الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَن يَنفَعَكُمُ ٱلۡيَوۡمَ إِذ ظَّلَمۡتُمۡ أَنَّكُمۡ فِي ٱلۡعَذَابِ مُشۡتَرِكُونَ} (39)

قوله : { وَلَن يَنفَعَكُمُ } : في فاعلِه قولان ، أحدهما : أنه ملفوظٌ به ، وهو " أنَّكم " وما في حَيِّزِها . التقدير : ولن يَنْفَعَكم اشتراكُكم في العذاب بالتأسِّي ، كما يَنْفَعُ الاشتراكُ في مصائب الدنيا فيتأسَّى المُصاب بمثلِه . ومنه قولُ الخنساء :

3996 ولولا كَثْرَةُ الباكِيْنَ حَوْلي *** على إخوانِهم لقَتَلْتُ نَفْسي

وما يَبْكُون مثلَ أخي ولكنْ *** أُعَزِّي النفسَ عنه بالتأسِّي

والثاني : أنّه مضمرٌ . فقدَّره بعضُهم ضميرَ التمنِّي المدلولَ عليه بقوله : { يلَيْتَ بَيْنِي } أي : لن يَنْفَعكم تَمَنِّيْكم البُعْدَ . وبعضُهم : لن ينفَعَكم اجتماعُكم . وبعضُهم : ظُلْمُكم وجَحْدُكم . وعبارةُ مَنْ عَبَّر بأنَّ الفاعلَ محذوفٌ مقصودُه الإِضمارُ المذكورُ لا الحذفُ ؛ إذ الفاعلُ لا يُحْذَفُ إلاَّ في مواضعَ ليس هذا منها ، وعلى هذا الوجهِ يكونُ قوله : " أنَّكم " تعليلاً أي : لأنَّكم ، فحذفَ الخافضَ فجرى في مَحَلِّها الخلافُ : أهو نصبٌ أم جرٌّ ؟ ويؤيِّد إضمارَ الفاعلِ ، لا أنَّه هو " أنَّكم " ، قراءةُ " إنكم " بالكسرِ فإنَّه/ استئنافٌ مفيدٌ للتعليلِ .

قوله : " إذْ ظَلَمْتُمْ " قد استشكل المُعْرِبون هذه الآيةَ . ووجهُه : أنَّ قولَه " اليومَ " ظرفٌ حالِيٌّ ، و " إذ " ظرفٌ ماضٍ ، و " يَنْفَعَكم " مستقبلٌ ؛ لاقترانِه ب " لن " التي لنفي المستقبلِ . والظاهرُ أنه عاملٌ في الظرفَيْن ، وكيف يعملُ الحدثُ المستقبلُ الذي لم يقَعْ بعدُ في ظرفٍ حاضرٍ أو ماضٍ ؟ هذا ما لا يجوزُ . فأُجيب عن إعماله في الظرفِ الحاليِّ على سبيلِ قُرْبِه منه ؛ لأنَّ الحالَ قريبٌ من الاستقبالِ فيجوز في ذلك . قال تعالى :

{ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ } [ الجن : 9 ] وقال الشاعر :

3997 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** سَأَسْعَى الآنَ إذ بَلَغَتْ أَناها

وهو إقناعيٌّ ، وإلاَّ فالمستقبلُ يَسْتحيلُ وقوعُه في الحالِ عقلاً . وأمَّا قولُه : " إذ " ففيها للناسِ أوجهٌ كثيرةٌ . قال ابن جني : " راجَعْتُ أبا عليّ فيها مِراراً فآخرُ ما حَصَّلْت منه : أنَّ الدنيا والآخرةَ متصلتان ، وهما سواءٌ في حُكْم اللَّهِ تعالى وعِلْمِه ، ف " إذ " بدلٌ من " اليوم " حتى كأنَّه مستقبلٌ أو كأنَّ اليومَ ماضٍ . وإلى هذا نحا الزمخشريُّ قال : " وإذْ بدلٌ من اليوم " وحَمَلَه الزمخشريُّ على معنى : إذْ تبيَّن وصَحَّ ظُلْمُكم ، ولم يَبْقَ لأحدٍ ولا لكم شبهةٌ في أنَّكم كنتم ظالمين . ونظيرُه :

3998 إذا ما انْتَسَبْنا لم تَلِدْني لئيمةٌ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أي : تَبَيَّن أني وَلَدُ كريمةٍ " . وقال الشيخ : " ولا يجوزُ البدلُ ما دامت " إذ " على موضوعِها من المُضِيِّ ، فإنْ جُعِلَتْ لمطلقِ الزمانِ جاز " . قلت : لم يُعْهَدْ في " إذ " أنها تكونُ لمطلقِ الزمان ، بل هي موضوعةٌ لزمانٍ خاصٍ بالماضي كأَمْسِ . الثاني : أنَّ في الكلام حَذْفَ مضافٍ تقديرُه : بعد إذ ظَلَمْتُمْ .

الثالث : أنها للتعليلِ . وحينئذٍ تكونُ حرفاً للتعليلِ كاللام . الرابعُ : أنَّ العاملَ في " إذ " هو ذلك الفاعلُ المقدَّرُ لا ضميرُه . والتقدير : ولن ينفعَكم ظلمُكم أو جَحْدُكم إذ ظَلَمْتم . الخامس : أنَّ العاملَ في " إذ " ما دَلَّ عليه المعنى . كأنه قال : ولكن لن ينفعَكم اجتماعُكم إذ ظَلَمْتُمْ . قاله الحوفي ، ثم قال : " وفاعلُ " يَنْفَعَكم " الاشتراكُ " انتهى . فظاهرُ هذا متناقضٌ ؛ لأنَّه جَعَلَ الفاعلَ أولاً اجتماعَكم ، ثم جعلَه آخِراً الاشتراكَ . ومنع أَنْ تكونَ " إذ " بدلاً مِن اليوم لتغايُرِهما في الدلالة . وفي كتاب أبي البقاء " وقيل : إذْ بمعنى " أَنْ " أي : أَنْ ظَلَمْتُم " . ولم يُقَيِّدْها بكونِها أن بالفتح أو الكسر ، ولكن قال الشيخ : " وقيل : إذ للتعليلِ حرفاً بمعنى " أَنْ " يعني بالفتح ؛ وكأنَّه أراد ما ذكره أبو البقاءِ ، إلاَّ أنَّ تَسْمِيَتَه " أنْ " للتعليل مجازٌ ، فإنها على حَذْفِ حرفِ العلةِ أي : لأَنْ ، فلمصاحبتِها لها ، والاستغناءِ بها عنها سَمَّاها باسمِها . ولا ينبغي أَنْ يُعْتَقَدَ أنَّها في كتابِ أبي البقاء بالكسرِ على الشرطية ؛ لأنَّ معناه بعيدٌ .

وقُرِئ " إنكم " بالكسرِ على الاستئناف المفيدِ للعلةِ . وحينئذٍ يكونُ الفاعلُ مضمراً على أحدِ التقادير المذكورة .