ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما سيقال لهذا العاشى عن ذكر الله ولقرينه على سبيل التأنيب والتوبيخ فقال : { وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم إِذ ظَّلَمْتُمْ } .
والضمير فى قوله : { يَنفَعَكُمُ } يعود إلى التمنى المذكور فى قوله : { ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين . . } و { إِذ } ظرف لما مضى من الزمان ، بدل من { اليوم } .
أى : ولن ينفعكم ندمكم وتمنيكم اليوم شيئا ، بعد أن تبين لكم أنكم كنتم ظالمين فى الدنيا ، ومصرين على الكفر والضلال .
وقوله : { أَنَّكُمْ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ } تعليل لما قبله ، أى : ولن ينفعكم اليوم تمنيكم وندمكم لأنكم فى هذا اليوم أنتم وقرناؤكم مشتركون فى العذاب ، كما كنتم فى الدنيا مشتركون فى سببه ، وهو الكفر والضلال .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه : قوله : { أَنَّكُمْ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ } فى محل الرفع على الفاعلية . يعنى : ولن ينفعكم كونكم مشتركين فى العذاب كما ينفع الواقعين فى الأمر الصعف اشتراكهم فيه لتعاونهم فى تحمل أعبائه . لأن كل واحد منكم ، به من العذاب ما هو فوق طاقته .
ولك أن تجعل الفاعل التنمى فى قوله : { ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ . . . } على معنى : ولن ينفعكم اليوم ما أنتم فيه من تمنى مباعدة القرين ، وقوله : { أَنَّكُمْ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ } تعليل ، أى : ولن ينفعكم تمنيكم ، لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤهكم فى العذاب . . . وتقويه قراءة من قرأ { إنكم } بالكسر .
وقوله تعالى : { ولن ينفعكم اليوم } الآية حكاية عن مقالة تقال لهم يوم القيامة ، وهي مقالة موحشة حرمتهم روح التأسي ، لأنه يوقفهم بها على أنهم لا ينفعهم التأسي ، وذلك لعظم المصيبة وطول العذاب واستمرار مدته ، إذ التأسي راحة كل شيء في الدنيا في الأغلب ، ألا ترى إلى قول الخنساء : [ الوافر ]
ولولا كثرة الباكين حولي . . . على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن . . . أعزي النفس عنه بالتأسي{[10211]}
فهذا التأسي قد كفاها مؤونة قتل النفس ، فنفى الله تعالى عنهم الانتفاع بالتأسي ، وفي ذلك تعذيب لهم ويأس من كل خير ، وفاعل قوله : { ينفعكم } الاشتراك .
وقرأ جمهور القراء : «أنكم » بفتح الألف . وقرأ ابن عامر وحده : «إنكم » بكسر الألف ، وقد يجوز أن يكون الفاعل { ينفعكم } التبري الذي يدل عليه قوله : { يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين } وعلى هذا يكون «أنكم » في موضع نصب على المفعول من أجله ، وتخرج الآية على معنى نفي الأسوة .
الظاهر أن هذه الجملة معطوفة على جملة { قال يا ليت بيني وبينك بُعْدَ المشرقين } [ الزخرف : 38 ] وأن قولا محذوفاً دلّ عليه فعل { جاءانا } [ الزخرف : 38 ] الدال على أن الفريقين حضرا للحساب وتلك الحضرة تؤذن بالمقاولة فإن الفريقين لما حضرا وتبرأ أحدهما من الآخر قصداً للتفصي من المؤاخذة كما تقدمت الإشارة إليه آنفاً فيقول الله ولن ينفعكم اليوم أنكم في العذاب مشتركون . والخطاب موجه للذين عَشَوْا عن ذكر الرحمان ولشياطينهم .
وفي هذا الكلام إشارة إلى كلام مطوي ، والتقديرُ : لا تُلقوا التبعة على القرناء فأنتم مؤاخذون بطاعتهم وهم مؤاخذون بإضلالكم وأنتم مشتركون في العذاب ولن ينفعكم أنكم في العذاب مشتركون لأن عذاب فريق لا يخفف عن فريق كما قال تعالى : { ربّنا هؤلاء أضلُّونا فئاتهم عذاباً ضعفاً من النّار قال لكلٍ ضعفٌ ولكن لا تعلمون } [ الأعراف : 38 ] .
