ثم ينتقل القرآن إلى أسلوب الخطاب المباشر للمؤمنين فيأمرهم بتقوى الله ، وينهاهم عن التعامل بالربا فيقول : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله } أي اخشوه وصونوا أنفسكم عن الأعمال والأقوال التي تفضي بكم إلى عقابه .
وقوله : { وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا } أي : اتركوا ما بقي في ذمم الذين عاملتموهم بالربا ولا تأخذوا منهم إلا رءوس أموالكم فحسب ، فهذا مقابل لقوله - تعالى - قبل ذلك : { فَلَهُ مَا سَلَفَ } أي ما سلف قبضه من الربا قبل نزول الآية فهو لكم ، وما لم تقبضوه فأنتم مأمورن بتركه .
وقوله : { مِنَ الربا } متعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل { بَقِيَ } أي اتركوا الذي بقي حال كونه بعض الربا ، ومن للتعيض .
و { وَذَرُواْ } فعل أمر - بوزن علوا - مبني على حذف النون والواو فاعل ، وأصله " وذروا " فحذفت فاؤه ، والماضي منه " وذر " .
وقوله : { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } حض لهم على ترك الربا أي إن كنتم مؤمنين حق الإِيمان فامتثلوا أمر الله وذروا ما بقي من الربا مما زاد على رءوس أموالكم .
قال ابن كثير : " نزل هذا السياق في بني عمرو بن عمير بن ثقيف ، وبني المغيرة من بني مخزوم كان بينهم ربا في الجاهلية فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه ، طلبت ثقيف أن تأخهذه منهم فتشاوروا . وقالت بنو المغيرة : لا نؤدي في الإِسلام ، فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية ، فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه . فقالوا نتوب إلى الله ونذر ما بقى من الربا فتركوه كلهم . وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لكل ما استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار "
وفي ظل هذا الرخاء الآمن الذي يعد الله به الجماعة المسلمة ، التي تنبذ الربا من حياتها ، فتنبذ الكفر والإثم ، وتقيم هذه الحياة على الإيمان والعمل الصالح والعبادة والزكاة . . في ظل هذا الرخاء الأمن يهتف بالذين آمنوا الهتاف الأخير ليحولوا حياتهم عن النظام الربوي الدنس المقيت ؛ وإلا فهي الحرب المعلنة من الله ورسوله ، بلا هوادة ولا إمهال ولا تأخير :
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ، وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين . فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله . وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون )
إن النص يعلق إيمان الذين آمنوا على ترك ما بقي من الربا . فهم ليسوا بمؤمنين إلا أن يتقوا الله ويذروا ما بقي من الربا . ليسوا بمؤمنين ولو اعلنوا أنهم مؤمنون . فإنه لا إيمان بغير طاعة وانقياد واتباع لما أمر الله به . والنص القرآني لا يدعهم في شبهة من الأمر . ولا يدع إنسانا يتستر وراء كلمة الإيمان ، بينما هو لا يطيع ولا يرتضي ما شرع الله ، ولا ينفذه في حياته ، ولا يحكمه في معاملاته . فالذين يفرقون في الدين بين الاعتقاد والمعاملات ليسوا بمؤمنين . مهما ادعوا الإيمان وأعلنوا بلسانهم أو حتى بشعائر العبادة الأخرى أنهم مؤمنون !
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا . . إن كنتم مؤمنين ) . .
لقد ترك لهم ما سلف من الربا - لم يقرر استرداده منهم ، ولا مصادرة أموالهم كلها أو جزء منها بسبب أن الربا كان داخلا فيها . . إذ لا تحريم بغير نص . . ولا حكم بغير تشريع . . والتشريع ينفذ وينشىء آثاره بعد صدوره . . فأما الذي سلف فأمره إلى الله لا إلى أحكام القانون . وبذلك تجنب الإسلام أحداث هزة اقتصادية واجتماعية ضخمة لو جعل لتشريعه أثرا رجعيا . وهو المبدأ الذي أخذ به التشريع الحديث حديثا ! ذلك أن التشريع الإسلامي موضوع ليواجه حياة البشر الواقعية ، ويسيرها ، ويطهرها ، ويطلقها تنمو وترتفع معا . . وفي الوقت ذاته علق اعتبارهم مؤمنين على قبولهم لهذا التشريع وإنفاذه في حياتهم منذ نزوله وعلمهم به . واستجاش في قلوبهم - مع هذا - شعور التقوى لله . وهو الشعور الذي ينوط به الإسلام تنفيذ شرائعه ، ويجعله الضمان الكامن في ذات الأنفس ، فوق الضمانات المكفولة بالتشريع ذاته . فيكون له من ضمانات التنفيذ ما ليس للشرائع الوضعية التي لا تستند إلا للرقابة الخارجية ! وما أيسر الاحتيال على الرقابة الخارجية ، حين لا يقوم من الضمير حارس له من تقوى الله سلطان .
يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين بتقواه ، ناهيًا لهم عما يقربهم إلى سخطه ويبعدهم عن رضاه ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ } أي : خافوه وراقبوه فيما تفعلون { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } أي : اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رؤوس الأموال ، بعد هذا الإنذار { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي : بما شرع الله لكم من تحليل البيع ، وتحريم الربا وغير ذلك .
وقد ذكر زيد بن أسلم ، وابن جُرَيج ، ومقاتل بن حيان ، والسدي : أن هذا السياق نزل في بني عمرو بن عمير من ثقيف ، وبني المغيرة من بني مخزوم ، كان بينهم ربا في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه ، طلبت ثقيف أن تأخذه منهم ، فتشاوروا{[4616]} وقالت بنو المغيرة : لا نؤدي الربا في الإسلام فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } فقالوا : نتوب إلى الله ، ونذر ما بقي من الربا ، فتركوه كلهم .
وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد ، لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار ، قال ابن جريج : قال ابن عباس : { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ } أي : استيقنوا بحرب من الله ورسوله . وتقدم من رواية ربيعة بن كلثوم ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : يقال يوم القيامة لآكل الربا : خذ سلاحك للحرب . ثم قرأ : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ }
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } فمن كان مقيمًا على الربا لا ينزع عنه فحق{[4617]} على إمام المسلمين أن يستتيبه ، فإن نزع وإلا ضرب عنقه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا هشام بن حسان ، عن الحسن وابن سيرين ، أنهما قالا والله إن هؤلاء الصيارفة لأكلة الربا ، وإنهم قد أذنوا بحرب من الله ورسوله ، ولو كان على الناس إمام عادل لاستتابهم ، فإن تابوا وإلا وضع فيهم السلاح . وقال قتادة : أوعدهم الله بالقتل كما تسمعون ، وجعلهم بهرجا أينما أتوا{[4618]} ، فإياكم وما خالط هذه البيوع من الربا ؛ فإن الله قد أوسع الحلال وأطابه ، فلا تلجئنكم إلى معصيته فاقة . رواه ابن أبي حاتم .
وقال الربيع بن أنس : أوعد الله آكل الربا بالقتل . رواه ابن جرير .
وقال السهيلي : ولهذا قالت عائشة لأم محبة ، مولاة زيد بن أرقم ، في مسألة العينة : أخبريه أن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بطل ، إلا أن يتوب ، فخصت الجهاد ؛ لأنه ضد قوله : { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } قال : وهذا المعنى ذكره كثير{[4619]} . قال : ولكن هذا إسناده إلى عائشة ضعيف .
ثم قال تعالى : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ } أي : بأخذ الزيادة{[4620]} { وَلا تُظْلَمُونَ } أي : بوضع رؤوس الأموال أيضا ، بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص{[4621]} منه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن الحسين بن إشكاب ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن شيبان ، عن شبيب بن غرقدة البارقي ، عن سليمان بن الأحوص عن أبيه قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال : " ألا إن كل ربا كان في الجاهلية موضوع عنكم كله ، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ، وأول ربا موضوع ربا العباس بن عبد المطلب ، موضوع كله " كذا وجدته : سليمان بن الأحوص .
وقد قال ابن مردويه : حدثنا الشافعي ، حدثنا معاذ بن المثنى ، أخبرنا مسدد ، أخبرنا أبو الأحوص ، حدثنا شبيب بن غرقدة ، عن سليمان بن عمرو ، عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع ، فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون " {[4622]} .
