والفاء فى قوله - سبحانه - : { اتقوا الله مَا استطعتم } للإفصاح والتفريع على ما تقدم .
و { مَا استطعتم } مصدرية ظرفية .
والمراد بالاستطاعة : نهاية الطاقة والجهد .
أى : إذا كان الأمر كما ذكرت لكم من أن المؤمن الصادق فى إيمانه هو الذى لا يشغله ماله أو ولده أو زوجه عن ذكر الله - تعالى - فابذلوا نهاية قدرتكم واستطاعتكم فى طاعة الله - تعالى - وداوموا على ذلك فى جميع الأوقات والأزمان .
وليس بين هذه الآية ، وبين قوله - تعالى - { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } تعارض ، لأن كلتا الآيتين تأمران المسلم بأن يبذل قصارى جهده ، ونهاية طاقته ، فى المواظبة على أداء ما كلفه الله به ، ولذلك فلا نرى ما يدعو إلى قول من قال : إن الآية التى معنا نسخت الآية التى تقول : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } قال الآلوسى : أخرج ابن أبى حاتم عند سعيد بن جبير قال : لما نزلت : { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } اشتد على القوم العمل ، فقاموا حتى ورمت أقدامهم . فأنزل الله هذه الآية { فاتقوا الله مَا استطعتم } تخفيفا على المسلمين .
وحذف متعلق التقوى ، لقصد التعميم ، أى : فاتقوا الله مدة استطاعتكم فى كل ما تأتون وما تذرون ، واعلموا أنه - تعالى - { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } و
{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } ومن الأحاديث التى وردت فى معنى الآية الكريمة ، ما رواه البخارى عن جابر بن عبد الله قال : " بايعت رسول الله - صلى الله - عليه وسلم - على السمع والطاعة ، فلقننى " فيما استطعت " " .
وعطف قوله - تعالى - { واسمعوا وَأَطِيعُواْ } على قوله { فاتقوا الله } من باب عطف الخاص على العام ، للاهتمام به .
أى : فاتقوا الله - تعالى - فى كل ما تأتون وما تذرون ، واسمعوا ما يبلغكم إياه رسولنا عنا سماع تدبر وتفكر ، وأطيعوه فى كل ما يأمركم به أو ينهاكم عنه .
{ وَأَنْفِقُواْ } مما رزقكم الله - تعالى - من خير ، يكن ذلك الإنفاق { خَيْراً لأَنفُسِكُمْ } فى دنياكم وفى آخرتكم .
{ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } أى : ومن يستطع أن يبعد نفسه عن الشح والبخل .
{ فأولئك هُمُ المفلحون } أى : الفائزون فوزا تاما لا نقص معه .
ويهتف للذين آمنوا بتقوى الله في حدود الطاقة والإستطاعة ، وبالسمع والطاعة :
( فاتقوا الله ما استطعتم - واسمعوا وأطيعوا ) . .
وفي هذا القيد : ( ما استطعتم )يتجلى لطف الله بعباده ، وعلمه بمدى طاقاتهم في تقواه وطاعته . وقد قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه " فالطاعة في الأمر ليس لها حدود ، ومن ثم يقبل فيها ما يستطاع . أما النهي فلا تجزئة فيه فيطلب بكامله دون نقصان . ويهيب بهم إلى الإنفاق :
فهم ينفقون لأنفسهم . وهو يأمرهم أن ينفقوا الخير لأنفسهم . فيجعل ما ينفقونه كأنه نفقة مباشرة لذواتهم ، ويعدها الخير لهم حين يفعلون .
ويريهم شح النفس بلاء ملازما . السعيد السعيد من يخلص منه ويوقاه ؛ والوقاية منه فضل من الله :
وقوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ {[28938]} } أي : جهدكم وطاقتكم . كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه " {[28939]}
وقد قال بعض المفسرين - كما رواه مالك ، عن زيد بن أسلم - إن هذه الآية العظيمة ناسخة للتي في " آل عمران " وهي قوله :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 102 ]
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثني يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر ، حدثني ابن لَهِيعة ، حدثني عطاء - هو ابن دينار - عن سعيد بن جبير في قوله : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } قال : لما نزلت الآية اشتد على القوم العمل ، فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم ، فأنزل الله تخفيفًا على المسلمين : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } فنسخت الآية الأولى .
