اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَن يَنفَعَكُمُ ٱلۡيَوۡمَ إِذ ظَّلَمۡتُمۡ أَنَّكُمۡ فِي ٱلۡعَذَابِ مُشۡتَرِكُونَ} (39)

قوله : { وَلَن يَنفَعَكُمُ } في فاعله قولان :

أحدهما : أنه ملفوظ به وهو «أنَّكُمْ » وما في خبرها التقدير : ولن ينفعكم اشتراكُكُمْ في العذاب بالتأسِّي كما ينفعكم الاشتراك في مصائب الدنيا فيتأسى المصَاب بمِثْلِهِ{[49861]} .

ومنه قول الخنساء :

4406 وَلَوْلا كَثْرَةُ البَاكِينَ حَوْلِي *** عَلَى مَوْتَاهُمُ لَقَتَلْتُ نَفْسِي

وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلكِنْ *** أُعَزِّي النَّفْسَ عَنْهُمْ بِالتأَسِّي{[49862]}

والثاني : أنه مضمر ، فقدره بعضهم ضمير التمني ، المدلول عليه بقوله : «يَا لَيْتَ بَيْنِي » أي لن ينفعكم تمنيكم البُعْد{[49863]} .

وبعضهم : لن ينفعكم اجتماعكم . وبعضهم : ظلمكم ، وجحدكم{[49864]} . وعبارة من عبّر بأن الفاعل محذوف مقصوده الإضمار المذكور لا الحذف ؛ إذ الفاعل لا يحذف إلا في مواضع ، ليس هذا منها{[49865]} وعلى هذا الوجه يكون قوله : «أنكم » تعليل ، أي لأنَّكُمْ ، فحذف الخافض ، فجرى في محلها الخلاف ، أهو نصب أم جر ؟ ويؤيد إضمار الفاعل لا أنه هو إنكم قراءة إنكم بالكسر فإنه استئناف مفيد للتعليل .

قوله : { إذْ ظَلَمْتُمْ } قد استشكل المعربون هذه الآية ، ووجهه هو أن قوله ( اليوم ) ظرف حالي و«إذْ » ظرف ماض ، و«ينفعكم » مستقبل ، لاقترانه بلن ، التي لنفي المستقبل ، والظاهر أنه عامل في الظَّرْفَيْنِ ، وكيف يعمل الحدث المستقبل الذي لم يقع بعد في ظرف حاضر أو ماض ؟ ! هذا ما لا يجوز . وأجيب : عن إعماله في الظرف على سبيل قربه منه ، لأنَّ الحال قريب من الاستقبال ، فيجوز في ذلك ، قال تعالى : { فَمَن يَسْتَمِعِ الآن } [ الجن : 9 ] ، وقال الشاعر :

4407 . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** سَأسْعَى الآنَ إِذْ بَلَغَتْ إنَاهَا{[49866]}

وهو إقناعي ، وإلا فالمستقبل يستحيل وقوعه في الحال عقلاً . وأما قوله : «إذْ » ففيها للناس أوجه كثيرة : قال ابن جني : راجعت أبا علي فيها مراراً ، وآخر ما حصلت منه أن الدنيا والآخرة متصلتان ، وهما سواء في حكم الله تعالى وعلمه .

«فَإِذْ » بدل من «اليوم » حتى كأنه مستقبل ، أو كأن اليوم ماض{[49867]} .

وإلى هذا نحا الزمخشري ، قال : «وإذْ بدل من اليوم » وحمله الزمخشري على معنى إذ تَبَيَّنَ وصح ظلمكم ولم يبق لأحدٍ لكم شُبْهَة في أنكم كنتم ظالمين ونظيره :

4408 إِذَا انتَسَبْنا لَمْ تَلِدْنِي لئيمةٌ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . {[49868]}

أي تبين أني ولد كريمة{[49869]} .

قال أبو حيان : ولا يجوز البدل ما دامت إذ على موضوعها من المُغَيَّا فإن جعلت لمطلق الزمان جاز{[49870]} .

قال شهاب الدين : «لم يُعْهد في إذ أنها تكون لمطلق الزمان بل هي موضوعة لزمان خاص بالمضي كَأَمْسِ{[49871]} .

الثاني : أن في الكلام حذف مضاف تقديره : «بَعْدَ إِذْ ظَلَمْتُمْ »{[49872]} .

الثالث : أنها للتعليل ، وحينئذ تكون حرفاً للتعليل كاللاّم{[49873]} .