وكذا رواه من حديث حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أبي حُرَّة{[4623]} الرقاشي ، عن عمرو - هو ابن خارجة - فذكره .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 278 )
سبب هذه الآية أنه كان الربا بين الناس كثيراً في ذلك الوقت ، وكان بين قريش وثقيف ربا ، فكان لهؤلاء على هؤلاء . فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال في خطبته في اليوم الثاني من الفتح : «ألا كل ربا في الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب » ، فبدأ صلى الله عليه وسلم بعمه وأخص الناس به ، وهذه من سنن العدل للإمام أن يفيض العدل على نفسه وخاصته ، فيستفيض حينئذ في الناس ، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واستعمل على مكة عتاب بن أسيد( {[2726]} ) ، فلما استنزل أهل الطائف بعد ذلك إلى الإسلام اشترطوا شروطاً ، منها ما أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنها ما لم يعطه ، وكان في شروطهم أن كل ربا لهم على الناس فإنهم يأخذونه ، وكل ربا عليهم فهو موضوع ، فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرر لهم هذه ثم ردها الله بهذه الآية ، كما رد صلحه لكفار قريش في رد النساء إليهم عام الحديبية .
وذكر النقاش رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يكتب في أسفل الكتاب لثقيف لكم ما للمسليمن وعليكم ما عليهم ، فلما جاءت آجال رباهم بعثوا إلى مكة للاقتضاء ، وكانت الديون لبني غيرة( {[2727]} ) وهم بنو عمرو بن عمير من ثقيف ، وكانت لهم على بني المغيرة المخزوميين فقال بنو المغيرة : لا نعطي شيئاً فإن الربا قد وضع ، ورفعوا أمرهم إلى عتاب بن أسيد بمكة ، فكتب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية ، وكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب فعلمت بها ثقيف فكفت ، هذا سبب الآية على اختصار مجموع مما روى ابن إسحاق وابن جريج والسدي وغيرهم .
فمعنى الآية ، اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بترككم ما بقي لكم من ربا وصفحكم عنه . وقوله :
{ إن كنتم مؤمنين } شرط محض في ثقيف على بابه ، لأنه كان في أول دخولهم في الإسلام وإذا قدرنا الآية فيمن تقرر إيمانه فهو شرط مجازي على جهة المبالغة( {[2728]} ) ، كما تقول لمن تريد إقامة نفسه( {[2729]} ) : إن كنت رجلاً فافعل كذا ، وحكى النقاش عن مقاتل بن سليمان أنه قال : { إن } في هذه الآية بمعنى إذ .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا مردود لا يعرف في اللغة ، وقال ابن فورك : يحتمل أنه يريد { يا أيها الذين آمنوا } بمن قبل محمد من الأنبياء ، { ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين } بمحمد ، إذ لا ينفع الأول إلا بهذا وهذا مردود بما روي في سبب الآية( {[2730]} ) ،
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يا أيها الذين آمنوا صدّقوا بالله وبرسوله، "اتقوا الله": خافوا الله على أنفسكم فاتقوه بطاعته فيما أمركم به، والانتهاء عما نهاكم عنه، "وذروا": ودعوا ما بقي من الربا، يقول: اتركوا طلب ما بقي لكم من فضل على رءوس أموالكم التي كانت لكم قبل أن تربوا عليها "إن كنتم مؤمنين": إن كنتم محققين إيمانكم قولاً، وتصديقكم بألسنتكم بأفعالكم. وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم أسلموا، ولهم على قوم أموال من ربا كانوا أربوه عليهم، فكانوا قد قبضوا بعضه منهم، وبقي بعض، فعفا الله جل ثناؤه لهم عما كانوا قد قبضوه قبل نزول هذه الآية، وحرّم عليهم اقتضاء ما بقي منه.
عن الضحاك في قوله: {اتّقُوا اللّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤمِنِينَ} قال: كان ربا يتبايعون به في الجاهلية، فلما أسلموا أمروا أن يأخذوا رءوس أموالهم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ} يحتمل وجهين:
أحدهما: يا أيها الذين أمنوا بألسنتهم اتقوا الله بقلوبكم.
والثاني: يا أيها الذين أمنوا بقلوبهم اتقوا الله في أفعالكم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الاكتفاء بموعود الربِّ خيرٌ للمسلم من تعليق قلبه بمقصود نفسه. ومقصودُك من تسويلات النفس، وموعودك مما ضمنه الحق...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أخذوا ما شرطوا على الناس من الربا وبقيت لهم بقايا، فأمروا أن يتركوها ولا يطالبوا بها...
