البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَن يَنفَعَكُمُ ٱلۡيَوۡمَ إِذ ظَّلَمۡتُمۡ أَنَّكُمۡ فِي ٱلۡعَذَابِ مُشۡتَرِكُونَ} (39)

{ ولن ينفعكم اليوم } : حكاية حال يقال لهم يوم القيامة ، وهي مقالة موحشة حرمتهم روح التأسي ، لأنه وقفهم بها على أنه لا ينفعهم التأسي لعظم المصيبة وطول العذاب واستمراره مدته ، إذ التأسي راحة كل مصاب في الدنيا في الأغلب .

ألا ترى إلى قول الخنساء :

ولولا كثرة الباكين حولي *** على إخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن *** أعزي النفس عنه بالتأسي

فهذا التأسي قد كفاها مؤنة قتل النفس ، فنفى الله عنهم الانتفاع بالتأسي ؛ وفي ذلك تعذيب لهم ويأس من كل خير ؛ وهذا لا يكون إلا على تقدير أن يكون الفاعل ينفعكم أنكم ومعمولاها ، أي ولن ينفعكم اشتراككم في العذاب إن لن يخفف عنكم اشتراككم في العذاب .

وإذا كان الفاعل غير أن وهو ضمير يعود على ما يفهم من الكلام قبله ، أي يتمنى مباعدة القرين والتبرؤ منه ، ويكون أنكم تعليلاً ، أي لاشتراككم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه ، وهو الكفر .

وقال مقاتل المعنى : ولن ينفعكم اليوم الاعتذار والندم ، لأنكم وقرناءكم مشتركون في العذاب ، كما اشتركتم في الكفران في الدنيا .

وعلى كون الفاعل غير أن ، وهي قراءة الجمهور ، لا يتضمن الكلام نفي التأسي .

وقرئ : إنكم بالكسر ، فدل على إضمار الفاعل ، ويقويه حمل أنكم بالفتح على التعليل .

واليوم وإذ ظرفان ، فاليوم ظرف حال ، وإذ ظرف ماض .

أما ظرف الحال فقد يعمل فيه المستقبل لقربه منه ، أو لتجوز في المستقبل ، كقوله : { فمن يستمع الآن } وقول الشاعر :

سأشقى الآن إذ بلغت مناها . . .

وأما إذ فماض لا يعمل فيه المستقبل ، فقال الزمخشري : وإذ بدل من اليوم . انتهى .

وحمل إذ ظلمتم على معنى إذ تبين ووضح ظلمكم ، ولم يبق لأحد ولا لكم شبهة في أنكم كنتم ظالمين ، ونظيره :

إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة *** أي تبين أني ولد كريمة . انتهى .

ولا يجوز فيه البدل على بقاء إذ على موضوعها من كونها ظرفاً لما مضى من الزمان .

فإن جعلت لمطلق الوقت جاز ، وتخريجها على البدل ، أخذه الزمخشري من ابن جني .

قال في مساءلته أبا علي : راجعته فيها مراراً ، وآخر ما حصل منه أن الدنيا والآخرة متصلتان ، وهما سواء في حكم الله وعلمه ، فيكون إذ بدلاً من اليوم ، حتى كأنها مستقبلة ، أو كأن اليوم ماض .

وقيل : التقدير بعد إذ ظلمتم ، فحذف المضاف للعلم به .

وقيل : إذ للتعليل حرفاً بمعنى إن .

وقال الحوفي : اليوم ظرف متعلق بينفعكم ، ولا يجوز تعلق إذ به ، لأنهما ظرفا زمان ، يعني متغايرين في المعنى تغايراً لا يمكن أن يجتمعا ، قال : فلا يصح أن يكون بدلاً من الأخير ، يعني لذلك التغاير من كون هذا ظرف حال وهذا ظرف مضى .

قال : ولكن تكون إذ متعلقة بما دل عليه المعنى ، كأنه قال : ولن ينفعكم اجتماعكم ، ثم قال : وفاعل ينفعكم الاشتراك .

وقيل : الفاعل محذوف تقديره ظلمكم ، أو جحدكم ، وهو العامل في إذ ، لا ضمير الفاعل لما ذكر تعالى حال الكفار وما يقال لهم .

وكانت قريش تسمع ذلك ، فلا تزداد إلا عتواً واعتراضاً ، وكان هو صلى الله عليه وسلم ، يجتهد في تحصيل الإيمان لهم .