِ كافةً فاستقصرَ أعمارَ أمتِه فخافَ أنْ لا يبلغوا من العملِ مثلَ ما بلغَ غيرهم في طولِ العمرِ ، فأعطاهُ الله ليلةَ القدرِ ، وجعلها خيراً منْ ألفِ شهرٍ لسائرِ الأممِ ، وقيلَ : كانَ ملكُ سليمانَ خمسمائةَ شهرٍ ، وملكُ ذي القرنينِ خمسمائةَ شهرٍ ، فجعلَ الله تعالَى العملَ في هذهِ الليلةِ لمنْ أدركها خيراً منْ مُلكِهِمَا .