وروي عن أبي العالية ، وزيد بن أسلم ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، والسُّدِّيّ ، ومُقاتل بن حَيَّان ، نحو ذلك .
وقوله : { وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا } أي : كونوا منقادين لما يأمركم الله به ورسوله ، ولا تحيدوا عنه يمنة ولا يسرة ، ولا تقدموا بين يدي الله ورسوله ، ولا تتخلفوا عما به أمرتم ، ولا تركبوا ما عنه زُجرتم .
وقوله تعالى : { وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأنْفُسِكُمْ } أي : وابذلوا مما رزقكم الله على الأقارب والفقراء والمساكين وذوي الحَاجات ، وأحسنوا إلى خلق الله كما أحسن إليكم ، يكن خيرًا لكم في الدنيا والآخرة ، وإن لا تفعلوا يكن شرًّا لكم في الدنيا والآخرة .
وقوله : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } تقدم تفسيره في سورة " الحشر " وذكر الأحاديث الواردة في معنى هذه الآية ، بما أغنى عن إعادته ها هنا ، ولله الحمد والمنة ،
فاتقوا الله ما استطعتم أي ابذلوا في تقواه جهدكم وطاقتكم واسمعوا مواعظه وأطيعوا أوامره وأنفقوا في وجوه الخير خالصا لوجهه خيرا لأنفسكم أي افعلوا ما هو خير لها وهو تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر ويجوز أن يكون صفة مصدر محذوف تقديره انفاقا خيرا أو خبرا لكان مقدرا جوابا للأوامر ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون سبق تفسيره .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فاتقوا الله} في أمره ونهيه {ما استطعتم} يعني ما أطعتم {واسمعوا} له مواعظه {وأطيعوا} أمره {وأنفقوا} من أموالكم في حق الله {خيرا لأنفسكم}.
ثم رغبهم في النفقة، فقال: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} آية أي يعطى حق الله من ماله.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"فاتّقُوا اللّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ "يقول تعالى ذكره: واحذروا الله أيها المؤمنون وخافوا عقابه، وتجنبوا عذابه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، والعمل بما يقرّب إليه ما أطقتم وبلَغه وسعكم.
وذُكر أن قوله: "فاتّقُوا اللّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ" نزل بعد قوله: "اتّقُوا اللّهَ حَقّ تُقاتِهِ" تخفيفا عن المسلمين، وأن قول "فاتّقُوا اللّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ" ناسخ قوله: "اتّقُوا اللّهَ حَقّ تُقاتِهِ"...
وقد تقدم بياننا عن معنى الناسخ والمنسوخ بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، وليس في قوله: "فاتّقُوا اللّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ" دلالة واضحة على أنه لقوله: "اتّقُوا اللّهَ حَقّ تُقاتِهِ" ناسخ، إذ كان محتملاً قوله: "اتقوا الله حقّ تقاته" فيما استطعتم، ولم يكن بأنه له ناسخ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان ذلك كذلك، فالواجب استعمالهما جميعا على ما يحتملان من وجوه الصحة.
وقوله: "واسمَعُوا وأطِيعُوا" يقول: واسمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأطيعوه فيما أمركم به ونهاكم عنه "وَأَنْفِقُوا خَيْرا لأنْفُسِكُمْ" يقول: وأنفقوا مالاً من أموالكم لأنفسكم تستنقذوها من عذاب الله، والخير في هذا الموضع المال.
وقوله: "وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فأُولَئِكَ هُمُ المُفْلحُونَ" يقول تعالى ذكره: ومن يَقِه الله شحّ نفسه، وذلك اتباع هواها فيما نهى الله عنه...
وقوله: "فأُولَئِكَ هُمُ المُفْلحُونَ" يقول: فهؤلاء الذين وُقُوا شح أنفسهم، المُنجحون الذين أدركوا طلباتهم عند ربهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... {ومن يوق شح نفسه}...ومن يوق ظلم نفسه، والشح: الظلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
...الاتقاء: الامتناع من الردى باجتناب ما يدعو اليه الهوى... (ومن يوق شح نفسه) أي من منع ووقى شح نفسه. والشح: منع الواجب في الشرع.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فاتقوا الله} مظهراً غير مضمر تعظيماً للمقام واحترازاً من أن يتوهم نوع تقيد فأفهم الإظهار أن المعنى: اجعلوا بينكم وبين سخط الملك الأعلى وقاية من غير نظر إلى حيثية ولا خصوصية بشيء ما، باجتناب نواهيه بعد امتثال أوامره...