{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} إن صح إيمانكم، يعني أنّ دليل صحة الإيمان وثباته امتثال ما أمرتم به من ذلك.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
سبب هذه الآية أنه كان الربا بين الناس كثيراً في ذلك الوقت، وكان بين قريش وثقيف ربا، فكان لهؤلاء على هؤلاء. فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال في خطبته في اليوم الثاني من الفتح: «ألا كل ربا في الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب»، فبدأ صلى الله عليه وسلم بعمه وأخص الناس به، وهذه من سنن العدل للإمام أن يفيض العدل على نفسه وخاصته، فيستفيض حينئذ في الناس، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واستعمل على مكة عتاب بن أسيد، فلما استنزل أهل الطائف بعد ذلك إلى الإسلام اشترطوا شروطاً، منها ما أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها ما لم يعطه، وكان في شروطهم أن كل ربا لهم على الناس فإنهم يأخذونه، وكل ربا عليهم فهو موضوع، فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرر لهم هذه ثم ردها الله بهذه الآية، كما رد صلحه لكفار قريش في رد النساء إليهم عام الحديبية.
فمعنى الآية، اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بترككم ما بقي لكم من ربا وصفحكم عنه. وقوله: {إن كنتم مؤمنين} شرط محض في ثقيف على بابه، لأنه كان في أول دخولهم في الإسلام وإذا قدرنا الآية فيمن تقرر إيمانه فهو شرط مجازي على جهة المبالغة...
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أن من انتهى عن الربا فله ما سلف فقد كان يجوز أن يظن أنه لا فرق بين المقبوض منه وبين الباقي في ذمة القوم، فقال تعالى في هذه الآية {وذروا ما بقى من الربا} وبين به أن ذلك إذا كان عليهم ولم يقبض، فالزيادة تحرم، وليس لهم أن يأخذوا إلا رؤوس أموالهم، وإنما شدد تعالى في ذلك، لأن من انتظر مدة طويلة في حلول الأجل، ثم حضر الوقت وظن نفسه على أن تلك الزيادة قد حصلت له، فيحتاج في منعه عنه إلى تشديد عظيم، فقال: {اتقوا الله} واتقاؤه ما نهى عنه {وذروا ما بقى من الربا} يعني إن كنتم قد قبضتم شيئا فيعفو عنه، وإن لم تقبضوه، أو لم تقبضوا بعضه، فذلك الذي لم تقبضوه كلا كان، أو بعضا، فإنه محرم قبضه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كانت نتيجة الآية الماضية في الاعتماد على ما عند الله سبحانه وتعالى من الأجر وعدم الحزن على ما فات من ربا وغيره والخوف من شيء آت من فقر أو غيره ترك كل شيء ينسب إلى الربا و كان بين أهل الإسلام وأهل الجاهلية وبين بعضهم و بعض معاملات في الجاهلية ربوية لم تتم بعد بين أمرها نفياً لما قد يتوهم من قوله سابقاً {فله ما سلف} من تحليل بقايا الربا وأن النهي خاص بما تجدد منه فقال مخاطباً لأقرب من ذكره ممن تلبس بالإيمان ولم يلتفت إلى غيرهم تشريفاً لهم: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالتصديق بألسنتهم.
ولما كان الربا قد يكون مؤجلاً فيكون صاحبه قد مضت عليه مدد وهو موطن نفسه على أخذه فيصير الكف عنه يعدل الموت عنده أبلغ سبحانه وتعالى في التشديد في هذه المواعظ فقال: {اتقوا الله} أي الذي له جميع العظمة تصديقا لإقراركم {وذروا} أي اتركوا أي ترك كان {ما بقي من الربا} أي الذي كنتم تتعاملون به فلا تستحلوه ولا تأكلوه... {إن كنتم مؤمنين} أي متصفين بما ذكرتموه بألسنتكم.