الرابع : أن الفاعل في «إذ » هو ذلك الفاعل المقدر ، لا ضميره ، والتقدير : ولن يَنْفَعَكُمْ ظلمُكُم أو جُحُودكم إذْ ظَلَمْتُمْ{[49874]} .

الخامس : أن العامل في إذْ ما دل عليه المعنى كأنه قال : ولكن لن ينفعكم اجتماعُكُمْ إذْ ظَلَمْتُمْ . قاله الحَوْفيُّ{[49875]} . ثم قال : وفاعل ينفعكم الاشتراك{[49876]} انتهى .

وظاهر هذا متناقض ، لأنه جعل الفاعل أولاً اجتماعكم ثم جعله أخِراً الاشتراك . ومنع أن يكون «إذْ » بدلاً من «اليوم » لِتَغَايُرِهما في الدَّلالة{[49877]} .

وفي كتاب أبي البقاء : وقيل : إذْ بمعنى «إنْ » أي إن ظلمتم{[49878]} . ولم يقيدها بكونها أَن بالفتح أو الكسر{[49879]} . ولكن قال أبو حيان : «وقيل : إذ للتعليل حرف بمعنى أَنْ ، يعني بالفتح{[49880]} . وكأنه أراد ما ذكره أبو البقاء إلا أن تسميته «أَنْ » للتعليل مجازاً ، فَإِنَّها على حذف حرف العلة أي لأَنْ ، فلمصاحبتها لها والاستغناء بها عنها سمَّاها باسمها . ولا ينبغي أن يعتقد أنها في كتاب أبي البقاء بالكسر على الشرطية ، لأن معناه بعيدٌ{[49881]} .

وفي كتاب مجاهِدٍ : أن ابن عامر قرأ : إنكم بالكسر ، على الاستئناف المفيد للعلة وحينئذ يكون الفاعل مضمراً على أحد التقادير المذكورة{[49882]} .

فصل

المعنى : { وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم } في الآخرة «إذْ ظَلَمْتُمْ » أشركتم في الدنيا { أَنَّكُمْ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ } أي لا ينفعكم الاشتراك في العذاب ولا يخفف الاشتراك عنكم ؛ لأن لكل واحد من الكفار والشياطين الحَظَّ الأوفر من العذاب . وقال مقاتل : لن ينفعكم الاعتذار والندم اليومَ ، فأنتم وقرناؤكم اليوم مشتركون في العذاب ، كما كنتم في الدنيا تشتركون{[49883]} . واعلم أنه تعالى بين أن الشركة في العذاب لا تفيد التخفيف ، كما كان يفيده في الدنيا ، والسبب فيه وجوه :

الأول : أن ذلك العذاب الشديد عظيم ، واشتغال{[49884]} كل واحد بنفسه يذهله عن حال الآخر ، فلا جَرَمَ لم تفد الشركة خفةً .

الثاني : إذا اشترك الأقوام في العذاب ، أعان كل واحد منهم صاحبه بما مقدر عليه ليحصل بسببه بعض التخفيف . وهذا المعنى متبدّد في القيامة .

الثالث : أن جلوس الإنسان مع قرينه يُفيده أنواعاً كثيرة من السلوة . فبين تعالى أن الشيطان وإنْ كَانَ قريناً له ، إلا أن مجالسته في القيامة لا توجب السلوة وخفة العقوبة{[49885]} ؟


