الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ خَيۡرٞ مِّنۡ أَلۡفِ شَهۡرٖ} (3)

{ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } أخبرنا أبو عمر الفراتي قال : أخبرنا أبو موسى قال : أخبرنا موسى بن عبد اللّه : قال : حدّثنا أبو مصعب عن ملك أنه سمع من يثق به أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أُري أعمار الناس تقاصر أعمار أُمّته ألاّ يبلغوا من الأعمال مثل الذي يبلغ غيره في طول العمر ، فأعطاه اللّه سبحانه : { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } .

واختلفوا في الحكمة الموجبة لهذا العدد ، فأخبرني الحسين قال : حدّثنا الكندي قال : حدّثنا عبد الرحمن بن حاتم قال : قرئ على [ يونس ] بن عبد الأعلى : أخبرنا ابن وهبة قال : حدّثنا مسلمة عن علي بن لهيعة قال : " ذكر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوماً أربعة من بني إسرائيل عبدوا اللّه ثمانين عاماً ، لم يعصوه طرفة عين ، فذكر : أيّوب ، وزكريّا ، وحزقيل ابن العجوز ، ويوشع بن نون ، قال : فعجب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك وأتاه جبريل فقال : " يا محمد عجبت أُمّتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوا اللّه طرفة عين " ، فقال : " أنزل اللّه تعالى عليك خيراً من ذلك " ، ثم قرأ عليه : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } لأن هذا أفضل مما عجبت أنت وأُمّتك " قال : فسرّ بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والناس معه " .

وأخبرنا أبو عمرو الفراتي قال : أخبرنا محمد بن إسحاق قال : حدّثنا سعيد بن عيسى قال : حدّثنا فارس بن عمرو قال : حدّثنا صالح قال : حدّثنا مسلم بن خالد بن أبي نجح أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل اللّه ألف شهر ، قال : فعجب المسلمون من ذلك ، فأنزل اللّه سبحانه : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } الذي لبس ذلك الرجل السلاح في سبيل اللّه .

ويقال : إنّ ذلك الرجل كان شمشون ( عليه السلام ) ، وكانت قصته على ما ذكر وهب بن منبه أنّه كان رجلا مسلماً ، وكانت أُمّه قد جعلته نذيراً ، وكان من أهل قرية من قرى الروم كانوا يعبدون الأصنام ، وكان منزله منها على أميال غير كثيرة ، فكان يغزوهم وحده ، ويجاهدهم في اللّه فيصيب منهم وفيهم حاجته ، ويقتل ويسبي ويصيب الأموال ، وكان إذا لقيهم لقيهم بلحي بعير لا يلقاهم بغيره ، فإذا قاتلوه وقاتلهم وتعب وعطش انفجر له من الحجر الذي في اللحي ماء عذب فيشرب منه حتى يروى .

وكان قد أُعطي قوّة في البطش ، وكان لا يوثقه حديد ولا غيره ، فكان كذلك ، فجاهدهم في اللّه ، يصيب منهم حاجته لا يقدرون منه على شيء حتى قالوا : لن تأتوه إلاّ من قبل امرأته ، فدخلوا على امرأته فجعلوا لها جعلا ، فقالت : نعم ، أنا أوثقه لكم ، فأعطوها حبلا وثيقاً ، وقالوا لها : إذا نام فأوثقي يده إلى عنقه حتى نأتيه فنأخذه ، فلمّا نام أوثقت يده إلى عنقه بذلك الحبل ، فلما هبّ جذبه بيده فوقع من عنقه . فقال لها : لم فعلت ذلك ؟ فقالت : أُجرّب بها قوتك ، ما رأيت مثلك ، فأرسلتْ إليهم : إني قد ربطته بالحبل فلم أُغنِ شيئاً ، فأرسلوا إليها بجامعة من حديد ، وقالوا : إذا نام فاجعليها في عنقه ، فلمّا نام جعلتها في عنقه ، فلمّا هبَّ جذبها فوقعت من يده وعنقه ، فقال لها : لم فعلت هذا ؟ قالت : أجرّب بها قوتك ، ما رأيت مثلك في الدنيا يا شمشون ، أما في الأرض شيء يغلبك ؟ قال : إلاّ شيء واحد ، قالت : وما هو ؟ قال لها : ها أنا لمخبرك به ، فلم تزل تسأله عن ذلك وكان ذا شعر كثير ، فقال لها : ويحك إنّ أُمّي كانت جعلتني نذيراً فلا يغلبني شيء أبداً ، ولا يضبطني إلاّ شعري ، فلمّا نام أوثقت يده إلى عنقه بشعر رأسه ، فأوثقه ذلك وبعثت إلى القوم . فجاؤا فأخذوه فجدعوا أنفه ، وانفذوا أُذنيه ، وفقأوا عينيه ، ووقفوا بين ظهراني المدينة ، وكانت مدينة ذات أساطين ، وكان ملكهم قد أشرف عليها بالناس لينظروا إلى شمشون وما يُصنع به ، فدعا شمشون ربّه حين مثلوا ووقفوه أن يسلّطه عليهم ، فأمر أن يأخذ بعمودين من عمد المدينة التي عليها الملك والناس الذين معه فاجتذبهما جميعاً فجذبهما ، فردّ اللّه تعالى إليه بصره وما أصابوا من جسده ، ووقعت المئذنة بالملك ومن عليها من الناس ، فهلكوا فيها هدما .

وقيل : هو أن الرجل فيما مضى كان لا يستحق أن يقال له : عابد ، حتى يعبد اللّه ألف شهر ، وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر ، فجعل اللّه سبحانه لأمّة محمد ( عليه السلام ) ليلةً خيراً من ألف شهر كانوا يعبدون فيها .

وقال أبو بكر الورّاق : كان ملك سليمان خمسمائة شهر ، وملك ذي القرنين خمسمائة شهر ، فيحتمل أن يكون معنى الآية : ليلة القدر خير لمن أدركها مما ملكه سليمان وذو القرنين ( عليهما السلام ) .

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا عبد اللّه بن محمد بن الأشقر قال : حدّثنا زيد بن أخرم قال : حدّثنا أبو داود قال : حدّثنا علقمة بن الفضل ، عن يوسف بن مازن الراسبي قال : قام رجل إلى الحسن بن علي فقال : سوّدت وجوه المؤمنين ، عمدت إلى هذا الرجل فبايعته يعني معاوية فقال : " لا تؤنّبني [ رحمك الله ، فإن ] رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قد أُري بني أُميّة يخطبون على منبره رجلاً رجلاً فساءه ذلك فنزلت{ إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } [ الكوثر : 1 ] ونزلت { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } تملكه بنو أُميّة .

قال القاسم : اللّهمّ فحسبنا ملك بني أُميّة فإذا هو ألف شهر لا يزيد ولا ينقص " .

وقال المفسّرون : عمل صالح في ليلة القدر خيرٌ من عمل ألف شهر ليس فيها ليلة القدر ، وروى الربيع عن أبي العالية قال : ليلة القدر خيرٌ من عمر ألف شهر ، وقال مجاهد : سلام الملائكة والروح عليك تلك الليلة خير من سلام الخلق عليك ألف شهر ، فذلك [ قوله ] سبحانه : { تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ } .