قوله : { وَلَن يَنفَعَكُمُ } في فاعله قولان :
أحدهما : أنه ملفوظ به وهو «أنَّكُمْ » وما في خبرها التقدير : ولن ينفعكم اشتراكُكُمْ في العذاب بالتأسِّي كما ينفعكم الاشتراك في مصائب الدنيا فيتأسى المصَاب بمِثْلِهِ{[49861]} .
4406 وَلَوْلا كَثْرَةُ البَاكِينَ حَوْلِي *** عَلَى مَوْتَاهُمُ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلكِنْ *** أُعَزِّي النَّفْسَ عَنْهُمْ بِالتأَسِّي{[49862]}
والثاني : أنه مضمر ، فقدره بعضهم ضمير التمني ، المدلول عليه بقوله : «يَا لَيْتَ بَيْنِي » أي لن ينفعكم تمنيكم البُعْد{[49863]} .
وبعضهم : لن ينفعكم اجتماعكم . وبعضهم : ظلمكم ، وجحدكم{[49864]} . وعبارة من عبّر بأن الفاعل محذوف مقصوده الإضمار المذكور لا الحذف ؛ إذ الفاعل لا يحذف إلا في مواضع ، ليس هذا منها{[49865]} وعلى هذا الوجه يكون قوله : «أنكم » تعليل ، أي لأنَّكُمْ ، فحذف الخافض ، فجرى في محلها الخلاف ، أهو نصب أم جر ؟ ويؤيد إضمار الفاعل لا أنه هو إنكم قراءة إنكم بالكسر فإنه استئناف مفيد للتعليل .
قوله : { إذْ ظَلَمْتُمْ } قد استشكل المعربون هذه الآية ، ووجهه هو أن قوله ( اليوم ) ظرف حالي و«إذْ » ظرف ماض ، و«ينفعكم » مستقبل ، لاقترانه بلن ، التي لنفي المستقبل ، والظاهر أنه عامل في الظَّرْفَيْنِ ، وكيف يعمل الحدث المستقبل الذي لم يقع بعد في ظرف حاضر أو ماض ؟ ! هذا ما لا يجوز . وأجيب : عن إعماله في الظرف على سبيل قربه منه ، لأنَّ الحال قريب من الاستقبال ، فيجوز في ذلك ، قال تعالى : { فَمَن يَسْتَمِعِ الآن } [ الجن : 9 ] ، وقال الشاعر :
4407 . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** سَأسْعَى الآنَ إِذْ بَلَغَتْ إنَاهَا{[49866]}
وهو إقناعي ، وإلا فالمستقبل يستحيل وقوعه في الحال عقلاً . وأما قوله : «إذْ » ففيها للناس أوجه كثيرة : قال ابن جني : راجعت أبا علي فيها مراراً ، وآخر ما حصلت منه أن الدنيا والآخرة متصلتان ، وهما سواء في حكم الله تعالى وعلمه .
«فَإِذْ » بدل من «اليوم » حتى كأنه مستقبل ، أو كأن اليوم ماض{[49867]} .
وإلى هذا نحا الزمخشري ، قال : «وإذْ بدل من اليوم » وحمله الزمخشري على معنى إذ تَبَيَّنَ وصح ظلمكم ولم يبق لأحدٍ لكم شُبْهَة في أنكم كنتم ظالمين ونظيره :
4408 إِذَا انتَسَبْنا لَمْ تَلِدْنِي لئيمةٌ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . {[49868]}
أي تبين أني ولد كريمة{[49869]} .
قال أبو حيان : ولا يجوز البدل ما دامت إذ على موضوعها من المُغَيَّا فإن جعلت لمطلق الزمان جاز{[49870]} .
قال شهاب الدين : «لم يُعْهد في إذ أنها تكون لمطلق الزمان بل هي موضوعة لزمان خاص بالمضي كَأَمْسِ{[49871]} .
الثاني : أن في الكلام حذف مضاف تقديره : «بَعْدَ إِذْ ظَلَمْتُمْ »{[49872]} .
الثالث : أنها للتعليل ، وحينئذ تكون حرفاً للتعليل كاللاّم{[49873]} .
الرابع : أن الفاعل في «إذ » هو ذلك الفاعل المقدر ، لا ضميره ، والتقدير : ولن يَنْفَعَكُمْ ظلمُكُم أو جُحُودكم إذْ ظَلَمْتُمْ{[49874]} .
الخامس : أن العامل في إذْ ما دل عليه المعنى كأنه قال : ولكن لن ينفعكم اجتماعُكُمْ إذْ ظَلَمْتُمْ . قاله الحَوْفيُّ{[49875]} . ثم قال : وفاعل ينفعكم الاشتراك{[49876]} انتهى .
وظاهر هذا متناقض ، لأنه جعل الفاعل أولاً اجتماعكم ثم جعله أخِراً الاشتراك . ومنع أن يكون «إذْ » بدلاً من «اليوم » لِتَغَايُرِهما في الدَّلالة{[49877]} .
وفي كتاب أبي البقاء : وقيل : إذْ بمعنى «إنْ » أي إن ظلمتم{[49878]} . ولم يقيدها بكونها أَن بالفتح أو الكسر{[49879]} . ولكن قال أبو حيان : «وقيل : إذ للتعليل حرف بمعنى أَنْ ، يعني بالفتح{[49880]} . وكأنه أراد ما ذكره أبو البقاء إلا أن تسميته «أَنْ » للتعليل مجازاً ، فَإِنَّها على حذف حرف العلة أي لأَنْ ، فلمصاحبتها لها والاستغناء بها عنها سمَّاها باسمها . ولا ينبغي أن يعتقد أنها في كتاب أبي البقاء بالكسر على الشرطية ، لأن معناه بعيدٌ{[49881]} .
وفي كتاب مجاهِدٍ : أن ابن عامر قرأ : إنكم بالكسر ، على الاستئناف المفيد للعلة وحينئذ يكون الفاعل مضمراً على أحد التقادير المذكورة{[49882]} .
المعنى : { وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم } في الآخرة «إذْ ظَلَمْتُمْ » أشركتم في الدنيا { أَنَّكُمْ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ } أي لا ينفعكم الاشتراك في العذاب ولا يخفف الاشتراك عنكم ؛ لأن لكل واحد من الكفار والشياطين الحَظَّ الأوفر من العذاب . وقال مقاتل : لن ينفعكم الاعتذار والندم اليومَ ، فأنتم وقرناؤكم اليوم مشتركون في العذاب ، كما كنتم في الدنيا تشتركون{[49883]} . واعلم أنه تعالى بين أن الشركة في العذاب لا تفيد التخفيف ، كما كان يفيده في الدنيا ، والسبب فيه وجوه :
الأول : أن ذلك العذاب الشديد عظيم ، واشتغال{[49884]} كل واحد بنفسه يذهله عن حال الآخر ، فلا جَرَمَ لم تفد الشركة خفةً .
الثاني : إذا اشترك الأقوام في العذاب ، أعان كل واحد منهم صاحبه بما مقدر عليه ليحصل بسببه بعض التخفيف . وهذا المعنى متبدّد في القيامة .
الثالث : أن جلوس الإنسان مع قرينه يُفيده أنواعاً كثيرة من السلوة . فبين تعالى أن الشيطان وإنْ كَانَ قريناً له ، إلا أن مجالسته في القيامة لا توجب السلوة وخفة العقوبة{[49885]} ؟
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.