. {ما استطعتم} أي ما دمتم في الجملة قادرين مستطيعين...
{واسمعوا} أي سماع إذعان وتسليم لما توعظون به ولجميع أوامره {وأطيعوا} أي وصدقوا ذلك الإذعان بمباشرة الأفعال الظاهرة في الإسلاميات من القيام بأمر الله والشفقة على خلق الله في كل أمر ونهي على حسب الطاقة...
{وأنفقوا} أي أوقعوا الإنفاق كما حد لكم فيما أوجبه أو ندب إليه وإن كان في حق من اطلعتم منها على عداوة، والإنفاق لا يخص نوعاً بل يكون ما رزق الله من الذاتي والخارجي...
{خيراً} أي يكن ذلك أعظم خير واقع {لأنفسكم} فإن الله يعطي خيراً منه في الدنيا ما يزكي به النفس، ويدخر عليه من الجزاء في الآخرة ما لا يدري كنهه...
{ومن يوق} بناه للمفعول تعظيماً للترغيب فيه نفسه مع قطع الناضر عن الفاعل أي يقيه واق أيّ واق كان -وأضافه إلى ما الشؤم كله منه فقال: {شح نفسه} فيفعل في ماله وجميع ما أمر به ما يطيقه مما أمر به موقناً به مطمئناً إليه حتى يرتفع عن قلبه الأخطار، ويتحرز عن رق المكونات، والشح: خلق باطن هو الداء العضال...
{فأولئك} أي العالو الرتبة {هم} أي خاصة {المفلحون} أي الذين حازوا جميع المرادات بما اتقوا الله فيه من الكونيات من المال والولد والأهل والمشوشات من جميع القواطع...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فاء فصيحة وتفريع على ما تقدم، أي إذا علمتم هذا فاتقوا الله فيما يجب من التقوى في معاملة الأولاد والأزواج ومصارِف في الأموال فلا يصدّكم حب ذلك والشغل به عن الواجبات، ولا يخرجكم الغضب ونحوه عن حدّ العدل المأمور به، ولا حُبُّ المال عن أداء حقوق الأموال وعن طلبها من وجوه الحلال. فالأمر بالتقوى شامل للتحذير المتقدم وللترغيب في العفو كما تقدم ولما عدا ذلك. والخطاب للمؤمنين...
ولما كانت التقوى في شأن المذكورات وغيرها قد يعرض لصاحبها التقصير في إقامتها حرصاً على إرضاء شهوة النفس في كثير من أحوال تلك الأشياء زيد تأكيد الأمر بالتقوى بقوله: {ما استطعتم}. و {مَا} مصدرية ظرفية، أي مدة استطاعتكم ليعم الأزمان كلها ويعم الأحوال تبعاً لعموم الأزمان ويعم الاستطاعات، فلا يتخلوا عن التقوى في شيء من الأزمان. وجعلت الأزمان ظرفاً للاستطاعة لئلا يقصروا بالتفريط في شيء يستطيعونه فيما أمروا بالتقوى في شأنه ما لم يخرج عن حدّ الاستطاعة إلى حدّ المشقة قال تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185]. فليس في قوله: {ما استطعتم} تخفيف ولا تشديد ولكنه عَدل وإنصافٌ. ففيه ما عليهم وفيه ما لهم...
وعطفُ {واسمعوا وأطيعوا} على (اتقوا الله) من عطف الخاص على العام للاهتمام به...
والمراد: اسمعوا الله، أي أطيعوه بالسمع للرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته...
.وجملة {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} تذييل...
والمعنى: أن الإِنفاق يقي صاحبه من الشحّ المنهي عنه...
.ولما كان ذلك فلاحاً عظيماً جيء في جانبه بصيغة الحصر بطريقة تعريف المسند، وهو قصر جنس المفلحين على جنس الذين وُقُوا شحّ أنفسهم...