ثم شرع - سبحانه - فى بيان علامات القيامة وأهوالها فقال : { يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة . تَتْبَعُهَا الرادفة . . . } والراجفة : من الرجف وهو الاضطراب الشديد ، والحركة القوية ، لأن بسببها تضطرب الأمور ، وتختل الشئون . يقال : رجفت الأرض والجبال ، إذا اهتزت اهتزازا شديدا .
والمراد بها : ما يحدث فى هذا الكون عند النفخة الأولى التى يموت بعدها جميع الخلائق .
والمراد بالرادفة : النفخة الثانية ، التى تردف الأولى ، أى : تأتى بعدها ، وفيها يبعث الموتى بإذن الله - تعالى - ، يقال : فلان جاء ردف فلان ، إذا جاء فى أعقابه .
أى : اذكر - أيها العاقل - لتعتبر وتتعظ ، يوم ينفخ فى الصور فتضطرب الأرض وتهتز ، ويموت جميع الخلق ، ثم يتبع ذلك نفخة أخرى يبعث بعدها الموتى - بإذن الله - تعالى - .
وجملة " تتبعها الرادفة " فى محل نصب على الحال من الراجفة .
وشبيه بهاتين الآيتين قوله - تعالى - : { وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ
هذا المطلع جاء في صيغة القسم ، على أمر تصوره الآيات التالية في السورة :
يوم ترجف الراجفة . تتبعها الرادفة . قلوب يومئذ واجفة . أبصارها خاشعة . يقولون : أإنا لمردودون في الحافرة ? أإذا كنا عظاما نخرة ? قالوا : تلك إذن كرة خاسرة ! . . فإنما هي زجرة واحدة . فإذا هم بالساهرة . .
والراجفة ورد أنها الأرض استنادا إلى قوله تعالى في سورة أخرى : ( يوم ترجف الأرض والجبال ) . .
وقوله : { يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ } قال ابن عباس هما النفختان الأولى والثانية . وهكذا قال مجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وغير واحد .
وعن مجاهد : أما الأولى - وهي قوله : { يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ } - فكقوله جلت عظمته : { يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ } [ المزمل : 14 ] ، والثانية - وهي الرادفة - فهي كقوله : { وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } [ الحاقة : 14 ] .
وقد قال الإمام أحمد حدثنا وَكِيع ، حدثنا سفيان عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الطفيل بن أبي بن كعب ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جاءت الراجفة ، تتبعها الرادفة ، جاء الموت بما فيه " . فقال رجل : يا رسول الله ، أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك ؟ قال : " إذًا يكفيك الله ما أهَمَّك من دنياك وآخرتك " .
وقد رواه الترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من حديث سفيان الثوري ، بإسناده مثله{[29681]} ولفظ الترمذي وابن أبي حاتم : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلث الليل قام فقال : " يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه " .
وجملة { يوم ترجف الراجفة } إلى { خاشعة } جوابُ القسم وصريحُ الكلام موعظة . والمقصود منه لازمه وهو وقوع البعث لأن القلوب لا تكون إلا في أجسام . وقد علم أن المراد ب { يوم ترجف الراجفة } هو يوم القيامة لأنه قد عُرِّف بمثل هذه الأحوال في آيات كثيرة مما سبق نزوله مثل قوله : { إذا رجت الأرض } فكان في هذا الجواب تهويل ليوم البعث وفي طيه تحقيق وقوعه فحصل إيجاز في الكلام جامع بين الإِنذار بوقوعه والتحذير مما يجري فيه .
و { يوم ترجف الراجفة } ظرف متعلق ب { واجفة } فآل إلى أن المقسم عليه المراد تحقيقه هو وقوع البعث بأسلوب أوقع في نفوس السامعين المنكرين من أسلوب التصريح بجواب القسم ، إذ دل على المقسم عليه بعض أحواله التي هي من أهواله فكان في جواب القسم إنذار .
ولم تقرن جملة الجواب بلام جواب القسم لبعد ما بين الجواب وبين القسم بطول جملة القسم ، فيظهر لي من استعمال البلغاء أنه إذا بعد ما بين القسم وبين الجواب لا يأتون بلام القسم في الجواب ، ومن ذلك قوله تعالى : { والسماء ذات البروج } إلى { قتل أصحاب الأخدود } [ البروج : 1 4 ] . ومثله كثير في القرآن فلا يؤتى بلام القسم في جوابه إلا إذا كان الجواب موالياً لجملة القسم نحو { وتالله لأكيدن أصنامكم } [ الأنبياء : 57 ] { فوربك لنسألنهم أجمعين } [ الحجر : 92 ] ، ولأن جواب القسم إذا كان جملة اسمية لم يكثر اقترانه بلام الجواب ولم أر التصريح بجوازه ولا بمنعه ، وإن كان صاحب « المغني » استظهر في مبحث لام الجواب في قوله تعالى : { ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند اللَّه خير } [ البقرة : 103 ] أن اللام لام جواب قسم محذوف وليست لام جواب ( لو ) بدليل كون الجملة اسمية ، والاسمية قليلة من جواب ( لو ) فلم يرَ جملة الجواب إذا كانت اسمية أن تقترن باللام . وجعل صاحب « الكشاف » تبعاً للفراء وغيره جواب القسم محذوفاً تقديره : لتُبعثُنَّ .
وقُدم الظرف على متعلقة لأن ذلك الظرف هو الأهمّ في جواب القَسَم لأنه المقصود إثبات وقوعه ، فتقديم الظرف للاهتمام به والعناية به فإنه لما أكد الكلام بالقسم شمل التأكيدُ متعلقات الخبر التي منها ذلك الظرف ، والتأكيد اهتمام ، ثم أكد ذلك الظرف في الأثناء بقوله : { يومئذ } الذي هو يوم ترجف الراجفة فحصلت عناية عظيمة بهذا الخبر .
والرجف : الاضطراب والاهتزاز وفعله من باب نصَر . وظاهر كلام أهل اللغة أنه فعل قاصر ولم أر من قال : إنه يستعمل متعدياً ، فلذلك يجوز أن يكون إسناد { ترجف } إلى { الراجفة } حقيقياً ، فالمراد ب { الراجفة } : الأرض لأنها تضطّرب وتهتزّ بالزلازل التي تحصل عند فناء العالم الدنيوي والمصير إلى العالم الأخروي قال تعالى : { يوم ترجف الأرض والجبال } [ المزمل : 14 ] وقال : { إذا رجت الأرض رجاً } [ الواقعة : 4 ] وتأنيث { الراجفة } لأنها الأرض ، وحينئذ فمعنى { تتبعها الرادفة } أن رجفة أخرى تتبع الرجفة السابقة لأن صفة { الراجفة } تقتضي وقوع رجفة ، فالرادفة رجفة ثانية تتبع الرجفة الأولى .
ويجوز أن يكون إسناد { ترجف } إلى { الراجفة } مجازاً عقلياً ، أطلق { الراجفة } على سبب الرجف .
فالمراد ب { الراجفة } الصيحة والزلزلة التي ترجف الأرض بسببها جعلت هي الراجفة مبالغة كقولهم : عيشة راضية ، وهذا هو المناسب لقوله : { تتبعها الرادفة } أي تتبع تلك الراجفة ، أي مسبّبة الرجف رادفة ، أي واقعة بعدها .
ويجوز أن يكون الرجف مستعاراً لشدة الصوت فشبه الصوت الشديد بالرجف وهو التزلزل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.