ووقوع فعل { ينفعكُم } في سياق النفي يدل على نفي أن يكون الاشتراك في العذاب نافعاً بحال لأنه لا يخِف عن الشريك من عذابه . وأما ما يتعارفه النّاس من تسلّي أحد برؤية مثله مِمَّن مُنِي بمصيبة فذلك من أوهام البشر في الحياة الدّنيا ، ولعلّ الله جعل لهم ذلك رحمة بهم في الدّنيا ، وأما الآخرة فعالَم الحقائق دون الأوهام . وفي هذا التوهم جاء قول الخنساء :
ولَولا كثرة الباكين حولي *** على إخوانهم لقتلتُ نفسي
وقرأ الجمهور { أنكم } بفتح همزة ( أنَّ ) على جعل المصدر فاعلاً . وقرأ ابن عامر { إنكم } بكسر الهمزة على الاستئناف ويكون الوقف عند قوله : { إذ ظلمتم } وفاعل { ينفعكم } ضمير عائد على التمني بقولهم : { يا ليت بيني وبينك بُعْد المشرقين } [ الزخرف : 38 ] ، أي لن ينفعكم تمنِّيكم ولا تفصِّيكم .
و { إذْ } أصله ظرف مُبهَم للزمن الماضي تفسره الجملة التي يضاف هو إليها ويخرج عن الظرفية إلى ما يقاربها بتوسع أو إلى ما يشابهها بالمجاز . وهو التعليل ، وهي هنا مجاز في معنى التعليل ، شبهت علة الشيء وسببه بالظرف في اللزوم له . وقد ذكَر في « مغني اللبيب » معنى التعليل من معاني { إذْ } ولم ينسبه لأحد من أيمة النحو واللّغة . وجوز الزمخشري أن تكون { إذْ } بدلاً من { اليوم } ، وتأويل الكلام على جعل فعل { ظلمتم } بمعنى : تبيَّن أنكم ظلمتم ، أي واستعمل الإخبار بمعنى التبيّن ، كقول زائد بن صعصعة الفقعسي :
إذا ما انتسبْنَا لم تَلدني لئيمة *** ولم تَجِدِي من أن تُقرِّي به بدّا
أي تبين أن لم تلدني لئيمة ، وتبعه ابن الحاجب في أماليه وقال ابن جني : راجعتُ أبا علي مراراً في قوله تعالى : { ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم } الآية مستشكلاً إبدالَ { إذْ من اليومَ } فآخِرُ ما تحصل منه أن الدنيا والآخرة سواء في حكم الله وعِلمه فكأنّ { اليوم } ماض أو كأن { إذ } مستقبلة اهـ . وهو جواب وَهِن مدخول .
وأقول : اجتمع في هذه الآية دوال على ثلاثة أزمنة وهي { لن } لنفي المستقبل ، و { اليومَ } اسم لزمن الحالِ ، و { إذ } اسم لزمن المضيّ ، وثلاثتها منوطة بفعل { ينفعكم } ومقتضياتها يُنافي بعضها بعضاً ، فالنفي في المستقبل ينافي التقييد ب { اليوم } الذي هو للحال ، و { إذ } ينافي نفي النفع في المستقبل وينافي التقييد ب { اليومَ } فتصدى الزمخشري وغيره لدفع التنافي بين مقتضى { إذْ } ومقتضى { اليومَ } بتأويل معنى { إذْ } كما علمت ، ولم يتصد هو ولا غيره لدفع التنافي بين مقتضى { اليومَ } الدال على زمن الحال وبين مقتضى { لن } وهو حصول النفي في الاستقبال .
وأنا أرى لدفْعه أن يكون { اليومَ } ظرفاً للحكم والإخبار ، أي تقرر اليومَ انتفاءُ انتفاعكم بالاشتراك في العذاب انتفاء مؤبّداً من الآن ، كقول مِقدام الدُبِيْري :
لن يخلص العامَ خليل عشْرا *** ذاق الضِمَادَ أوْ يزورَ القبرا
وقد حصل من اجتماع هذه الدوالّ الثلاث في الآية طباق عزيز بين ثلاثة معان متضادة في الجملة .