قال الحرالي: فبين أن الربا والإيمان لا يجتمعان وأكثر بلايا هذه الأمة حتى أصابها ما أصاب بني إسرائيل من البأس الشنيع والانتقام بالسنين إنما هو... من عمل بالربا، وهذه الآية أصل عظيم في أحكام الكفار إذا أسلموا فما مضى منها لم ينقص وما لم يمض لم يفعل -نبه عليه الأصبهاني...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا}. وصفهم بالإيمان وذكرهم بالتقوى ثم انتقل إلى الأمر بترك ما بقي من الربا لمن كانوا يرابون منهم عند غرمائهم ثم وصل ذلك بقوله: {إن كنتم مؤمنين} قال الأستاذ الإمام: أي إن كان إيمانكم تاما شاملا لجميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الأحكام فذروا بقايا الربا. وقد عهد في الأسلوب العربي أن يقال: إن كنت متصفا بهذا الشيء فافعل كذا: ويذكر أمرا من شأنه أن يكون أثرا لذلك الوصف. أقول: ويؤخذ من هذا أن من لم يترك ما بقي من الربا بعد نهي الله تعالى عنه وتوعده عليه فلا يعد من أهل هذا الإيمان التام الشامل، الذي له السلطان الأعلى على إرادة العامل، وهذا يؤيد ما قلناه في مسألة خلود من عاد إلى الربا بعد تحريمه في النار. ومن الناس من يؤمن ببعض الكتاب إيمانا يبعث على العمل ويكفر ببعض فلا يذعن له ويعمل به، فهو يجحده بفعله وإن أقر به بلسانه، ولا يعتد الله بإيمانه إلا إذا صدق قلبه وعمله لسانه [بدليل قوله صلى الله عليه وسلم] "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وخاطبهم بالإيمان، ونهاهم عن أكل الربا إن كانوا مؤمنين، وهؤلاء هم الذين يقبلون موعظة ربهم وينقادون لأمره، وأمرهم أن يتقوه، ومن جملة تقواه أن يذروا ما بقي من الربا أي: المعاملات الحاضرة الموجودة، وأما ما سلف، فمن اتعظ عفا الله عنه ما سلف، وأما من لم ينزجر بموعظة الله ولم يقبل نصيحته فإنه مشاق لربه محارب له، وهو عاجز ضعيف ليس له يدان في محاربة العزيز الحكيم الذي يمهل للظالم ولا يهمله حتى إذا أخذه، أخذه أخذ عزيز مقتدر...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي ظل هذا الرخاء الآمن الذي يعد الله به الجماعة المسلمة، التي تنبذ الربا من حياتها، فتنبذ الكفر والإثم، وتقيم هذه الحياة على الإيمان والعمل الصالح والعبادة والزكاة.. في ظل هذا الرخاء الأمن يهتف بالذين آمنوا الهتاف الأخير ليحولوا حياتهم عن النظام الربوي الدنس المقيت؛ وإلا فهي الحرب المعلنة من الله ورسوله، بلا هوادة ولا إمهال ولا تأخير: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله. وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون}... وفي الوقت ذاته علق اعتبارهم مؤمنين على قبولهم لهذا التشريع وإنفاذه في حياتهم منذ نزوله وعلمهم به. واستجاش في قلوبهم -مع هذا- شعور التقوى لله. وهو الشعور الذي ينوط به الإسلام تنفيذ شرائعه، ويجعله الضمان الكامن في ذات الأنفس، فوق الضمانات المكفولة بالتشريع ذاته. فيكون له من ضمانات التنفيذ ما ليس للشرائع الوضعية التي لا تستند إلا للرقابة الخارجية! وما أيسر الاحتيال على الرقابة الخارجية، حين لا يقوم من الضمير حارس له من تقوى الله سلطان...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربوا} إفضاء إلى التشريع بعد أن قُدم أمامَه من الموعظة ما هيّأ النفوس إليه. فإن كان قوله: {وأحل الله البيع وحرم الربوا} [البقرة: 275] من كلام الذين قالوا: {إنما البيع مثل الربوا} [البقرة: 275] فظاهر، وإن كان من كلام الله تعالى فهو تشريع وقع في سياق الرد، فلم يكتف بتشريع غير مقصود ولذا احتيج إلى هذا التشريع الصريح المقصود، وما تقدم كلّه وصف لحال أهل الجاهلية وما بقي منه في صدر الإسلام قبل التحريم.