[49861]:قاله أبو حيان معنى في بحره 8/17 والسمين في الدر لفظا 4/785.
[49862]:من تمام الوافر لها وهي تماضر بنت عمرو بن الشريد، ترثي أخاها صخرا. والشاهد: في كلمة التأسي فإن معنى التأسي إتباع صاحب المصيبة بمثله من الناس أصحاب المصائب الأخرى. وانظر ديوانها (85) والبحر المحيط 8/17، والدر المصون 4/785، والخصائص 2/175، والكشاف 3/489، وشرح شواهده 431، والقرطبي 16/91، والسراج المنير 3/564.
[49863]:ذكره العكبري في التبيان 1139؛ فعلى هذا يكون أنكم بمعنى لأنكم.
[49864]:وانظر هذه الأقوال جميعا في الكشاف 3/489، والبحر المحيط 8/17.
[49865]:الأليق والأدق عند النحاة إضمار الفاعل لا حذفه، فلم يقل بحذفه إلا القليل منهم الإمام الكسائي ومن المواضع التي يجب تقدير الفاعل فيها: الأول: أن يكون مقدرا مع عامله مثل محمدا في جواب من أحببت؟ الثاني: فاعل المصدر إذا لم يكن ملفوظا به نحو: أو إطعام في يوم. الثالث: فعل المفردة المؤنثة وجماعة الذكور إذا أكد بالنون، نحو: لتضربن فإن الضمير قد حذف لالتقاء الساكنين ياء المخاطبة وواو الجماعة والنون الأولى الساكنة وهذا الحذف عارض فهو واجب التقدير. الرابع: أن يكون مدلولا عليه بالفحوى أو اللفظ مثل "ثم بدا لهم" ومثل: "ولا يشرب الخمر حين يشربها" الخامس: الفاعل المضمر وجوبا مع أفعل، ونفعل، وتفعل. السادس: الفاعل المضمر في نحو: نعم رجلا زيد. في كل هذه المواضع ينبغي أن القول: إن الفاعل مضمر؛ لأن الكلام لا يستقيم إلا به، فهو النية وإن لم يكن متلفظا به. أما إذا حذف الفاعل لغرض من الأغراض كتعينه أو الخوف عليه أو منه وأقيم المفعول مقامه نائبا في الأحكام اللفظية وصار بهذا التقديم عمدة في اللفظ بعد أن كان فضلة فلا شك في أن الفاعل في مثل هذه المواضع محذوف، لأنه لم يتعلق بذكره في غرض ما، ولم يكن معتمد الفائدة والحال هذه. وانظر الهمع للإمام السيوطي 1/160 وشرح الأشموني على الألفية 2/44 بتصرف.
[49866]:عجز بيت من تمام الوافر، لعنترة العبسي، وصدره: فإني لست خاذلكم ولكن وشاهده: إعمال الفعل وهو "أسعى" في الظرف وهو الآن لقربه منه فإن الحال قريب من الاستقبال فيجوز في ذلك حينئذ. وانظر البحر المحيط 8/17 والدر المصون 4/786 والديوان 77.
[49867]:باللفظ من الدر المصون 4/786 وانظر هذا كله فيه وفي البحر المحيط المرجع السابق. وقد ألمح ابن جني إلى ذلك في خصائصه حيث قال: صار الوقتان على تباينهما وتنائيهما كالموقتين المقترنين الدانيين المتلاصقين، نحو: أحسنت إليه إذ شكرني، وأعطيته حين سألني وهذا أمر استقر بيني وبين أبي علي رحمه الله مع المباحثة. وانظر الخصائص 3/224 و255 و2/172.
[49868]:هذا صدر بيت من الطويل لزائد بن صعصعة الفقعسي وعجزه: ولم تجدي من أن تقري بها بدا وهو يبين لامرأته أنه من أصل كريم، وأنها بنت لئيمة. والشاهد: أن إذا بمعنى الماضي رغم أنه لما يستقبل من الزمان؛ لأن المعنى تبين بالانتساب أني ولد كريمة. قاله الزمخشري. وانظر البيت في الكشاف 3/489 ومعاني الفراء 1/61 و178 والمغني 26 والدر المصون 4/787.
[49869]:الكشاف 3/489 له.
[49870]:بالمعنى من البحر 8/17.
[49871]:الدر المصون له 4/787.
[49872]:التبيان 1140 والبحر 8/17.
[49873]:البحر المرجع السابق.
[49874]:التبيان المرجع السابق.
[49875]:نقله أبو البقاء في تبيانه السابق وأبو حيان في بحره السابق أيضا.
[49876]:الدر المصون 4/787.
[49877]:فاليوم ظرف للحال، وإذ ظرف للمعنى فلهذا يتغايران مدلولا وانظر البحر المحيط 8/17 والدر المصون 4/778.
[49878]:في التبيان له أي لأن ظلمتم باللام.
[49879]:ضبطها محقق الكتاب بالفتح.
[49880]:البحر المحيط 8/17.
[49881]:وانظر الدر المصون 4/778.
[49882]:التبيان 1140 والكشاف 3/489 والبحر المحيط 8/7 ولم تنسب في الكتب الثلاثة ونسبها القرطبي في الجامع إلى ابن عامر باختلاف عنه انظر القرطبي 16/91.
[49883]:انظر القرطبي 16/91، 92.
[49884]:في ب فالاشتغال بالفاء.
[49885]:الرازي بالمعنى 27/214.