و [إنما] أمروا بتقوى الله قبل الأمر بترك الربا لأنّ تقْوَى الله هي أصل الامتثال والاجتناب؛ ولأن ترك الربا من جملتها. فهو كالأمرِ بطريق برهاني.
ومعنى {وذروا ما بقي من الربوا} الآية اتركوا ما بقي في ذمم الذين عاملتموهم بالربا، فهذا مقابل قوله: « فله ما سلف»، فكان الذي سلفَ قبضُه قبل نزول الآية معفوا عنه وما لم يقبض مأموراً بتركه...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
في هذه الآية الكريمة يبين سبحانه وتعالى طريق التوبة من الربا، والخروج من مآثمه، ويحث على هذه التوبة بإثبات أنها من مقتضيات الإيمان، وأول طرق التوبة لمن خوطبوا بالقرآن أول نزوله، أن يتركوا ما بقي من الربا، فما كسبوه قبل الخطاب بالتحريم فإنه في مرتبة العفو، أما ما يجيء من بعد ذلك ولو كان بعقد سابق فإنه حرام، ولذا خاطبهم سبحانه وتعالى بقوله: {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} وفي ذلك نهي عن أخذ ما استحق بالعقود السابقة.
وقد تأكد النهي بثلاثة مؤكدات:...
أولها: تصدير النداء {يأيها الذين آمنوا} فإن ذلك التصدير لبيان أن ترك الربا من شأن الإيمان ومقتضياته...
ثانيها: قوله تعالى: {اتقوا الله} فهذا النص يفيد أن من مقتضيات التقوى اجتناب الربا...
ثالثها: أنه سبحانه جعل ترك الربا شرطا للاستمرار على الإيمان، فقال في ختام الآية الكريمة: {إن كنتم مؤمنين} أي إن كنتم مستمرين على حكم الإيمان، مذعنين لأحكام الديان...
وحين يقول الحق: {يا أيها الذين آمنوا)} فنحن نعرف أن النداء بالإيمان حيثية كل تكليف بعده، وساعة ينادي الحق ويقول: {يا أيها الذين آمنوا} أي يا من آمنتم بي إلها قادراً حكيماً، عزيزاً عنكم غالباً على أمري، لا تضرني معصيتكم، ولا تنفعني طاعتكم، فإذا كنتم قد آمنتم بي وأنا إله قادر حكيم فاسمعوا مني ما أحبه لكم من الأحكام...
والحق يقول: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله} ومن عجائب كلمة (اتقوا) أنها تأتي في أشياء يبدو أنها متناقضة، إنما هي ملتقية {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله} ولم يقل هنا... كما قال في آية أخرى: {اتقوا النار}. إذن فكيف يقول: {اتقوا الله} ويقول: {اتقوا النار}؟ لأن معنى (اتقوا): أي اجعلوا وقاية بينكم وبين ربكم...
ويتابع الحق: {وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين}، و (ذروا) أي اتركوا، ودعوا، وتناسوا، واطلبوا الخير من الله فيما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين حقاً بالله. كأن الله أراد أن يجعلها تصفية فاصلة، يولد من بعدها المؤمن طاهرا نقيا. إنه أمر من الحق: دعوا الربا الذي لم تقبضوه؛ لأن الذي قبضتموه أمره {فله ما سلف} والذي لم تقبضوه اتركوه:
{اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} فإن قلتم إن التعاقد قد صدر قبل التحريم، والتعاقد قد أوجب لك الحق في ذلك، تذكر أنك لم تقبض هذا الحق ليصير في يدك، ولا تقل إن حياتي الاقتصادية مترتبة عليه، فترتيب الحياة الاقتصادية لم ينشأ بالاتفاق على هذا الربا، ولكنه ينشأ بقبضه وأنت لم تقبضه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وفي هذه الآية يتصاعد الجوّ الضاغط على موقف الإنسان المؤمن عندما يقع تحت تأثير الأوضاع الاقتصادية المحيطة به في المجتمع المنحرف، فينسى إيمانه ويبدأ في الإلحاح بالمطالبة في ما له على المدينين له من زيادةٍ ربويّة. إن الآية تريد أن توحي للإنسان أن الموقف يتلخص في كلمةٍ واحدة، هي أن تكون مؤمناً أو لا تكون، في موضوع المطالبة بالربا في ما بقي له منه...